فصل : حكم المائع الذي مات فيه ما لا نفس له سائلة
فإذا تقرر ما وصفنا من حال نجاسته بالموت انتقل الكلام إلى نجاسة ما مات فيه من مائع أو ماء قليل وهو على ضربين :
ضرب : تولد من نفس ما مات فيه كدود الخل واللبن إذا مات في الخل ، واللبن ، فإن ذلك لا ينجس ، لأن الاحتراز من موت ما تولد فيه من دود غير ممكن ، فكان معفوا عنه كدم البراغيث ، فلو نقل منه بعد موته ، وألقي في غيره من مائع أو ماء صار ما ألقي فيه نجسا ، لإمكان الاحتراز منه .
والضرب الثاني : أن يكون عن متولد من طعام أو شراب كالذباب والخنافس والجعلان ، فإذا مات في ماء أو مائع ففي تنجيسه به قولان :
أحدهما : وبه قال في القديم : وهو قول جمهور الفقهاء واختيار المزني أنه على طهارته لا ينجس لما رواه الشافعي عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد أن أبا سلمة بن عبد الرحمن حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سقط الذباب في الطعام فامقلوه ، فإن في إحدى جناحيه سما وفي الآخر شفاء وإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء " فلو كان ينجس بموته لما أمر بمقله ومقله سبب لموته ، وروى نبيه عن سعيد بن أبي سعيد عن بشر بن منصور عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن سلمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا سلمان كل طعام وشراب وقعت فيه ذبابة ليس لها دم فماتت فيه فهو حلال أكله وشربه ووضوءه " وهذا إن ثبت نص لا يحتمل خلافه ، ولأن في التحرز منه مشقة فعفي عنه .
[ ص: 322 ] والقول الثاني : قاله في الجديد ، وبه قال محمد بن المنكدر ويحيى بن أبي كثير أنه قد ينجس بذلك : لأنها نجاسة حلت ماء قليلا قياسا على سائر الأنجاس ، ولأن الاحتراز منه ممكن بتخمير الإناء ولذلك جاء الخبر بما رواه سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتغطية الوضوء وإيكاء السقاء وإكفاء الإناء " فكان أمره بذلك حفظا للماء من وقوع ما ينجس به ، وغالب ما يقع فيها هو الذباب والحشرات فدل على أنه موجب لتنجيس ما مات فيه ، والأول من القولين أصح ، فإذا قيل بتنجيس ما مات فيه فسواء غير الماء أو يفضل فيه أم لا ؟ قد نجس بموته في الحال ، وإذا قيل بطهارة ما مات فيه فهو على الطهارة ما لم يتغير به ويفضل فيه ، فإن تغير به الماء ويفضل فيه لطول المكث ففي نجاسته حينئذ لأصحابنا وجهان :
أحدهما : أنه على طهارته : لأن ما قل من الماء إذا لم ينجس بملاقاة العين لم ينجس بالتغيير والتقطيع وطول المكث ، كالأشياء الطاهرة .
والوجه الثاني : أنه حينئذ يصير نجسا : لأن الاحتراز منه وقت حلوله متعذر والاحتراز من طول مكثه ممكن ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ذلك : ما لم يفضل يعني ينقطع ، فأما ؟ فقال الحيات والوزغ فقد اختلف أصحابنا هل هي ذات نفس سائلة أم لا أبو القاسم الدراكي ، وأبو حامد الإسفرايني : هي ذات نفس سائلة ، فعلى هذا ينجس ما ماتا فيه ، وقال أبو الفياض وأبو القاسم الصميري ليست ذات نفس سائلة ، فعلى هذا في تنجيس ما ماتا فيه قولان .