الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي : " ولا يتيمم صحيح في مصر لمكتوبة ولا لجنازة ولو جاز ما قال غيري يتيمم للجنازة لخوف الفوت لزمه ذلك لفوت الجمعة والمكتوبة فإذا لم يجز عنده لفوت الأوكد كان من أن يجوز فيما دونه أبعد . وروي عن ابن عمر أنه كان لا يصلي على جنازة إلا متوضئا " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال : الطهارة في الصلاة على الجنازة مستحقة كما تستحق في سائر الصلوات وحكي عن عامر بن شراحيل الشعبي وعن داود بن علي الأصبهاني ، وعن ابن جريج الطبري : أن الصلاة على الميت دعاء لا يفتقر إلى طهارة . وقال أبو حنيفة : الطهارة في الصلاة على الميت واجبة لكن يجوز أن يتيمم لها مع وجود الماء إذا خاف فواتها ، وكذلك قاله في صلاة العيدين يجوز أن يتيمم لها إذا خاف فواتها مع الإمام استدلالا بحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به رجل في سكة من السكك فسلم عليه فلم يرد عليه حتى كاد الرجل أن يتوارى في السكة فتيمم ثم رد على الرجل السلام ، وقال : إنه لم يمنعني أن أرد إلا أني لم أكن على طهر فمنه دليلان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لما تيمم بالمدينة مع وجود الماء خوفا من فوات السلام كان تيممه خوفا من فوات الجنازة أولى .

                                                                                                                                            والثاني : أنه جعل التيمم في تلك الحالة طهورا فاقتضى أن يكون فعل الصلاة به جائزا ، قالوا : ولأنها صلاة لا يقدر على فعلها إلا بالتيمم ، فاقتضى بأن يجزئه ، كالمريض والمسافر ، ولأن الطهارة بالماء تجب لأجل الصلاة ، فإذا لم يتوصل بالماء إلى تلك الصلاة سقط عنه استعمال الماء كالحائض .

                                                                                                                                            ودليلنا هو أن الصلاة على الميت صلاة شرعية : لقوله صلى الله عليه وسلم : " فرض على أمتي غسل موتاها والصلاة عليها " وإذا ثبت أنها صلاة لزمته الطهارة ، بخلاف قول الشعبي لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يقبل الله صلاة بغير طهور " ، وإذا ثبت وجوب الطهارة لها لزمه استعمال الماء فيها : لعموم قوله تعالى : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم [ المائدة : 6 ] . فاقتضى استعمال الماء على كل قائم إلى الصلاة ، ثم قال : وإن كنتم مرضى أو على سفر [ المائدة : 6 ] إلى قوله : فلم تجدوا ماء فتيمموا وهذا غير مريض ولا مسافر فلم يجز أن يتيمم ، ولأنها حالة لا يستبيح فيها الفرائض بالتيمم ، فلم يستبح غير الفرائض بالتيمم ، أصله إذا كان الماء بين يديه ، ولأن كل من امتنع عليه استباحة الجنائز كالمحدث ، ولأن كل شرط [ ص: 282 ] لم يتحقق العجز عنه في صلاة الفريضة ، لم يتحقق العجز عنه في صلاة الجنازة ، أصله إذا كان عريانا ، وفي بيته ثوب ، ولأن كل ما كان شرطا لصلاة الفرائض ، كان شرطا لصلاة الجنائز كإزالة النجاسة ، والتوجه إلى القبلة ، ولأن كل صلاة احتيج فيها إلى الطهور لم يجز افتتاحها بالتيمم مع القدرة على الماء كسائر الصلوات ، ولما ذكره الشافعي رضي الله عنه من أنه لما لم يجز أن يتيمم مع وجود الماء لفوات الجمعة التي أوكد فلأن لا يجزئه لما دونها من الجنازة بعد .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن استدلالهم بالخبر أنه تيمم لرد السلام ، فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز أن يكون تيمم لعدم الماء .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لما جاز أن يرد السلام بغير طهور جاز أن يتيمم له مع وجود الماء .

                                                                                                                                            فإن قيل : فما الفائدة في تيممه ، قيل : تعليمه التيمم ، لأن الشرع مأخوذ من أفعاله وأقواله .

                                                                                                                                            والجواب عن قياسهم على المريض والمسافر ، فالمعنى فيه أنه لما جاز التيمم للفريضة جاز للجنازة ، وليس كذلك هذا وأما الجواب عن قولهم : إن في الطهارة لها فواتا لفعلها فهو أنه منتقض بالجمعة ، يفوت فعلها ، ولا يجوز أن يتيمم لها .

                                                                                                                                            فإن قيل : فالجمعة تنتقل عند فواتها إلى الظهر ولا تنتقل في الجنازة إلى بدل .

                                                                                                                                            قيل : ليس الظهر جمعة لا سيما قولهم من خرج عنه وقت الجمعة ، وهو فيها بطلت ولم يتمها ظهرا ثم نقول : إن صلاة الجنازة لا تفوت : لأنه يقدر على الصلاة على القبر ، فإن منعوا من الصلاة على القبر فهو بناء خلاف على خلاف ثم ندل عليه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على قبر مسكينة ، وصلى على قبر بعد شهر فجعله أحمد بن حنبل الشهر حدا في جواز الصلاة على القبر : لأجل هذا الخبر ، وليس الشهر عندنا حدا .

                                                                                                                                            فإن قيل : لو جازت الصلاة على القبر لجازت الآن على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم .

                                                                                                                                            قيل : عن هذا أجوبة :

                                                                                                                                            أحدها : أننا نجوزها على مثل ما كانت تجوز قبل فيه ، وهو أن يدعو الناس أفواجا وينصرفون .

                                                                                                                                            والثاني : إنما يمنع من الصلاة على قبره : لأن لا يتخذ مسجدا : لقوله صلى الله عليه وسلم " لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " . [ ص: 283 ] والثالث : أنها تجوز الصلاة على القبر ، لمن دخل في فرض تلك الصلاة وهو يتناول أهل ذلك العصر ، فجاز لهم أن يصلوا عليه ، ولم يجز لمن بعد ، ثم يقال لأبي حنيفة : قد جوزت الصلاة على القبر للإمام والولي ، فلو جاز التيمم لها خوفا من فواتها لاقتضى أن لا يجوز للإمام والولي : لأنها لا تفوتهما ، وقد أجاز ذلك لهما كما أجازه لغيرهما ، فدل على فساد ما اعتل به من الفوات والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية