الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو قال والله لا أقربك إلى يوم القيامة أو حتى يخرج الدجال أو حتى ينزل عيسى ابن مريم أو حتى يقدم فلان أو يموت أو تموتي أو تفطمي ابنك فإن مضت أربعة أشهر قبل أن يكون شيء مما حلف عليه كان موليا وقال في موضع آخر حتى تفطمي ولدك لم يكن موليا لأنها قد تفطمه قبل أربعة أشهر إلا أن يريد أكثر من أربعة أشهر ( قال المزني رحمه الله ) هذا أولى بقوله لأن أصله أن كل يمين منعت الجماع بكل حال أكثر من أربعة أشهر إلا بأن يحنث فهو مول وقوله حتى يشاء فلان فليس بمول حتى يموت فلان ( قال المزني ) وهذا مثل قوله حتى يقدم فلان أو يموت سواء في القياس وكذلك حتى تفطمي ولدك إذا أمكن الفطام في أربعة أشهر ولو قال حتى تحبلي فليس بمول ( قال المزني ) رحمة الله هذا مثل قوله حتى يقدم فلان أو يشاء فلان لأنه قد يقدم ويشاء قبل أربعة أشهر فلا يكون موليا ( قال المزني ) رحمة الله عليه وأما قوله حتى تموتي فهو مول بكل حال كقوله حتى أموت أنا وهو كقوله والله لا أطؤك أبدا فهو مول من حين حلف " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : قد تمهد بما قدمناه من أصول الوطء أنه لا يكون موليا إلا أن تزيد مدة إيلائه على أربعة أشهر وإذا كان كذلك لم تخل مدة إيلائه من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن تكون مطلقة .

                                                                                                                                            والثاني : أن تكون مقيدة بزمان .

                                                                                                                                            والثالث : أن تكون معلقة بشرط .

                                                                                                                                            [ ص: 368 ] أما القسم الأول : وهو المدة المطلقة ، فهو أن يقول : والله لا أصبتك فإطلاقها يقتضي الأبد ، فهو كقوله : والله لا وطئتك أبدا والتلفظ بالأبد هاهنا تأكيد فهذا أقوى .

                                                                                                                                            وأما القسم الثاني : المقدر بالزمان فهو أن يقول : والله لا أصبتك إلى سنة كذا أو إلى شهر كذا أو إلى يوم كذا ، فينظر في هذا الزمان فإن زاد على أربعة أشهر كان موليا وإن تقدر بأربعة أشهر فما دون لم يكن موليا .

                                                                                                                                            وأما القسم الثالث : وهو المعلق بشرط فهو على ثمانية أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : ما كان به موليا في الظاهر والباطن لاستحالته وهو كقوله : والله لا أصبتك حتى تصعدي السماء أو حتى تصافحي الثريا أو حتى تعدي رمل عالج أو حتى تنقلي جبل أبي قبيس أو حتى تشربي ماء البحر ، وما شابه كل ذلك فيكون موليا لاستحالة وجود هذه الشرائط فكان ذكرها لغوا وصار الإيلاء معها مرسلا .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : ما كان به موليا في الظاهر والباطن للقطع والإحاطة بأنه سيكون بعد أكثر من أربعة أشهر كقوله : والله لا وطئتك حتى تقوم القيامة ، فهذا مول في الظاهر والباطن لأنه قد تتقدم القيامة أشراط منذرة فنحن إذا لم نر أشراطها على يقين من تأخرها عن أربعة أشهر .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : ما كان به موليا في الظاهر ، وإن جاز أن لا يكون به موليا في الباطن كقوله والله لا أصبتك حتى ينزل عيسى ابن مريم أو حتى يظهر الدجال أو حتى يخرج يأجوج ومأجوج وحتى تطلع الشمس من مغربها أو ما جرى هذا المجرى من أشراط الساعة التي الأغلب تأخرها عن مدة الإيلاء ، وإن جاز في الممكن تقدمها فلذلك جعلناه بها موليا في الظاهر دون الباطن ، وألزمناه بها حكم المولي في الباطن والظاهر ، ومن أصحابنا من جعل أشراط الساعة كلها كالقيامة في أنه يكون بها موليا في الظاهر والباطن ، لأن لها أمارات منذرة كالقيامة تتأخر قبل وجودها عن مدة التربص .

                                                                                                                                            والأصح من إطلاق هذين أن يقال ما صحت به أخبار الأنبياء عليهم السلام أنها تترتب فيكون بعضها بعد بعض كنزول عيسى ابن مريم عليه السلام يكون من بعد ظهور الدجال ، كان إيلاؤه إلى نزول عيسى ابن مريم ظاهرا وباطنا وإيلاؤه إلى ظهور الدجال ظاهرا دون الباطن ، لجواز حدوثه قبل أربعة أشهر وما لم يترتب منها فهو به مول في الظاهر دون الباطن ، وهذا من الاختلاف الذي لا يفيد لأن موجب الإيلاء فيهما لا يختلف ، فأما إذا قال : والله لا أصبتك حتى أموت أو تموتي فهو مما يكون به موليا في الظاهر دون الباطن أو لجواز موتهما قبل مدة التربص ، وإنما صار مع جواز الموت قبل المدة موليا في الظاهر لعلتين :

                                                                                                                                            [ ص: 369 ] إحداهما : أن الظاهر بقاؤهم إلى مدة التربص ، وإن جاز موتهما قبلها فحكم بالظاهر .

                                                                                                                                            والعلة الثانية : أنهما لو أطلقا ذلك على الأبد لا تقدر بمدة حياتهما ، فعلى هذين التعليلين لو قال : والله لا أصبتك حتى يموت زيد ، فإن كان زيد في مرض مخوف لم يكن به موليا ، لأن الظاهر من حاله ، موته قبل مدة التربص لأمارات الموت بحدوث الخوف وإن كان زيد صحيحا أو في مرض غير مخوف ، فعلى التعليل الأول يكون به موليا في الظاهر دون الباطن اعتبارا بظاهر بقائه إلى مدة التربص وعلى التعليل الثاني لا يكون به موليا لا في الظاهر ولا في الباطن لتردد حاله بين الموت والبقاء ، وإن إيلاء الزوجين لو كان مطلقا لم يتقدر بموته ، وحمله على التعليل الأول أصح ، لأنه لو قال إن أصبتك فعبدي حر كان موليا في الظاهر وإن جاز أن يموت عبده أو يبيعه قبل مدة التربص فلا يكون موليا ، لكن علينا حكم الظاهر ، مع جواز خلافه .

                                                                                                                                            والقسم الرابع : ما اختلف حكمه باختلاف حال الشرط كقوله : والله لا أصبتك حتى يقدم زيد فينظر غيبة زيد فإن كان بمكان مسافته أكثر من أربعة أشهر كالصين كان به موليا ، وإن كان بمكان مسافته أقل لم يكن به موليا ، لجواز قدومه قبل مدة التربص سواء قدم قبلها أو لا وإن لم يعلم غيبة زيد لم يكن به موليا أيضا لجواز قدومه قبل المدة وكقوله والله لا أصبتك حتى تحبلي ، فلها ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن تكون ممن لا يجوز أن تحبل قبل مدة التربص لصغرها أو لإياسها فيكون بذلك موليا .

                                                                                                                                            والحال الثانية : أن تكون ممن يجوز أن تحبل في الحال لكونها بالغة من ذوات الأقراء فلا يكون بذلك موليا لإمكان حبلها وتساوي الأمرين فيه .

                                                                                                                                            والحال الثالثة : أن تكون مراهقة لجواز أن يتعجل بلوغها فتحبل ، ويجوز أن يتأخر بلوغها فلا تحبل ، قال أبو حامد الإسفراييني - رحمه الله - يكون بذلك موليا ، لأن الظاهر تأخر البلوغ ، وتأخره مانع من الحبل .

                                                                                                                                            والصحيح عندي أنه لا يكون به موليا : لأن الظاهر بلوغ المراهقة ممكن كما أن حبل البالغة ممكن وليس أحد الأمرين بأغلب من الآخر ، وإذا أمكن بلوغها أمكن حبلها .

                                                                                                                                            والقسم الخامس : ما يختلف باختلاف إرادته : كقوله : والله لا أصبتك حتى تفطمي ولدك فإن أراد به قطع الرضاع لم يكن به موليا : لأنه يمكنها قطعه في الحال ، [ ص: 370 ] وإن أراد به مدة رضاع الحولين نظر في الباقي منها فإن كان أكثر من أربعة أشهر كان موليا ، وإن كان أقل لم يكن موليا ، ومن أصحابنا من جعل هذا من القسم الرابع الذي يختلف باختلاف حاله لا باختلاف إرادته فقال إن كان الولد طفلا لا يجوز قطع رضاعه قبل أربعة أشهر كان به موليا ، وإن كان مشدا يجوز قطع رضاعه قبل أربعة أشهر لم يكن به موليا ، والأول أصح وهو قول ابن سريج والأكثر من أصحابنا ، لأن قطعها لرضاعه ممكن وإن منع منه الشرع ، والإيلاء متعلق بإمكان الفعل لا بجوازه في الشرع ، وعلى هذا الاختلاف لو علق بما يمكن فعله لكن يمنع الشرع منه كقوله : والله لا أصبتك حتى تقتلي أخاك لم يكن موليا على معنى قول أبي العباس : لأنها تقدر على قتله في الحال ، وكان موليا على قول من خالفه : لأن الشرع منعها من قتله ، ومن هذا القسم أن يقول : والله لا أصبتك حتى تخرجي إلى الحج فإن أراد به زمان الخروج المعهود كان به موليا إذا بقي إليه أكثر من أربعة أشهر ، وإن أراد به فعلها للخروج لم يكن به موليا لأنه يمكنها الخروج قبل المدة .

                                                                                                                                            والقسم السادس : ما يختلف باختلاف زمانه كقوله : والله لا أصبتك حتى يسقط البلح أو يجمد الماء ، فإن كان هذا في الشتاء وزمان البرد لم يكن به موليا لإمكانه في الحال ، وإن كان في الصيف وزمان الحر نظر فإن كان في آخره والباقي من الشتاء أقل من أربعة أشهر لم يكن موليا ، وإن كان في أوله والباقي منه إلى الشتاء أكثر من أربعة أشهر كان موليا ، ولو قال والله لا أصبتك حتى يجيء المطر فمن أصحابنا من جعله في أول الصيف كالثلج يكون به موليا لتعزره في الأغلب ، ومن أصحابنا من قال لا يكون به موليا ، وفرق بينه وبين الثلج ، بأن المطر قد يجيء في الصيف والثلج لا يكون في الصيف ، فأما البلاد التي يعهد فيها المطر صيفا وشتاء كبلاد طبرستان فلا يكون به موليا لا يختلف أصحابنا فيه .

                                                                                                                                            والقسم السابع : ما لا يكون موليا لتكافؤ أحواله ، كقوله والله لا أصبتك حتى يبرأ هذا المريض أو حتى يمرض هذا الصحيح أو حتى تتعلمي الكتابة أو حتى يطلق فلان زوجته أو حتى يعتق عبده ، فلا يكون بذلك موليا لإمكان حدوثه وتقدمه على مدة التربص كإمكان تأخره عنه ، وهكذا لو قال لا أصبتك حتى تلبسي هذا الثوب أو تدخلي هذه الدار أو حتى أخرجك من هذا البلد لم يكن موليا ، لإمكان فعل ذلك في الحال ولا يلزمه إخراجها من البلد ليبر في يمينه إن وطئ ، لأنه إذا لم يصر موليا لم يلزمه وطؤها ولم يطالب بفيئة ولا طلاق .

                                                                                                                                            والقسم الثامن : ما لا يكون به موليا لكونه قبل أربعة أشهر كقوله والله لا أصبتك حتى تذبل هذه البقلة أو حتى يختمر هذا العجين أو حتى يحمض هذا العصير أو حتى ينضج هذا القدر فلا يكون بذلك موليا لوجود هذا كله في أكثر من مدة الإيلاء . [ ص: 371 ] فأما المزني فإنه جمع بين سبع مسائل ، ورأي الشافعي قد خالف في جواب بعض ما يتكلم عليه ، وليس اختلاف جوابه لاختلاف قوله ، وإنما هو لاختلاف الأحوال على ما بيناه في فطام [ أم ] الولد وقدوم الغائب والله أعلم .

                                                                                                                                            مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولو قال والله لا أقربك إن شئت فشاءت في المجلس فهو مول " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : اعلم أن تعليق الإيلاء بمشيئتها على أربعة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يقول : والله أقربك إن شئت أن لا أقربك فتكون مشيئتها أن لا يقربها شرطا في الإيلاء منها ، فإن شاءت أن لا يقربها انعقد الإيلاء ، وإن لم تشأ لم ينعقد .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يقول : والله لا قربتك إن شئت أن أقربك فيكون مشيئتها أن يقربها شرطا في انعقاد الإيلاء منها فإن شاءت أن يقربها ، انعقد الإيلاء فيها وإن لم تشأ لم ينعقد بخلاف القسم الأول .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يقول : والله لا أقربنك إن شئت فتكون مشيئتها أن لا يقربها شرطا ، ولا تكون مشيئتها أن يقربها شرطا ، وإنما وجب حمله على ذلك مع الإطلاق لأن من حكم الشرط أن يكون وفق المشروط الذي حلف عليه وهو حلف أن لا يقربها فوجب أن تكون مشيئتها أن لا يقربها .

                                                                                                                                            والقسم الرابع : أن يقول : والله لا أقربك إلا أن تشائي فتكون مشيئتها أن لا يقربها شرطا في رفع الإيلاء لا في انعقاده بخلاف ما تقدم ، فإن شاءت لم ينعقد وإن لم تشأ انعقد ، لأن قوله والله لا أقربك إثبات وقوله إلا أن تشائي نفي ، فصار مثبتا للإيلاء بغير شرط ، ومثبتا له بوجود الشرط .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية