الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولا يجوز شراء الأعمى ، وإن ذاق ما له طعم : لأنه يختلف في الثمن باللون إلا في السلم بالصفة ، وإذا وكل بصيرا يقبض له على الصفة ( قال المزني ) يشبه أن يكون أراد الشافعي بلفظة الأعمى الذي عرف الألوان قبل أن يعمى ، فأما من خلق أعمى فلا معرفة له بالألوان ، فهو في معنى من اشترى ما يعرف طعمه ويجهل لونه ، وهو يفسده فتفهمه ولا تغلظ عليه " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : البيوع ضربان : بيع عين ، وبيع صفة ، فأما بيع العين فلا يصح من الأعمى إلا أن يكون بصيرا قد شاهد ما ابتاعه قبل العمى فيصح .

                                                                                                                                            [ ص: 339 ] وقال أبو حنيفة ومالك : يجوز بيع الأعمى وشراؤه : استدلالا بعموم قوله تعالى : وأحل الله البيع [ البقرة : 275 ] .

                                                                                                                                            وبأنه إجماع الصحابة : وهو أن العباس بن عبد المطلب ، وابنه عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، كانوا يتبايعون ويشترون فلم ينكر ذلك عليهم أحد من الصحابة . فدل على أنهم مجمعون عليه .

                                                                                                                                            ولأن كل من صح منه التوكيل في البيع صح منه عقد البيع كالبصير .

                                                                                                                                            ولأن كل عقد جاز أن يقبله البصير جاز أن يقبله الضرير كالنكاح .

                                                                                                                                            ودليلنا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغرر ، وعقد الضرير من أعظم الغرر .

                                                                                                                                            ولنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة ، وبيع الضرير أسوأ حالا منه .

                                                                                                                                            ولأنه بيع مجهول الصفة عند العاقد فوجب أن يكون باطلا ، كما لو قال : بعتك عبدا أو ثوبا . ولأنه بيع عين فوجب أن يكون لفقد الرؤية تأثير فيه كالبصير فيما لم يره .

                                                                                                                                            فأما استدلالهم بعموم الآية فمخصوص بما ذكرنا .

                                                                                                                                            وأما نقلهم الإجماع فغير صحيح : لأنه لا نقل معهم أن هؤلاء باشروا عقد البيع بعد العمى ، ولو نقلوه لم يكن إجماعا ؛ لأن ترك الإنكار لا يكون رضا .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على البصير ، فالمعنى في صحة بيعه حصول مشاهدته ، والأعمى مفقود المشاهدة .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على النكاح ، فالمعنى فيه أنه لما لم يكن للرؤية تأثير فيه صح من الأعمى ، ولما كان للرؤية تأثير في البيع لم يصح من الأعمى .

                                                                                                                                            فصل : وأما بيع الصفة فهو السلم ، ويصح ذلك من الأعمى بيعا وشراء : لأن السلم عقد على صفة يفتقر إلى الخبر دون النظر ، فاستوى فيه الأعمى والبصير : لاستوائهما في المخبرات ، وإن اختلفا في بيوع الأعيان لاختلافهما في المشاهدات .

                                                                                                                                            فأما قول المزني : يشبه أن يكون أراد الشافعي إلى آخر كلامه ، فكأن المزني يذهب إلى أن الأعمى لا يصح منه عقد السلم إلا أن يكون بصيرا قد عرف الألوان ثم عمي .

                                                                                                                                            فأما الأكمه الذي خلق أعمى ، فلا يصح منه السلم لجهله بالألوان .

                                                                                                                                            وخرج مذهب الشافعي كذلك ، واختلف أصحابنا فكان بعضهم يحمل الأمر على ما قاله المزني . وذهب جمهورهم إلى من عقد السلم في عقد السلم بين الأعمى الذي كان بصيرا ، وبين من خلق أعمى لم يبصر : لأن من خلق أعمى وإن لم يعرف الألوان فهو يعرف أحكامها ، ويعلم اختلاف قيم الأمتعة باختلاف ألوانها ، وأن الحنطة البيضاء أجود من الحنطة [ ص: 340 ] السمراء ، فصار فيها كالبصير وكالأعمى الذي كان بصيرا ، ألا ترى أن البصير لو وصف له متاع لم يره ، ولا عرفه في بلد تبعد عنه ، جاز أن يسلم فيه ، وإن لم يعرف الصفات التي اشتمل العقد عليها إذا علم تفاصيلها باختلافها ، فكذلك سلم الأعمى .

                                                                                                                                            فإذا ثبت أن عقد السلم يصح منه فقبضه عند حلوله لم يصح منه ، لأن القبض يحتاج إلى استيفاء الصفات المستحقة بالعقد ، وذلك مما لا يدرك إلا بالمشاهدة والنظر ، فجرى مجرى عقد البيع على عين لا تصح من الأعمى حتى يوكل فيه بصيرا يعقد عنه أوله .

                                                                                                                                            كذلك لا يصح من الأعمى قبض المسلم فيه ولا إقباضه حتى يوكل من يقبض له إن كان مشتريا أو يقبض عنه إن كان بائعا ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية