الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : بم يكون الدباغ

                                                                                                                                            فإذا تقرر أن جلد الميتة نجس وأنه بعد الدباغة طاهر انتقل الكلام فيه إلى ما تكون به الدباغة فقد جاء الخبر بالنص على الشث والقرظ فاختلف الفقهاء فيه فذهب أهل الظاهر [ ص: 63 ] إلى أن حكم الدباغة مقصور عليه ، وأنه لا يصح إلا به : لأن الدباغة رخصة فاقتضى أن يكون حكمها موقوفا على النص .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : المعنى في الشث والقرظ أنه منشف مجفف بكل شيء كان فيه تنشيف الجلد وتجفيفه جازت به الدباغة حتى بالشمس والنار ، وذهب الشافعي - رحمه الله - أن المعنى في الشث والقرظ أنه يحدث في الجلد أربعة أوصاف :

                                                                                                                                            أحدها : تنشيف فضوله الطاهرة ورطوبته الباطنة .

                                                                                                                                            والثاني : تطييب ريحه وإزالة ما ظهر عليه من سهوكة ونتن .

                                                                                                                                            والثالث : نقل اسمه من الإهاب إلى الأديم والسبت والدارش .

                                                                                                                                            والرابع : بقاؤه على هذه الأحوال بعد الاستعمال ، فكل شيء أثر في الجلد هذه الأوصاف الأربعة من العفص وقشور الرمان جازت به الدباغة ، لأنه في معنى الشث والقرظ وهذا صحيح من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لما أثر الشث والقرظ هذه الأوصاف الأربعة لم يكن اعتبار بعضها بالدباغة بأولى من بعض فصار جميعها معتبرا ولم يكن حكمها على الشث والقرظ مقصودا ؛ لأنها في غيرها موجودة .

                                                                                                                                            والثاني : أن الدباغة عرف في العرب ولم يكن في عرفهم مقصورا على الشث والقرظ ، كما قال أهل الظاهر لاختلاف عادتهم في البلاد ولا اقتصروا فيها على مجرد التجفيف بالشمس كما قال أبو حنيفة فصار كلا المذهبين مدفوعين بعرف الكافة ومعهود الجميع ، فثبت بهذا جواز الدباغة بما سوى الشث والقرظ إذا حدث في الجلد ما وصفنا من الأوصاف الأربعة ، واختلف أصحابنا هل يكون استعمال الماء شرطا فيها ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : ليس استعمال الماء شرطا فيها ويجري الاقتصار فيها على مذرورات الدباغة من الأشياء المنشقة ، فإذا دبغ الجلد طهر وجاز استعماله من غير غسل لقوله - عليه السلام - : " أوليس في الشث والقرظ ما يذهب رجسه ونجسه " فجعل مجرد الشث والقرظ مذهبا لرجسه ونجسه ولأن كل شيء يطهر بانقلابه ، فليس لطهارته إلا وجه واحد يطهر به كالخمر إذا انقلب خلا .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن استعمال الماء في الدباغة شرط في صحتها لرواية ميمونة [ ص: 64 ] قالت : مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من قريش يجرون شاة لهم مثل الحمار . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لو أخذتم إهابها فقالوا : إنها ميتة . فقال : يطهر الماء والقرظ " فأحال تطهيره على الماء والقرظ ، ولأن جلد الميتة أغلظ تنجيسا والماء أقوى تطهيرا ، فكان استعماله فيه أخص ، فعلى هذا في كيفية استعمال الماء وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه يستعمل في إناء الدباغة ليلين الجلد بالماء ، فيصل عمل الشث والقرظ إلى جميع أجزاء الجلد ، فيكون أبلغ في تنشيفها وتطهيرها ، فيصير دباغة الجلد وتطهيره بها جميعا معا .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه يستعمل الماء بعد الدباغة ليختص الشث والقرظ بدباغته ويختص الماء بتطهيره ، فيصير بعد الدباغة وقبل الغسل كالثوب النجس يطهر بالغسل .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية