الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فأما المأكول فيطهر جلده بالذكاة إجماعا ، وبالدباغة إن مات .

                                                                                                                                            وقال أحمد بن حنبل : جلد الميتة لا يطهر بالدباغة لعموم قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة [ المائدة : 3 ] . إشارة إلى حملها وإجرائها .

                                                                                                                                            وبرواية عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عبد الله بن عكيم قال : كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهرين : " أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب " . ولأن ما نجس بالموت لم يطهر بالدباغة كاللحم ، ولأن ما لم يطهر به اللحم لم يطهر به الجلد كالغسل ، ولعلة التنجيس بالموت ، فلم يجز أن يرتفع التنجيس مع بقاء الموت ، لأن ارتفاع الحكم مع بقاء العلة محال .

                                                                                                                                            ودليلنا : ما رواه الشافعي ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن وعلة المصري ، عن [ ص: 60 ] ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دبغ الإهاب فقد طهر " إنما يكون فيما لحقه التنجيس ، فصار بمثابة قوله : أيما إهاب نجس بالموت طهر بالدباغة .

                                                                                                                                            وروى الشافعي ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة لمولاة ميمونة ميتة فقال صلى الله عليه وسلم : " ما على أهل هذه لو أخذوا إهابها فدبغوه فانتفعوا به فقالوا : يا رسول الله أليست ميتة ؟ ! فقال : إنما حرم من الميتة أكلها " وهذا نص .

                                                                                                                                            وروى الشافعي ، عن مالك ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن أمه ، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم " أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت " ولأنه حيوان طاهر فجاز أن يطهر جلده بعد وفاة روحه كالمذكى ، ولأنه جلد نجس بعد طهارة فجاز أن يطرأ عليه الطهارة كالذي نجس بدم ، أو غيره .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلاله بحديث عبد الله بن عكيم فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه مع ضعفه مرسل ، لأن علي بن المديني قال : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 61 ] ولعبد الله بن عكيم سنة ، وقد كان يرويه مرة عن شيخه قومه ناس من جهينة .

                                                                                                                                            والثاني : أنه مستعمل على ما قبل الدباغة ، لأن اسم الإهاب يتناول الجلد قبل دباغه ، وينتقل عنه الاسم بعد دباغه ، قال عنترة :


                                                                                                                                            فشككت بالرمح الأصم إهابه ليس الكريم على الفتى بمحرم

                                                                                                                                            وأما الآية فمخصوصة ، وأما قياسه على اللحم فهو قياس يرفع النص فاطرحناه على أن المعنى في اللحم أنه لما لم يكن للدباغة فيه تأثير لم يطهر بها والجلد لما أثرت فيه الدباغة طهر بها .

                                                                                                                                            وأما قياسه على الغسل فكذا الجواب عنه ، لأن الغسل لا يؤثر في الجلد كتأثير الدباغة .

                                                                                                                                            وأما قوله : إن الموت علة التنجيس فعنه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أن علة التنجيس الموت وفقد الدباغة .

                                                                                                                                            والثاني : أن الموت علة في تنجيسه غير متأبد وفقد الدباغة علة في التنجيس المتأبد .

                                                                                                                                            فإذا ثبت أن جلد الميتة يطهر بالدباغة ، فإنه يطهر بها ظاهرا وباطنا ويجوز استعماله في الذائب واليابس والصلاة عليه وفيه .

                                                                                                                                            وقال مالك : يطهر ظاهره دون باطنه وجاز استعماله في اليابس دون الذائب وجازت الصلاة عليه ، ولم يجز فيه استدلالا بأن الدباغة تؤثر فيما لاقته وهو ظاهر الجلد دون باطنه فوجب أن يطهر بها ظاهر الجلد دون باطنه .

                                                                                                                                            ودليلنا : قوله عليه السلام : " أيما إهاب دبغ فقد طهر " فكان على عمومه في طهارة الظاهر والباطن .

                                                                                                                                            وروي عن سودة أنها قالت : " ماتت لنا شاة ودبغنا إهابها فجعلناه قربة كنا ننبذ فيها [ ص: 62 ] إلى أن صارت شنا " . ومالك لا يجوز الانتباذ فيها وإنما يجوز استعمالها في الماء ، لأن عنده أن الماء لا ينجس ما لم يتغير ، ولأن ما طهر به ظاهر الجلد طهر به باطنه كالذكاة ، ولأن كل موضع من الجلد طهر بالذكاة طهر بالدباغة كالظاهر .

                                                                                                                                            وأما استدلاله بأنها تؤثر فيما لاقته فخطأ ، لأن تأثيرها في نشف الرطوبة الباطنة والسهوكة الداخلة كتأثيرها في الظاهر فيها .

                                                                                                                                            فإذا ثبت طهارة ظاهره وباطنه بالدباغة فهو قبل الدباغة ممنوع من الاستعمال في الذائب .

                                                                                                                                            وقال الزهري : هو قبل الدباغة وبعدها على سواء في جواز استعماله في الذائبات واليابسات استدلالا برواية الحارث ، عن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن عناقا كانت عندهم فأخبروه أنها ماتت قال : ألا أخذتم إهابها فاستمتعتم به ، فأباح الانتفاع به من غير أن يذكر دباغا . ودليلنا قوله عليه السلام : " أيما إهاب دبغ فقد طهر " على أن قبل دباغه لم يطهر الإهاب ، ولأن ما أوجب تنجيس اللحم أوجب تنجيس الجلد كنجاسة الكلب ، ولأن فقد الحياة يوجب تساوي الحكم في الجلد واللحم كالحوت ، والجراد في التطهير ، والكلب والخنزير في التنجيس ، وأما الخبر فمحمول على ما بعد الدباغة بما بينه في غيره من الأخبار وعلى الانتفاع به في اليابسات .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية