ولنرجع إلى ما نحن فيه ; ولذا قيل في كل من لا سيما وقد استفسر جماعة ممن جرح أو عدل فذكروا ما لا يقتضي واحدا منهما ، كما تقرر في معرفة من تقبل روايته مع فوائد مهمة ، وأن المعتمد قبولهما من العارف بأسبابهما بدون تفسير ، في آخرين غير الجرح والتعديل : إنه لا يقبل إلا مفسرا ، من الحفاظ المتقدمين وغيرهم ، أورد [ ص: 363 ] النسائي في جامع العلم له عنهم أمورا كثيرة ، وحكم بأنه لا يلتفت إليها ، وحمل بعضها على أنها خرجت عن غضب ، وجرح من قالها أو نحو ذلك . ( فربما كان لجرح مخرج ) أي : مخلص صحيح يزول به ، ولكن ( غطى عليه السخط ) وحجب عنه الفكر ( حين يحرج ) بحاء مهملة ثم راء مفتوحة وجيم ، أن يضيق صدره بسبب ناله ; لأن الفلتات من الأنفس لا يدعى العصمة منها ; فإنه ربما حصل غضب لمن هو من أهل التقوى فبدرت منه بادرة لفظ فحبك الشيء يعمي ويصم ، لا أنهم مع جلالتهم ووفور ديانتهم تعمدوا القدح بما يعلمون بطلانه ، حاشاهم ، وكل تقي من ذلك . ابن عبد البر
ثم إن أكثر ما يكون هذا الداء في المتعاصرين ، وسببه غالبا مما هو في المتأخرين أكثر المنافسة في المراتب ، ولكن قد عقد في جامعه بابا لكلام الأقران المتعاصرين بعضهم في بعض ، ورأى أن ابن عبد البر ، فإن انضم لذلك عداوة فهو أولى بعدم القبول ، ولو كان سبب تلك العداوة الاختلاف في الاعتقاد ; فإن الحاذق إذا تأمل ثلب أهل العلم لا يقبل الجرح فيهم إلا ببيان واضح أبي إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأى العجب ; وذلك لشدة انحرافه في النصب وشهرة أهلها بالتشيع ، فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلق وعبارة طلقة ، حتى إنه أخذ يلين مثل الأعمش وأبي نعيم وأساطين الحديث وأركان الرواية ، فهذا إذا عارضه مثله أو أكثر منه فوثق رجلا ممن ضعفه هو قبل التوثيق ، ويلتحق به وعبيد الله بن موسى عبد الرحمن بن يوسف بن خراش المحدث الحافظ ; فإنه من غلاة الشيعة ، بل نسب إلى الرفض ، فيتأتى في جرحه لأهل الشام للعداوة البينة في الاعتقاد ، وكذا كان شيعيا ، فلا يستغرب منه أن يتعصب ابن عقدة لأهل الرفض ; ولذا كانت ; فإنها - كما قال المخالفة في العقائد أحد الأوجه الخمسة التي تدخل الآفة منها ابن دقيق العيد - أوجبت [ ص: 364 ] تكفير الناس بعضهم لبعض ، أو تبديعهم ، وأوجبت عصبية اعتقدوها دينا يتدينون ويتقربون به إلى الله تعالى ، ونشأ من ذلك الطعن بالتكفير أو التبديع ، قال : وهذا موجود كثيرا في الطبقة المتوسطة من المتقدمين ، بل قال شيخنا : إنه موجود كثيرا قديما وحديثا ، ولا ينبغي بذلك ، فقد قدمنا تحقيق الحال في العمل برواية المبتدعة ، وحكينا كلام إطلاق الجرح هناك آخر المسألة . الشافعي
ويلتحق بهذا مما جعله ابن دقيق العيد وجها مستقلا الاختلاف الواقع بين المتصوفة وأصحاب العلوم الظاهرة ، فقد وقع بينهم تنافر أوجب كلام بعضهم في بعض قال : وهذه غمرة لا يخلص منها إلا العالم الوافي بشواهد الشريعة ، ولا أحصر ذلك في العلم بالفروع المذهبية ، فإن كثيرا من أحوال المحققين من الصوفية لا يفي بتمييز حقه من باطله علم الفروع ، بل لابد مع ذلك من معرفة القواعد الأصولية ، والتمييز بين الواجب والجائز ، والمستحيل العقلي والمستحيل العادي ، فقد يكون المتميز في الفقه جاهلا بذلك ، حتى يعد المستحيل عادة مستحيلا عقلا ، وهذا المقام خطر شديد ; فإن ، وقد قال فيما أخبر عنه نبيه صلى الله عليه وسلم : ( القادح في المحق من الصوفية معاد لأولياء الله ) . من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة
مما يسمعه عن بعضهم تارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، عاص لله تعالى بذلك ، فإن لم ينكر بقلبه فقد دخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم : ( والتارك لإنكار الباطل ) . فإذا انضما - أعني الاختلاف بين وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل المتصوفة وأهل علم الظاهر والمخالفة في العقائد - مع الوجهين الماضيين ; وهما الجهل بمراتب العلوم والغرض والهوى ، وانضاف إليها عدم الورع والأخذ بالتوهم والقرائن التي قد تتخلف - كانت الأوجه الخمسة ، التي ذكر ابن دقيق العيد في [ ص: 365 ] ( الاقتراح ) أنها لا تدخل الآفة في هذا الباب منها ، وقال في خامسها : إن من فعل ذلك ، أي : فقد دخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم : ( أخذ بالتوهم والقرائن ) . قلت : لا سيما وقد جاء عن إياك والظن ; فإن الظن أكذب الحديث رضي الله عنه أن احمل أمر أخيك على أحسنه ، ولا تظنن بكلمة خرجت منه سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا . انتهى . عمر بن الخطاب
وهذا ضرر عظيم فيما ، فإن علمه يقتضي أن يجعل أهلا لسماع قوله وجرحه ، فيقع الخلل بسبب قلة ورعه وأخذه بالتوهم ، قال : ولقد رأيت رجلا لا يختلف أهل عصرنا في سماع قوله إن جرح ذكر له إنسان أنه سمع من شيخ ، فقال له : أين سمعت منه ؟ فقال : إذا كان الجارح معروفا بالعلم وكان قليل التقوى بمكة أو قريبا من هذا ، وقد كان جاء إلى مصر ، يعني في طريقه للحج ، فأنكر ذلك ، وقال : إنه كان صاحبي ولو جاء إلى مصر لاجتمع بي أو كما قال : فانظر إلى هذا التعليق بهذا الوهم البعيد والخيال الضعيف فيما أنكره ، وقد أشار المصنف إلى حاصلها ، وقال : إنه واضح جلي .