[ ص: 95 ] بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا
محمد وآله وسلم
قال الشيخ الإمام العالم العلامة ، وحيد الدهر ، وفريد العصر ، جامع أشتات الفضائل ، وناصر الحق بالبرهان من الدلائل ،
أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي الشافعي ، بلغه الله منه ما يرجوه :
الحمد لله الذي نور بكتابه القلوب ، وأنزله في أوجز لفظ وأعجز أسلوب ، فأعيت بلاغته البلغاء ، وأعجزت حكمته الحكماء ، وأبكمت فصاحته الخطباء .
أحمده أن جعل الحمد فاتحة أسراره ، وخاتمة تصاريفه وأقداره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن
محمدا عبده ورسوله المصطفى ، ونبيه المرتضى ، الظافر من المحامد بالخصل ، الظاهر بفضله على ذوي الفضل ، معلم الحكمة ، وهادي الأمة ، أرسله بالنور الساطع ، والضياء اللامع ، صلى الله عليه وعلى آله الأبرار ، وصحبه الأخيار .
أما بعد : فإن أولى ما أعملت فيه القرائح ، وعلقت به الأفكار اللواقح ، الفحص عن أسرار التنزيل ، والكشف عن حقائق التأويل ، الذي تقوم به المعالم ، وتثبت الدعائم ، فهو
[ ص: 96 ] العصمة الواقية ، والنعمة الباقية ، والحجة البالغة ، والدلالة الدامغة ، وهو شفاء الصدور ، والحكم العدل عند مشتبهات الأمور ; وهو الكلام الجزل ، وهو الفصل الذي ليس بالهزل ، سراج لا يخبو ضياؤه ، وشهاب لا يخمد نوره وسناؤه ، وبحر لا يدرك غوره . بهرت بلاغته العقول ، وظهرت فصاحته على كل مقول ، وتظافر إيجازه وإعجازه ، وتظاهرت حقيقته ومجازه ، وتقارن في الحسن مطالعه ومقاطعه ، وحوت كل البيان جوامعه وبدائعه ، قد أحكم الحكيم صيغته ومبناه ، وقسم لفظه ومعناه ، إلى ما ينشط السامع ، ويقرط المسامع ، من تجنيس أنيس ، وتطبيق لبيق ، وتشبيه نبيه ، وتقسيم وسيم ، وتفصيل أصيل ، وتبليغ بليغ ، وتصدير بالحسن جدير ، وترديد ما له مزيد ; إلى غير ذلك مما احتوى من الصياغة البديعة ، والصناعة الرفيعة ، فالآذان بأقراطه حالية ، والأذهان من أسماطه غير خالية ; فهو من تناسب ألفاظه ، وتناسق أغراضه ، قلادة ذات اتساق ; ومن تبسم زهره ، وتنسم نشره ، حديقة مبهجة للنفوس والأسماع والأحداق ; كل كلمة منه لها من نفسها طرب ، ومن ذاتها عجب ، ومن طلعتها غرة ، ومن بهجتها درة ، لاحت عليه بهجة القدرة ، ونزل ممن له الأمر ، فله على كل كلام سلطان وإمرة ، بهر تمكن فواصله ، وحسن ارتباط أواخره بأوائله ، وبديع إشاراته ، وعجيب انتقالاته ; من قصص
باهرة ، إلى مواعظ زاجرة ،
[ ص: 97 ] وأمثال سائرة ، وحكم زاهرة ، وأدلة على التوحيد ظاهرة ، وأمثال بالتنزيه والتحميد سائرة ، ومواقع تعجب واعتبار ، ومواطن تنزيه واستغفار ; إن كان سياق الكلام ترجية بسط ، وإن كان تخويفا قبض ، وإن كان وعدا أبهج ، وإن كان وعيدا أزعج ، وإن كان دعوة حدب ، وإن كان زجرة أرعب ، وإن كان موعظة أقلق ، وإن كان ترغيبا شوق .
هذا ، وكم فيه من مزايا وفي زواياه من خبايا ويطمع الحبر في التقاضي
فيكشف الخبر عن قضايا
فسبحان من سلكه ينابيع في القلوب ، وصرفه بأبدع معنى وأغرب أسلوب ، لا يستقصي معانيه فهم الخلق ، ولا يحيط بوصفه على الإطلاق ذو اللسان الطلق ، فالسعيد من صرف همته إليه ، ووقف فكره وعزمه عليه ، والموفق من وفقه الله لتدبره ، واصطفاه للتذكير به وتذكره ، فهو يرتع منه في رياض ، ويكرع منه في حياض .
أندى على الأكباد من قطر الندى وألذ في الأجفان من سنة الكرى
يملأ القلوب بشرا ، ويبعث القرائح عبيرا ونشرا ، يحيي القلوب بأوراده ، ولهذا سماه الله روحا ; فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=15يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ) ( غافر : 15 ) ; فسماه روحا لأنه يؤدي إلى حياة الأبد ، ولولا الروح لمات الجسد ، فجعل هذا الروح سببا للاقتدار ، وعلما على الاعتبار .
يزيد على طول التأمل بهجة كأن العيون الناظرات صياقل
وإنما يفهم بعض معانيه ، ويطلع على أسراره ومبانيه ; من قوي نظره ، واتسع مجاله في الفكر وتدبره ; وامتد باعه ; ورقت طباعه ، وامتد في فنون الأدب ، وأحاط بلغة العرب .
[ ص: 98 ] قال
الحرالي
في جزء سماه : " مفتاح الباب المقفل ، لفهم القرآن المنزل " : " لله تعالى مواهب ، جعلها أصولا للمكاسب ، فمن وهبه عقلا يسر عليه السبيل ، ومن ركب فيه خرقا نقص ضبطه من التحصيل ، ومن أيده بتقوى الاستناد إليه في جميع أموره علمه وفهمه " . قال : "
nindex.php?page=treesubj&link=32103وأكمل العلماء من وهبه الله تعالى فهما في كلامه ، ووعيا عن كتابه ، وتبصرة في الفرقان ، وإحاطة بما شاء من علوم القرآن ، ففيه تمام شهود ما كتب الله لمخلوقاته من ذكره الحكيم ; بما يزيل بكريم عنايته من خطأ اللاعبين ; إذ فيه كل العلوم .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي - رضي الله عنه - : " جميع ما تقوله الأمة شرح للسنة ، وجميع السنة شرح للقرآن ، وجميع القرآن شرح أسماء الله الحسنى ، وصفاته العليا - زاد غيره : وجميع الأسماء الحسنى شرح لاسمه الأعظم - وكما أنه أفضل من كل كلام سواه ، فعلومه أفضل من كل علم عداه ; قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=19أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى ) ( الرعد : 19 ) ، وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=269يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) ( البقرة : 269 ) ، وقال
مجاهد : الفهم والإصابة في القرآن . وقال مقاتل : يعني علم القرآن .
[ ص: 99 ] وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16008سفيان بن عيينة في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=146nindex.php?page=treesubj&link=28978سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ) ( الأعراف : 146 ) ، قال : أحرمهم
nindex.php?page=treesubj&link=32103فهم القرآن .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16004سفيان الثوري : لا يجتمع فهم القرآن والاشتغال بالحطام في قلب مؤمن أبدا .
وقال
عبد العزيز بن يحيى الكناني : " مثل علم القرآن مثل الأسد لا يمكن من غلته سواه " .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=15874ذو النون المصري : " أبى الله - عز وجل - أن يكرم قلوب البطالين مكنون حكمة القرآن " .
وقال - عز وجل - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=38ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ( الأنعام : 38 ) . وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=82أفلا يتدبرون القرآن ) ، ( النساء : 82 ) .
[ ص: 100 ] وقال
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود في قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=6اهدنا الصراط المستقيم ) ( الفاتحة : 6 )
قال : " القرآن " يقول : أرشدنا إلى علمه .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري : علم القرآن ذكر لا يعلمه إلا الذكور من الرجال " .
وقال الله - جل ذكره - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=59فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) . ( النساء : 59 ) ، وقال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=10وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) ( الشورى : 10 ) ; يقول : إلى كتاب الله " .
وكل علم من العلوم منتزع من القرآن ، وإلا فليس له برهان . قال
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : " من أراد العلم فليثور القرآن ، فإن فيه علم الأولين والآخرين " رواه
البيهقي في " المدخل " وقال : " أراد به أصول العلم " .
وقد
nindex.php?page=treesubj&link=32094كانت الصحابة - رضي الله عنهم - علماء ; كل منهم مخصوص بنوع من العلم كعلي - رضي الله تعالى عنه - بالقضاء ،
وزيد بالفرائض ،
ومعاذ بالحلال والحرام ،
وأبي بالقراءة ،
[ ص: 101 ] فلم يسم أحد منهم بحرا إلا
nindex.php?page=showalam&ids=11nindex.php?page=treesubj&link=31465عبد الله بن عباس لاختصاصه دونهم بالتفسير وعلم التأويل ; وقال فيه
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب : " كأنما ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق " . وقال فيه
nindex.php?page=showalam&ids=10عبد الله بن مسعود : " نعم ترجمان القرآن
nindex.php?page=showalam&ids=11عبد الله بن عباس " ; وقد مات
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود في سنة ثنتين وثلاثين ; وعمر بعده
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ستا وثلاثين سنة ; فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ! نعم ; كان
لعلي فيه اليد السابقة قبل
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ; وهو القائل : " لو أردت أن أملي وقر بعير على الفاتحة لفعلت " .
وقال
ابن عطية : " فأما
nindex.php?page=treesubj&link=31295صدر المفسرين والمؤيد فيهم nindex.php?page=showalam&ids=8فعلي بن أبي طالب ، ويتلوه
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس - رضي الله عنهما - ; وهو تجرد للأمر وكمله ، وتتبعه العلماء عليه ;
كمجاهد nindex.php?page=showalam&ids=15992وسعيد بن جبير وغيرهما . وكان جلة من السلف
nindex.php?page=showalam&ids=15990كسعيد بن المسيب nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي وغيرهما ، يعظمون تفسير القرآن ، ويتوقفون عنه تورعا واحتياطا لأنفسهم ، مع إدراكهم وتقدمهم " ، ثم جاء بعدهم طبقة فطبقة ، فجدوا واجتهدوا ، وكل ينفق مما رزقه الله ; ولهذا
[ ص: 102 ] كان
nindex.php?page=showalam&ids=16065سهل بن عبد الله - رضي الله عنه - يقول : " لو أعطي العبد بكل حرف من القرآن ألف فهم لم يبلغ نهاية ما أودعه الله في آية من كتابه ; لأنه كلام الله ، وكلامه صفته . وكما أنه ليس لله نهاية ، فكذلك لا نهاية لفهم كلامه ; وإنما يفهم كل مقدار ما يفتح الله عليه . وكلام الله غير مخلوق ، ولا تبلغ إلى نهاية فهمه فهوم محدثة مخلوقة " .
ولما كانت علوم القرآن لا تنحصر ، ومعانيه لا تستقصى ، وجبت العناية بالقدر الممكن . ومما فات المتقدمين وضع كتاب يشتمل على أنواع علومه ، كما وضع الناس ذلك بالنسبة إلى علم الحديث ، فاستخرت الله تعالى - وله الحمد - في وضع كتاب في ذلك جامع لما تكلم الناس في فنونه ، وخاضوا في نكته وعيونه ، وضمنته من المعاني الأنيقة ، والحكم الرشيقة ، ما يهز القلوب طربا ، ويبهر العقول عجبا ; ليكون مفتاحا لأبوابه ، وعنوانا على كتابه : معينا للمفسر على حقائقه ، ومطلعا على بعض أسراره ودقائقه ; والله المخلص والمعين ، وعليه أتوكل ، وبه أستعين ، وسميته : " البرهان في علوم القرآن " . وهذه فهرست أنواعه :
الأول : معرفة سبب النزول .
الثاني : معرفة المناسبات بين الآيات .
الثالث : معرفة الفواصل .
الرابع : معرفة الوجوه والنظائر .
الخامس : علم المتشابه .
السادس : علم المبهمات .
السابع : في أسرار الفواتح .
[ ص: 103 ] الثامن : في خواتم السور .
التاسع : في معرفة المكي والمدني .
العاشر : معرفة أول ما نزل .
الحادي عشر : معرفة على كم لغة نزل .
الثاني عشر : في كيفية إنزاله .
الثالث عشر : في بيان جمعه ومن حفظه من الصحابة .
الرابع عشر : معرفة تقسيمه .
الخامس عشر : معرفة أسمائه .
السادس عشر : معرفة ما وقع فيه من غير لغة الحجاز .
السابع عشر : معرفة ما فيه من غير لغة العرب .
الثامن عشر : معرفة غريبه .
التاسع عشر : معرفة التصريف .
العشرون : معرفة الأحكام .
الحادي والعشرون : معرفة كون اللفظ أو التركيب أحسن وأفصح .
الثاني والعشرون : معرفة اختلاف الألفاظ بزيادة أو نقص .
الثالث والعشرون : معرفة توجيه القراءات .
الرابع والعشرون : معرفة الوقف والابتداء .
الخامس والعشرون : علم مرسوم الخط .
السادس والعشرون : معرفة فضائله .
السابع والعشرون : معرفة خواصه .
الثامن والعشرون : هل في القرآن شيء أفضل من شيء .
التاسع والعشرون : في آداب تلاوته .
الثلاثون : في أنه هل يجوز في التصانيف والرسائل والخطب استعمال بعض آيات القرآن .
الحادي والثلاثون : معرفة الأمثال الكائنة فيه .
الثاني والثلاثون : معرفة أحكامه .
[ ص: 104 ] الثالث والثلاثون : في معرفة جدله .
الرابع والثلاثون : معرفة ناسخه ومنسوخه .
الخامس والثلاثون : معرفة موهم المختلف .
السادس والثلاثون : في معرفة المحكم من المتشابه .
السابع والثلاثون : في حكم الآيات المتشابهات الواردة في الصفات .
الثامن والثلاثون : معرفة إعجازه .
التاسع والثلاثون : معرفة وجوب تواتره .
الأربعون : في بيان معاضدة السنة للكتاب .
الحادي والأربعون : معرفة تفسيره .
الثاني والأربعون : معرفة وجوب المخاطبات .
الثالث والأربعون : بيان حقيقته ومجازه .
الرابع والأربعون : في الكناية والتعريض .
الخامس والأربعون : في أقسام معنى الكلام .
السادس والأربعون : في ذكر ما يتيسر من أساليب القرآن .
السابع والأربعون : في معرفة الأدوات .
واعلم أنه ما من نوع من هذه الأنواع إلا ولو أراد الإنسان استقصاءه ، لاستفرغ عمره ، ثم لم يحكم أمره ; ولكن اقتصرنا من كل نوع على أصوله ، والرمز إلى بعض فصوله ; فإن الصناعة طويلة والعمر قصير ; وماذا عسى أن يبلغ لسان التقصير !
قالوا خذ العين من كل فقلت لهم في العين فضل ولكن ناظر العين
[ ص: 95 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا
مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ ، وَحِيدُ الدَّهْرِ ، وَفَرِيدُ الْعَصْرِ ، جَامِعُ أَشْتَاتِ الْفَضَائِلِ ، وَنَاصِرُ الْحَقِّ بِالْبُرْهَانِ مِنَ الدَّلَائِلِ ،
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بَدْرُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزَّرْكَشِيُّ الشَّافِعِيُّ ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مِنْهُ مَا يَرْجُوهُ :
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَوَّرَ بِكِتَابِهِ الْقُلُوبَ ، وَأَنْزَلَهُ فِي أَوْجَزِ لَفْظٍ وَأَعْجَزِ أُسْلُوبٍ ، فَأَعْيَتْ بَلَاغَتُهُ الْبُلَغَاءَ ، وَأَعْجَزَتْ حِكْمَتُهُ الْحُكَمَاءَ ، وَأَبْكَمَتْ فَصَاحَتُهُ الْخُطَبَاءَ .
أَحْمَدُهُ أَنْ جَعَلَ الْحَمْدَ فَاتِحَةَ أَسْرَارِهِ ، وَخَاتِمَةَ تَصَارِيفِهِ وَأَقْدَارِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمُصْطَفَى ، وَنَبِيُّهُ الْمُرْتَضَى ، الظَّافِرُ مِنَ الْمَحَامِدِ بِالْخَصْلِ ، الظَّاهِرُ بِفَضْلِهِ عَلَى ذَوِي الْفَضْلِ ، مُعَلِّمُ الْحِكْمَةِ ، وَهَادِي الْأُمَّةِ ، أَرْسَلَهُ بِالنُّورِ السَّاطِعِ ، وَالضِّيَاءِ اللَّامِعِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الْأَبْرَارِ ، وَصَحْبِهِ الْأَخْيَارِ .
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ أَوْلَى مَا أُعْمِلَتْ فِيهِ الْقَرَائِحُ ، وَعَلِقَتْ بِهِ الْأَفْكَارُ اللَّوَاقِحُ ، الْفَحْصُ عَنْ أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ ، وَالْكَشْفُ عَنْ حَقَائِقِ التَّأْوِيلِ ، الَّذِي تَقُومُ بِهِ الْمَعَالِمُ ، وَتَثْبُتُ الدَّعَائِمُ ، فَهُوَ
[ ص: 96 ] الْعِصْمَةُ الْوَاقِيَةُ ، وَالنِّعْمَةُ الْبَاقِيَةُ ، وَالْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ ، وَالدَّلَالَةُ الدَّامِغَةُ ، وَهُوَ شِفَاءُ الصُّدُورِ ، وَالْحَكَمُ الْعَدْلُ عِنْدَ مُشْتَبِهَاتِ الْأُمُورِ ; وَهُوَ الْكَلَامُ الْجَزْلُ ، وَهُوَ الْفَصْلُ الَّذِي لَيْسَ بِالْهَزْلِ ، سِرَاجٌ لَا يَخْبُو ضِيَاؤُهُ ، وَشِهَابٌ لَا يَخْمَدُ نُورُهُ وَسَنَاؤُهُ ، وَبَحْرٌ لَا يُدْرَكُ غَوْرُهُ . بَهَرَتْ بَلَاغَتُهُ الْعُقُولَ ، وَظَهَرَتْ فَصَاحَتُهُ عَلَى كُلِّ مَقُولٍ ، وَتَظَافَرَ إِيجَازُهُ وَإِعْجَازُهُ ، وَتَظَاهَرَتْ حَقِيقَتُهُ وَمَجَازُهُ ، وَتَقَارَنَ فِي الْحُسْنِ مَطَالِعُهُ وَمَقَاطِعُهُ ، وَحَوَتْ كُلَّ الْبَيَانِ جَوَامِعُهُ وَبَدَائِعُهُ ، قَدْ أَحْكَمَ الْحَكِيمُ صِيغَتَهُ وَمَبْنَاهُ ، وَقَسَّمَ لَفْظَهُ وَمَعْنَاهُ ، إِلَى مَا يُنَشِّطُ السَّامِعَ ، وَيُقَرِّطُ الْمَسَامِعَ ، مِنْ تَجْنِيسٍ أَنِيسٍ ، وَتَطْبِيقٍ لَبِيقٍ ، وَتَشْبِيهٍ نَبِيهٍ ، وَتَقْسِيمٍ وَسِيمٍ ، وَتَفْصِيلٍ أَصِيلٍ ، وَتَبْلِيغٍ بَلِيغٍ ، وَتَصْدِيرٍ بِالْحُسْنِ جَدِيرٍ ، وَتَرْدِيدٍ مَا لَهُ مَزِيدٌ ; إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا احْتَوَى مِنَ الصِّيَاغَةِ الْبَدِيعَةِ ، وَالصِّنَاعَةِ الرَّفِيعَةِ ، فَالْآذَانُ بِأَقْرَاطِهِ حَالِيَةٌ ، وَالْأَذْهَانُ مِنْ أَسْمَاطِهِ غَيْرُ خَالِيَةٍ ; فَهُوَ مِنْ تُنَاسُبِ أَلْفَاظِهِ ، وَتَنَاسُقِ أَغْرَاضِهِ ، قِلَادَةٌ ذَاتُ اتِّسَاقٍ ; وَمِنْ تَبَسُّمِ زَهْرِهِ ، وَتَنَسُّمِ نَشْرِهِ ، حَدِيقَةٌ مُبْهِجَةٌ لِلنُّفُوسِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَحْدَاقِ ; كُلُّ كَلِمَةٍ مِنْهُ لَهَا مِنْ نَفْسِهَا طَرَبٌ ، وَمِنْ ذَاتِهَا عَجَبٌ ، وَمِنْ طَلْعَتِهَا غُرَّةٌ ، وَمِنْ بَهْجَتِهَا دُرَّةٌ ، لَاحَتْ عَلَيْهِ بَهْجَةُ الْقُدْرَةِ ، وَنَزَلَ مِمَّنْ لَهُ الْأَمْرُ ، فَلَهُ عَلَى كُلِّ كَلَامٍ سُلْطَانٌ وَإِمْرَةٌ ، بَهَرَ تَمَكُّنُ فَوَاصِلِهِ ، وَحُسْنُ ارْتِبَاطِ أَوَاخِرِهِ بِأَوَائِلِهِ ، وَبَدِيعُ إِشَارَاتِهِ ، وَعَجِيبُ انْتِقَالَاتِهِ ; مِنْ قِصَصٍ
بَاهِرَةٍ ، إِلَى مَوَاعِظَ زَاجِرَةٍ ،
[ ص: 97 ] وَأَمْثَالٍ سَائِرَةٍ ، وَحِكَمٍ زَاهِرَةٍ ، وَأَدِلَّةٍ عَلَى التَّوْحِيدِ ظَاهِرَةٍ ، وَأَمْثَالٍ بِالتَّنْزِيهِ وَالتَّحْمِيدِ سَائِرَةٍ ، وَمَوَاقِعِ تَعَجُّبٍ وَاعْتِبَارٍ ، وَمَوَاطِنِ تَنْزِيهٍ وَاسْتِغْفَارٍ ; إِنْ كَانَ سِيَاقُ الْكَلَامِ تَرْجِيَةً بَسَطَ ، وَإِنْ كَانَ تَخْوِيفًا قَبَضَ ، وَإِنْ كَانَ وَعْدًا أَبْهَجَ ، وَإِنْ كَانَ وَعِيدًا أَزْعَجَ ، وَإِنْ كَانَ دَعْوَةً حَدَبَ ، وَإِنْ كَانَ زَجْرَةً أَرْعَبَ ، وَإِنْ كَانَ مَوْعِظَةً أَقْلَقَ ، وَإِنْ كَانَ تَرْغِيبًا شَوَّقَ .
هَذَا ، وَكَمْ فِيهِ مِنْ مَزَايَا وَفِي زَوَايَاهُ مِنْ خَبَايَا وَيُطْمِعُ الْحَبْرَ فِي التَّقَاضِي
فَيَكْشِفُ الْخَبَرَ عَنْ قَضَايَا
فَسُبْحَانَ مَنْ سَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْقُلُوبِ ، وَصَرَّفَهُ بِأَبْدَعِ مَعْنًى وَأَغْرَبِ أُسْلُوبٍ ، لَا يَسْتَقْصِي مَعَانِيَهُ فَهْمُ الْخَلْقِ ، وَلَا يُحِيطُ بِوَصْفِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ذُو اللِّسَانِ الطَّلْقِ ، فَالسَّعِيدُ مَنْ صَرَفَ هِمَّتَهُ إِلَيْهِ ، وَوَقَفَ فِكْرَهُ وَعَزْمَهُ عَلَيْهِ ، وَالْمُوَفَّقُ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِتَدَبُّرِهِ ، وَاصْطَفَاهُ لِلتَّذْكِيرِ بِهِ وَتَذَكُّرِهِ ، فَهُوَ يَرْتَعُ مِنْهُ فِي رِيَاضٍ ، وَيَكْرَعُ مِنْهُ فِي حِيَاضٍ .
أَنْدَى عَلَى الْأَكْبَادِ مِنْ قَطْرِ النَّدَى وَأَلَذُّ فِي الْأَجْفَانِ مِنْ سِنَةِ الْكَرَى
يَمْلَأُ الْقُلُوبَ بِشْرًا ، وَيَبْعَثُ الْقَرَائِحَ عَبِيرًا وَنَشْرًا ، يُحْيِي الْقُلُوبَ بِأَوْرَادِهِ ، وَلِهَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ رُوحًا ; فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=15يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) ( غَافِرٍ : 15 ) ; فَسَمَّاهُ رُوحًا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى حَيَاةِ الْأَبَدِ ، وَلَوْلَا الرُّوحُ لَمَاتَ الْجَسَدُ ، فَجَعَلَ هَذَا الرُّوحَ سَبَبًا لِلِاقْتِدَارِ ، وَعَلَمًا عَلَى الِاعْتِبَارِ .
يَزِيدُ عَلَى طُولِ التَّأَمُّلِ بَهْجَةً كَأَنَّ الْعُيُونَ النَّاظِرَاتِ صَيَاقِلُ
وَإِنَّمَا يَفْهَمُ بَعْضَ مَعَانِيهِ ، وَيَطَّلِعُ عَلَى أَسْرَارِهِ وَمَبَانِيهِ ; مَنْ قَوِيَ نَظَرُهُ ، وَاتَّسَعَ مَجَالُهُ فِي الْفِكْرِ وَتَدَبَّرَهُ ; وَامْتَدَّ بَاعُهُ ; وَرَقَّتْ طِبَاعُهُ ، وَامْتَدَّ فِي فُنُونِ الْأَدَبِ ، وَأَحَاطَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ .
[ ص: 98 ] قَالَ
الْحَرَالِّيُّ
فِي جُزْءٍ سَمَّاهُ : " مِفْتَاحَ الْبَابِ الْمُقْفَلِ ، لِفَهْمِ الْقُرْآنِ الْمُنَزَلِ " : " لِلَّهِ تَعَالَى مَوَاهِبُ ، جَعَلَهَا أُصُولًا لِلْمَكَاسِبِ ، فَمَنْ وَهَبَهُ عَقْلًا يَسَّرَ عَلَيْهِ السَّبِيلَ ، وَمَنْ رَكَّبَ فِيهِ خُرْقًا نَقَصَ ضَبْطُهُ مِنَ التَّحْصِيلِ ، وَمَنْ أَيَّدَهُ بِتَقْوَى الِاسْتِنَادِ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ عَلَّمَهُ وَفَهَّمَهُ " . قَالَ : "
nindex.php?page=treesubj&link=32103وَأَكْمَلُ الْعُلَمَاءِ مَنْ وَهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهْمًا فِي كَلَامِهِ ، وَوَعْيًا عَنْ كِتَابِهِ ، وَتَبْصِرَةً فِي الْفُرْقَانِ ، وَإِحَاطَةً بِمَا شَاءَ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ ، فَفِيهِ تَمَامُ شُهُودِ مَا كَتَبَ اللَّهُ لِمَخْلُوقَاتِهِ مِنْ ذِكْرِهِ الْحَكِيمِ ; بِمَا يُزِيلُ بِكَرِيمِ عِنَايَتِهِ مِنْ خَطَأِ اللَّاعِبِينَ ; إِذْ فِيهِ كُلُّ الْعُلُومِ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : " جَمِيعُ مَا تَقُولُهُ الْأُمَّةُ شَرْحٌ لِلسُّنَّةِ ، وَجَمِيعُ السُّنَّةِ شَرْحٌ لِلْقُرْآنِ ، وَجَمِيعُ الْقُرْآنِ شَرْحُ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى ، وَصِفَاتِهِ الْعُلْيَا - زَادَ غَيْرُهُ : وَجَمِيعُ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى شَرْحٌ لِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ - وَكَمَا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ كَلَامٍ سِوَاهُ ، فَعُلُومُهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ عِلْمٍ عَدَاهُ ; قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=19أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ) ( الرَّعْدِ : 19 ) ، وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=269يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ) ( الْبَقَرَةِ : 269 ) ، وَقَالَ
مُجَاهِدٌ : الْفَهْمُ وَالْإِصَابَةُ فِي الْقُرْآنِ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : يَعْنِي عِلْمَ الْقُرْآنِ .
[ ص: 99 ] وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16008سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=146nindex.php?page=treesubj&link=28978سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) ( الْأَعْرَافِ : 146 ) ، قَالَ : أَحْرِمُهُمْ
nindex.php?page=treesubj&link=32103فَهْمَ الْقُرْآنِ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16004سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : لَا يَجْتَمِعُ فَهْمُ الْقُرْآنِ وَالِاشْتِغَالُ بِالْحُطَامِ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ أَبَدًا .
وَقَالَ
عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ : " مَثَلُ عِلْمِ الْقُرْآنِ مَثَلُ الْأَسَدِ لَا يُمَكِّنُ مِنْ غِلَتِهِ سِوَاهُ " .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=15874ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ : " أَبَى اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يُكْرِمَ قُلُوبَ الْبَطَّالِينَ مَكْنُونَ حِكْمَةِ الْقُرْآنِ " .
وَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=38مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) ( الْأَنْعَامِ : 38 ) . وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=82أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) ، ( النِّسَاءِ : 82 ) .
[ ص: 100 ] وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=10عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=1&ayano=6اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ( الْفَاتِحَةِ : 6 )
قَالَ : " الْقُرْآنُ " يَقُولُ : أَرْشِدْنَا إِلَى عِلْمِهِ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14102الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : عِلْمُ الْقُرْآنِ ذِكْرٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الذَّكُورُ مِنَ الرِّجَالِ " .
وَقَالَ اللَّهُ - جَلَّ ذِكْرُهُ - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=59فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) . ( النِّسَاءِ : 59 ) ، وَقَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=10وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ) ( الشُّورَى : 10 ) ; يَقُولُ : إِلَى كِتَابِ اللَّهِ " .
وَكُلُّ عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ مُنْتَزَعٌ مِنَ الْقُرْآنِ ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ بُرْهَانٌ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنُ مَسْعُودٍ : " مَنْ أَرَادَ الْعِلْمَ فَلْيُثَوِّرِ الْقُرْآنَ ، فَإِنَّ فِيهِ عِلْمَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ " رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيُّ فِي " الْمَدْخَلِ " وَقَالَ : " أَرَادَ بِهِ أُصُولَ الْعِلْمِ " .
وَقَدْ
nindex.php?page=treesubj&link=32094كَانَتِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عُلَمَاءَ ; كُلٌّ مِنْهُمْ مَخْصُوصٌ بِنَوْعٍ مِنَ الْعِلْمِ كَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِالْقَضَاءِ ،
وَزَيْدٍ بِالْفَرَائِضِ ،
وَمُعَاذٍ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ،
وَأُبَيٍّ بِالْقِرَاءَةِ ،
[ ص: 101 ] فَلَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَحْرًا إِلَّا
nindex.php?page=showalam&ids=11nindex.php?page=treesubj&link=31465عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ لِاخْتِصَاصِهِ دُونَهُمْ بِالتَّفْسِيرِ وَعِلْمِ التَّأْوِيلِ ; وَقَالَ فِيهِ
nindex.php?page=showalam&ids=8عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : " كَأَنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى الْغَيْبِ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ رَقِيقٍ " . وَقَالَ فِيهِ
nindex.php?page=showalam&ids=10عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : " نِعْمَ تَرْجُمَانُ الْقُرْآنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ " ; وَقَدْ مَاتَ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنُ مَسْعُودٍ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ ; وَعُمِّرَ بَعْدَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً ; فَمَا ظَنُّكَ بِمَا كَسَبَهُ مِنَ الْعُلُومِ بَعْدَ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنِ مَسْعُودٍ ! نَعَمْ ; كَانَ
لِعَلِيٍّ فِيهِ الْيَدُ السَّابِقَةُ قَبْلَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ; وَهُوَ الْقَائِلُ : " لَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُمْلِيَ وِقْرَ بَعِيرٍ عَلَى الْفَاتِحَةِ لَفَعَلْتُ " .
وَقَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ : " فَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=31295صَدْرُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُؤَيَّدُ فِيهِمْ nindex.php?page=showalam&ids=8فَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَيَتْلُوهُ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ; وَهُوَ تَجَرَّدَ لِلْأَمْرِ وَكَمَّلَهُ ، وَتَتَبَّعَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ ;
كَمُجَاهِدٍ nindex.php?page=showalam&ids=15992وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِمَا . وَكَانَ جِلَّةٌ مِنَ السَّلَفِ
nindex.php?page=showalam&ids=15990كَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ nindex.php?page=showalam&ids=14577وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمَا ، يُعَظِّمُونَ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ ، وَيَتَوَقَّفُونَ عَنْهُ تَوَرُّعًا وَاحْتِيَاطًا لِأَنْفُسِهِمْ ، مَعَ إِدْرَاكِهِمْ وَتَقَدُّمِهِمْ " ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَهُمْ طَبَقَةٌ فَطَبَقَةٌ ، فَجَدُّوا وَاجْتَهَدُوا ، وَكُلٌّ يُنْفِقُ مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ ; وَلِهَذَا
[ ص: 102 ] كَانَ
nindex.php?page=showalam&ids=16065سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ : " لَوْ أُعْطِيَ الْعَبْدُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَلْفَ فَهْمٍ لَمْ يَبْلُغْ نِهَايَةَ مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِهِ ; لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ ، وَكَلَامُهُ صِفَتُهُ . وَكَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلَّهِ نِهَايَةٌ ، فَكَذَلِكَ لَا نِهَايَةَ لِفَهْمِ كَلَامِهِ ; وَإِنَّمَا يَفْهَمُ كُلٌّ مِقْدَارَ مَا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ . وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ، وَلَا تَبْلُغُ إِلَى نِهَايَةِ فَهْمِهِ فُهُومٌ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ " .
وَلَمَّا كَانَتْ عُلُومُ الْقُرْآنِ لَا تَنْحَصِرُ ، وَمَعَانِيهِ لَا تُسْتَقْصَى ، وَجَبَتِ الْعِنَايَةُ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ . وَمِمَّا فَاتَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَضْعُ كِتَابٍ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعِ عُلُومِهِ ، كَمَا وَضَعَ النَّاسُ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ الْحَدِيثِ ، فَاسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى - وَلَهُ الْحَمْدُ - فِي وَضْعِ كِتَابٍ فِي ذَلِكَ جَامِعٍ لَمَّا تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي فُنُونِهِ ، وَخَاضُوا فِي نُكَتِهِ وَعُيُونِهِ ، وَضَمَّنْتُهُ مِنَ الْمَعَانِي الْأَنِيقَةِ ، وَالْحِكَمِ الرَّشِيقَةِ ، مَا يَهُزُّ الْقُلُوبَ طَرَبًا ، وَيُبْهِرُ الْعُقُولَ عَجَبًا ; لِيَكُونَ مِفْتَاحًا لِأَبْوَابِهِ ، وَعُنْوَانًا عَلَى كِتَابِهِ : مُعِينًا لِلْمُفَسِّرِ عَلَى حَقَائِقِهِ ، وَمُطْلِعًا عَلَى بَعْضِ أَسْرَارِهِ وَدَقَائِقِهِ ; وَاللَّهُ الْمُخَلِّصُ وَالْمُعِينُ ، وَعَلَيْهِ أَتَوَكَّلُ ، وَبِهِ أَسْتَعِينُ ، وَسَمَّيْتُهُ : " الْبُرْهَانَ فِي عُلُومِ الْقُرْآنِ " . وَهَذِهِ فِهْرِسْتُ أَنْوَاعِهِ :
الْأَوَّلُ : مَعْرِفَةُ سَبَبِ النُّزُولِ .
الثَّانِي : مَعْرِفَةُ الْمُنَاسَبَاتِ بَيْنَ الْآيَاتِ .
الثَّالِثُ : مَعْرِفَةُ الْفَوَاصِلِ .
الرَّابِعُ : مَعْرِفَةُ الْوُجُوهِ وَالنَّظَائِرِ .
الْخَامِسُ : عِلْمُ الْمُتَشَابِهِ .
السَّادِسُ : عِلْمُ الْمُبْهَمَاتِ .
السَّابِعُ : فِي أَسْرَارِ الْفَوَاتِحِ .
[ ص: 103 ] الثَّامِنُ : فِي خَوَاتِمِ السُّوَرِ .
التَّاسِعُ : فِي مَعْرِفَةِ الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ .
الْعَاشِرُ : مَعْرِفَةُ أَوَّلِ مَا نَزَلَ .
الْحَادِيَ عَشَرَ : مَعْرِفَةُ عَلَى كَمْ لُغَةٍ نَزَلَ .
الثَّانِيَ عَشَرَ : فِي كَيْفِيَّةِ إِنْزَالِهِ .
الثَّالِثَ عَشَرَ : فِي بَيَانِ جَمْعِهِ وَمَنْ حَفِظَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ .
الرَّابِعَ عَشَرَ : مَعْرِفَةُ تَقْسِيمِهِ .
الْخَامِسَ عَشَرَ : مَعْرِفَةُ أَسْمَائِهِ .
السَّادِسَ عَشَرَ : مَعْرِفَةُ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ لُغَةِ الْحِجَازِ .
السَّابِعَ عَشَرَ : مَعْرِفَةُ مَا فِيهِ مِنْ غَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ .
الثَّامِنَ عَشَرَ : مَعْرِفَةُ غَرِيبِهِ .
التَّاسِعَ عَشَرَ : مَعْرِفَةُ التَّصْرِيفِ .
الْعِشْرُونَ : مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ .
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : مَعْرِفَةُ كَوْنِ اللَّفْظِ أَوِ التَّرْكِيبِ أَحْسَنَ وَأَفْصَحَ .
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ : مَعْرِفَةُ اخْتِلَافِ الْأَلْفَاظِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ .
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ : مَعْرِفَةُ تَوْجِيهِ الْقِرَاءَاتِ .
الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : مَعْرِفَةُ الْوَقْفِ وَالِابْتِدَاءِ .
الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ : عِلْمُ مَرْسُومِ الْخَطِّ .
السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ : مَعْرِفَةُ فَضَائِلِهِ .
السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : مَعْرِفَةُ خَوَاصِّهِ .
الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ : هَلْ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ أَفْضَلُ مِنْ شَيْءٍ .
التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ : فِي آدَابِ تِلَاوَتِهِ .
الثَّلَاثُونَ : فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ فِي التَّصَانِيفِ وَالرَّسَائِلِ وَالْخُطَبِ اسْتِعْمَالُ بَعْضِ آيَاتِ الْقُرْآنِ .
الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ : مَعْرِفَةُ الْأَمْثَالِ الْكَائِنَةِ فِيهِ .
الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ : مَعْرِفَةُ أَحْكَامِهِ .
[ ص: 104 ] الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ : فِي مَعْرِفَةِ جَدَلِهِ .
الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ : مَعْرِفَةُ نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ .
الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ : مَعْرِفَةُ مُوهِمِ الْمُخْتَلِفِ .
السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ : فِي مَعْرِفَةِ الْمُحْكَمِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ .
السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ : فِي حُكْمِ الْآيَاتِ الْمُتَشَابِهَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الصِّفَاتِ .
الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ : مَعْرِفَةُ إِعْجَازِهِ .
التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ : مَعْرِفَةُ وُجُوبِ تَوَاتُرِهِ .
الْأَرْبَعُونَ : فِي بَيَانِ مُعَاضَدَةِ السُّنَّةِ لِلْكِتَابِ .
الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ : مَعْرِفَةُ تَفْسِيرِهِ .
الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ : مَعْرِفَةُ وُجُوبِ الْمُخَاطِبَاتِ .
الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ : بَيَانُ حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ .
الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ : فِي الْكِنَايَةِ وَالتَّعْرِيضِ .
الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ : فِي أَقْسَامِ مَعْنَى الْكَلَامِ .
السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ : فِي ذِكْرِ مَا يَتَيَسَّرُ مِنْ أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ .
السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ : فِي مَعْرِفَةِ الْأَدَوَاتِ .
وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَا مِنْ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ إِلَّا وَلَوْ أَرَادَ الْإِنْسَانُ اسْتِقْصَاءَهُ ، لَاسْتَفْرَغَ عُمُرَهُ ، ثُمَّ لَمْ يُحْكِمْ أَمْرَهُ ; وَلَكِنِ اقْتَصَرْنَا مِنْ كُلِّ نَوْعٍ عَلَى أُصُولِهِ ، وَالرَّمْزِ إِلَى بَعْضِ فُصُولِهِ ; فَإِنَّ الصِّنَاعَةَ طَوِيلَةٌ وَالْعُمُرَ قَصِيرٌ ; وَمَاذَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَ لِسَانُ التَّقْصِيرِ !
قَالُوا خُذِ الْعَيْنَ مِنْ كُلٍّ فَقُلْتُ لَهُمْ فِي الْعَيْنِ فَضْلٌ وَلَكِنْ نَاظِرُ الْعَيْنِ