وأما فإن الاختلاف المشار إليه في ذلك اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض ، فإن هذا محال أن يكون في كلام الله تعالى قال - تعالى - : حقيقة اختلاف هذه السبعة الأحرف المنصوص عليها من النبي - صلى الله عليه وسلم - وفائدته ، أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ، وقد تدبرنا اختلاف القراءات كلها فوجدناها لا تخلو من ثلاثة أحوال : ( أحدها ) اختلاف اللفظ والمعنى واحد ، ( الثاني ) اختلافهما جميعا مع جواز اجتماعهما في شيء واحد ، ( الثالث ) اختلافهما جميعا مع امتناع جواز اجتماعهما في شيء [ ص: 50 ] واحد ، بل يتفقان من وجه آخر لا يقتضي التضاد .
فأما الأول فكالاختلاف في ( الصراط و عليهم و يؤده و القدس و يحسب ) ونحو ذلك مما يطلق عليه أنه لغات فقط .
وأما الثاني فنحو ( مالك ، وملك ) في الفاتحة ; لأن المراد في القراءتين هو الله تعالى ; لأنه مالك يوم الدين وملكه وكذا ( يكذبون ، ويكذبون ) ; لأن المراد بهما هم المنافقون لأنهم يكذبون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ويكذبون في أخبارهم وكذا ( كيف ننشرها ) بالراء والزاي ; لأن المراد بهما هي العظام وذلك أن الله أنشرها أي : أحياها ، وأنشزها أي : رفع بعضها إلى بعض حتى التأمت فضمن الله تعالى المعنيين في القراءتين .
وأما الثالث فنحو ( وظنوا أنهم قد كذبوا ) بالتشديد والتخفيف ، وكذا ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) بفتح اللام ورفع الأخرى وبكسر الأولى وفتح الثانية ، وكذا ( للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ، وفتنوا ) بالتسمية والتجهيل ، وكذا قال : ( لقد علمت ) بضم التاء وفتحها ، وكذلك ما قرئ شاذا ( وهو يطعم ولا يطعم ) عكس القراءة المشهورة ، وكذلك ( يطعم ولا يطعم ) على التسمية فيهما ، فإن ذلك كله وإن اختلف لفظا ومعنى وامتنع اجتماعه في شيء واحد ، فإنه يجتمع من وجه آخر يمتنع فيه التضاد والتناقض . فأما وجه تشديد ( كذبوا ) فالمعنى وتيقن الرسل أن قومهم قد كذبوهم ، ووجه التخفيف : وتوهم المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروهم به ، فالظن في الأولى يقين ، والضمائر الثلاثة للرسل ، والظن في القراءة الثانية شك ، والضمائر الثلاثة للمرسل إليهم . وأما وجه فتح اللام الأولى ورفع الثانية من ( لتزول ) فهو أن يكون ( إن ) مخففة من الثقيلة ، أي : وإن مكرهم كان من الشدة بحيث تقتلع منه الجبال الراسيات من مواضعها ، وفي القراءة الثانية ( إن ) نافية ، أي : ما كان مكرهم وإن تعاظم وتفاقم ليزول منه أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - ودين الإسلام ، ففي الأولى تكون الجبال حقيقة وفي [ ص: 51 ] الثانية مجازا .
وأما وجه من بعد ما فتنوا على التجهيل فهو أن الضمير يعود للذين هاجروا ، وفي التسمية يعود إلى الخاسرون . وأما وجه ضم تاء ( علمت ) ، فإنه أسند العلم إلى موسى حديثا منه لفرعون حيث قال : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ، فقال موسى على نفسه : ( لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر ) ، فأخبر موسى - عليه السلام - عن نفسه بالعلم بذلك ، أي أن العالم ذلك ليس بمجنون ، وقراءة فتح التاء أنه أسند هذا العلم لفرعون مخاطبة من موسى له بذلك على وجه التقريع لشدة معاندته للحق بعد علمه ، وكذلك وجه قراءة الجماعة يطعم بالتسمية ، ولا يطعم على التجهيل أن الضمير في ( وهو ) يعود إلى الله تعالى ، أي : والله تعالى يرزق الخلق ولا يرزقه أحد ، والضمير في عكس هذه القراءة يعود إلى الولي ، أي : والولي المتخذ يرزق ولا يرزق أحدا ، والضمير في القراءة الثالثة إلى الله تعالى ، أي : والله يطعم من يشاء ولا يطعم من يشاء . فليس في شيء من القراءات تناف ولا تضاد ولا تناقض .
وكل ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك فقد وجب قبوله ، ولم يسع أحدا من الأمة رده ولزم الإيمان به ، وإن كله منزل من عند الله ، إذ كل قراءة منها مع الأخرى بمنزلة الآية مع الآية يجب الإيمان بها كلها واتباع ما تضمنته من المعنى علما وعملا ، ولا يجوز ترك موجب إحداهما لأجل الأخرى ظنا أن ذلك تعارض ، وإلى ذلك أشار - رضي الله عنه - بقوله : " لا تختلفوا في القرآن ولا تتنازعوا فيه ; فإنه لا يختلف ولا يتساقط ، ألا ترون أن شريعة الإسلام فيه واحدة ، حدودها وقراءتها وأمر الله فيها واحد ، ولو كان من الحرفين حرف يأمر بشيء ينهى عنه الآخر كان ذلك الاختلاف ، ولكنه جامع ذلك كله ، ومن قرأ على قراءة فلا يدعها رغبة عنها ، فإنه من كفر بحرف منه كفر به كله " . عبد الله بن مسعود
( قلت ) : وإلى ذلك أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : لأحد المختلفين : " أحسنت " ، وفي الحديث الآخر : " أصبت " ، وفي الآخر : " هكذا أنزلت " . فصوب [ ص: 52 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - قراءة كل من المختلفين ، وقطع بأنها كذلك أنزلت من عند الله ، وبهذا افترق اختلاف القراء من اختلاف الفقهاء ، فإن اختلاف القراء كل حق وصواب نزل من عند الله وهو كلامه لا شك فيه واختلاف الفقهاء اختلاف اجتهادي والحق في نفس الأمر فيه واحد ، فكل مذهب بالنسبة إلى الآخر صواب يحتمل الخطأ ، وكل قراءة بالنسبة إلى الأخرى حق وصواب في نفس الأمر نقطع بذلك ونؤمن به ، ونعتقد أن معنى إضافة كل حرف من حروف الاختلاف إلى من أضيف إليه من الصحابة وغيرهم ، إنما هو من حيث إنه كان أضبط له وأكثر قراءة وإقراء به ، وملازمة له ، وميلا إليه ، لا غير ذلك . وكذلك إضافة الحروف والقراءات إلى أئمة القراءة ورواتهم المراد بها أن ذلك القارئ وذلك الإمام اختار القراءة بذلك الوجه من اللغة حسبما قرأ به ، فآثره على غيره ، وداوم عليه ولزمه حتى اشتهر وعرف به ، وقصد فيه ، وأخذ عنه ; فلذلك أضيف إليه دون غيره من القراء ، وهذه الإضافة إضافة اختيار ودوام ولزوم لا إضافة اختراع ورأي واجتهاد .
وأما فائدة اختلاف القراءات وتنوعها ، فإن في ذلك فوائد غير ما قدمناه من سبب التهوين والتسهيل والتخفيف على الأمة .
ومنها ما في ذلك من نهاية البلاغة ، وكمال الإعجاز وغاية الاختصار ، وجمال الإيجاز ، إذ كل قراءة بمنزلة الآية ، إذ كان تنوع اللفظ بكلمة تقوم مقام آيات ، ولو جعلت دلالة كل لفظ آية على حدتها لم يخف ما كان في ذلك من التطويل .
ومنها ما في ذلك من عظيم البرهان وواضح الدلالة ، إذ هو مع كثرة هذا الاختلاف وتنوعه لم يتطرق إليه تضاد ولا تناقض ولا تخالف ، بل كله يصدق بعضه بعضا ، ويبين بعضه بعضا ، ويشهد بعضه لبعض على نمط واحد وأسلوب واحد ، وما ذلك إلا آية بالغة ، وبرهان قاطع على صدق من جاء به صلى الله عليه وسلم .
ومنه سهولة حفظه وتيسير نقله على هذه الأمة ، إذ هو على هذه الصفة من البلاغة [ ص: 53 ] والوجازة ، فإنه من يحفظ كلمة ذات أوجه أسهل عليه وأقرب إلى فهمه وأدعى لقبوله من حفظه جملا من الكلام تؤدي معاني تلك القراءات المختلفات ، لا سيما فيما كان خطه واحدا ، فإن ذلك أسهل حفظا وأيسر لفظا .
ومنها إعظام أجور هذه الأمة من حيث إنهم يفرغون جهدهم ليبلغوا قصدهم في تتبع معاني ذلك واستنباط الحكم والأحكام من دلالة كل لفظ ، واستخراج كمين أسراره وخفي إشاراته ، وإنعامهم النظر وإمعانهم الكشف عن التوجه والتعليل والترجيح ، والتفصيل بقدر ما يبلغ غاية علمهم ، ويصل إليه نهاية فهمهم فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ، والأجر على قدر المشقة .
ومنها بيان فضل هذه الأمة وشرفها على سائر الأمم ، من حيث تلقيهم كتاب ربهم هذا التلقي ، وإقبالهم عليه هذا الإقبال ، والبحث عن لفظة لفظة ، والكشف عن صيغة صيغة ، وبيان صوابه ، وبيان تصحيحه ، وإتقان تجويده ، حتى حموه من خلل التحريف ، وحفظوه من الطغيان والتطفيف ، فلم يهملوا تحريكا ولا تسكينا ، ولا تفخيما ولا ترقيقا ، حتى ضبطوا مقادير المدات وتفاوت الإمالات وميزوا بين الحروف بالصفات ، مما لم يهتد إليه فكر أمة من الأمم ، ولا يوصل إليه إلا بإلهام بارئ النسم .
ومنها ما ادخره الله من المنقبة العظيمة ، والنعمة الجليلة الجسيمة لهذه الأمة الشريفة ، من إسنادها كتاب ربها ، واتصال هذا السبب الإلهي بسببها خصيصة الله تعالى هذه الأمة المحمدية ، وإعظاما لقدر أهل هذه الملة الحنيفية ، وكل قارئ يوصل حروفه بالنقل إلى أصله ، ويرفع ارتياب الملحد قطعا بوصله ، فلو لم يكن من الفوائد إلا هذه الفائدة الجليلة لكفت ، ولو لم يكن من الخصائص إلا هذه الخصيصة النبيلة لوفت .
ومنها ظهور سر الله في توليه حفظ كتابه العزيز وصيانة كلامه المنزل [ ص: 54 ] بأوفى البيان والتمييز ، فإن الله تعالى لم يخل عصرا من الأعصار ، ولو في قطر من الأقطار ، من إمام حجة قائم بنقل كتاب الله تعالى وإتقان حروفه ورواياته ، وتصحيح وجوهه وقراءاته ، يكون وجوده سببا لوجود هذا السبب القويم على ممر الدهور ، وبقاؤه دليلا على بقاء القرآن العظيم في المصاحف والصدور .