فصل : وأما القسم الثاني : فعلى أربعة أضرب : فيما يجب بيانه بالسنة
أحدها : وهو بيان ما أجمله الله تعالى في كتابه من الصلاة والزكاة ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - مأخوذ بيانه في حق الله ليقام بحقه فيها ومأخوذ ببيانه في حقوق العباد ليعلموا ما كلفوا منها . ما لزمه بيانه في حقوق الله تعالى وحقوق عباده
والضرب الثاني : وهو تخصيص العموم يلزم بيانه في حق الله لاستثنائه له ولا يلزمه في حقوق العباد لأنهم على العموم ما لم ينقلوا عنه . ما لزم الرسول بيانه في حقوق الله تعالى دون عباده
والضرب الثالث : وهو ما يستحق الثواب بفعله ولا يجب العقاب بتركه كنوافل العبادات وأفعال القرب يلزم بيانها في حقوق العباد خاصة لاختصاصهم بها . ما لزمه بيانه في حقوق العباد ، ولم يلزمه بيانه في حقوق الله
والضرب الرابع : ما اختلف فيه وهو كالحكم بالشفعة للجار والقضاء بالدية على العاقلة وإعطاء السلب للقاتل وأن لا ميراث للقاتل وأن لا وصية للوارث وأن لا يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها وما شاكل ذلك فيلزم الرسول بيانه في حقوق العباد : لأنه لا طريق لهم إلى العلم بها إلا منه . ما استأنف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيانه من الأحكام التي ليست في كتاب الله
وفي لزوم بيانها في حقوق الله تعالى وجهان مبنيان على اختلاف أصحاب الشافعي على وجهين : هل للرسول أن يحكم فيها باجتهاده أم لا ؟
أحدهما : يجوز للرسول أن يحكم باجتهاده لأن الاجتهاد فضيلة فكان الأنبياء بها أحق ، وقد قال الله تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما [ الأنبياء : 78 - 79 ] .
ولو حكم داود بأمر الله لم ينقض حكمه عليه ، وقد صالح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشا عام الحديبية وحكم برد من أسلم من رجالهم ونسائهم فرد الله تعالى حكمه فيمن أسلم من النساء حين جاءت مسلمة فدل على أنه حكم في ذلك باجتهاده فعلى هذا الوجه يكون هذا البيان لازما للرسول - صلى الله عليه وسلم - في حقوق العباد دون حقوق الله تعالى . أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط
والوجه الثاني : ليس للرسول أن يجتهد وتكون أحكامه موقوفة على أوامر الله تعالى إما من قرآن أو وحي لقول الله تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ ص: 103 ] [ النجم : 3 - 4 ] : ولأن الاجتهاد لا يسوغ مع وجود النص . وأوامر الله تعالى نص ، فعلى هذا الوجه يكون هذا البيان لازما في حقوق الله تعالى وحقوق عباده .
والأصح عندي من إطلاق هذين الوجهين في اجتهاد الرسول أن يكون اجتهاده معتبرا بالحكم ، فإن كان مما يشارك فيه أمته كنهيه عن الكلام في الصلاة وكنهيه عن الجمع بين المرأة وعمتها لم يكن له أن يجتهد فيه حتى يأخذ عن أمر الله تعالى ووحيه كما قال عليه السلام لابن مسعود : " " . وإن كان مما لا تشاركه فيه أمته : كقوله : " إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما يحدث أن لا تكلموا في الصلاة " وكحده لشارب الخمر ، جاز أن يحكم فيه برأيه واجتهاده ، وإنما كان كذلك ، لأن الأحكام هي إلزام من أمر الله لمأمور فما دخل فيه وجب أن يكون مأمورا به وما لم يدخل فيه جاز أن يكون آمرا به ، لأن المأمور غير الآمر والله أعلم بصواب ما ذكرته . لا ميراث لقاتل