كتاب الأطعمة والأشربة
والكلام في أصول هذا الكتاب يتعلق بجملتين :
[ ص: 383 ] الجملة الأولى : نذكر فيها المحرمات في حال الاختيار .
الجملة الثانية : نذكر فيها أحوالها في حال الاضطرار .
الجملة الأولى
[
nindex.php?page=treesubj&link=33212المحرمات في حال الاختيار ]
- والأغذية الإنسانية نبات وحيوان : فأما الحيوان الذي يغتذى به ، فمنه حلال في الشرع ، ومنه حرام ، وهذا منه بري ومنه بحري . والمحرمة منها ما تكون محرمة لعينها ، ومنها ما تكون لسبب وارد عليها . وكل هذه منها ما اتفقوا عليه ، ومنها ما اختلفوا فيه .
فأما المحرمة لسبب وارد عليها : فهي بالجملة تسعة : الميتة ، والمنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ، وكل ما نقصه شرط من شروط التذكية من الحيوان الذي التذكية شرط في أكله ، والجلالة ، والطعام الحلال يخالطه نجس .
فأما
nindex.php?page=treesubj&link=33220الميتة : فاتفق العلماء على تحريم ميتة البر ، واختلفوا في ميتة البحر على ثلاثة أقوال : فقال قوم : هي حلال بإطلاق . وقال قوم : هي حرام بإطلاق ; وقال قوم : ما طفا من السمك حرام ، وما جزر عنه البحر فهو حلال .
وسبب اختلافهم : تعارض الآثار في هذا الباب ، ومعارضة عموم الكتاب لبعضها معارضة كلية ، وموافقته لبعضها موافقة جزئية ، ومعارضة بعضها لبعض معارضة جزئية .
فأما العموم : فهو قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3حرمت عليكم الميتة ) .
وأما الآثار المعارضة لهذا العموم معارضة كلية فحديثان : الواحد متفق عليه ، والآخر مختلف فيه .
أما المتفق عليه فحديث
جابر ، وفيه : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006423إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدوا حوتا يسمى العنبر ، أو دابة قد جزر عنه البحر ، فأكلوا منه بضعة وعشرين يوما ، أو شهرا ، ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال : هل معكم من لحمه شيء : فأرسلوا منه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكله " . وهذا إنما يعارض الكتاب معارضة كلية بمفهومه لا بلفظه .
وأما الحديث الثاني المختلف فيه : فما رواه
مالك عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006424أنه سئل عن ماء البحر فقال : هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته " .
وأما الحديث الموافق للعموم موافقة جزئية ، فما روى
إسماعيل بن أمية عن
أبي الزبير عن
جابر عن النبي عليه الصلاة والسلام قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006425ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه ، وما طفا فلا تأكلوه " وهو حديث أضعف عندهم من حديث
مالك .
وسبب ضعف حديث
مالك : أن في رواته من لا يعرف ، وأنه ورد من طريق واحد . قال
nindex.php?page=showalam&ids=13332أبو عمر بن عبد البر : بل رواته معروفون وقد ورد من طرق . وسبب ضعف حديث
جابر : أن الثقات أوقفوه على
جابر .
فمن رجح حديث
جابر هذا على حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة لشهادة عموم الكتاب له لم يستثن من ذلك إلا ما
[ ص: 384 ] جزر عنه البحر إذ لم يرد في ذلك تعارض . ومن رجح حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة قال بالإباحة مطلقا . وأما من قال بالمنع مطلقا فمصيرا إلى ترجيح عموم الكتاب .
وبالإباحة مطلقا قال
مالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ، وبالمنع مطلقا قال
أبو حنيفة ، وقال قوم غير هؤلاء بالفرق .
وأما الخمسة التي ذكر الله مع الميتة : فلا خلاف أن حكمها عندهم حكم الميتة .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=33221_16871_16873الجلالة ( وهي التي تأكل النجاسة ) : فاختلفوا في أكلها . وسبب اختلافهم : معارضة القياس للأثر :
أما الأثر : فما روي : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006426أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن لحوم الجلالة وألبانها " خرجه
أبو داود عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر .
وأما القياس المعارض لهذا : فهو أن ما يرد جوف الحيوان ينقلب إلى لحم ذلك الحيوان وسائر أجزائه ، فإذا قلنا : إن لحم الحيوان حلال ; وجب أن يكون لما ينقلب من ذلك حكم ما ينقلب إليه ، وهو اللحم ، كما لو انقلب ترابا ، أو كانقلاب الدم لحما .
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي يحرم الجلالة ،
ومالك يكرهها .
وأما النجاسة تخالط الحلال : فالأصل فيه الحديث المشهور من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة وميمونة : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006427أنه سئل عليه الصلاة والسلام عن الفأرة تقع في السمن ، فقال : إن كان جامدا فاطرحوها وما حولها وكلوا الباقي ، وإن كان ذائبا فأريقوه أو لا تقربوه " .
وللعلماء في
nindex.php?page=treesubj&link=26317النجاسة تخالط المطعومات الحلال مذهبان :
أحدهما : من يعتبر في التحريم المخالطة فقط ، وإن لم يتغير للطعام لون ولا رائحة ولا طعم من قبل النجاسة التي خالطته وهو المشهور ، والذي عليه الجمهور .
والثاني مذهب من يعتبر في ذلك التغير ، وهو قول
أهل الظاهر ورواية عن
مالك .
وسبب اختلافهم : اختلافهم في مفهوم الحديث : وذلك أن منهم من جعله من باب الخاص أريد به الخاص ، وهم أهل الظاهر فقالوا : هذا الحديث يمر على ظاهره ، وسائر الأشياء يعتبر فيها تغيرها بالنجاسة أو لا تغيرها بها .
ومنهم من جعله من باب الخاص أريد به العام وهم الجمهور ، فقالوا : المفهوم منه أن بنفس مخالطة النجس ينجس الحلال ، إلا أنه لم يتعلل لهم الفرق بين أن يكون جامدا أو ذائبا لوجود المخالطة في هاتين الحالتين ، وإن كانت في إحدى الحالتين أكثر ( أعني في حالة الذوبان ) ; ويجب على هذا أن يفرق بين المخالطة القليلة والكثيرة ، فلما لم يفرقوا بينهما فكأنهم اقتصروا من بعض الحديث على ظاهره ، ومن بعضه على القياس عليه ، ولذلك أقرته الظاهرية كله على ظاهره .
وأما المحرمات لعينها : فمنها ما اتفقوا أيضا عليه ، ومنها ما اختلفوا فيه . فأما المتفق منها عليه : فاتفق المسلمون منها على اثنين : لحم الخنزير ، والدم .
فأما
nindex.php?page=treesubj&link=33217الخنزير : فاتفقوا على تحريم شحمه ولحمه وجلده ، واختلفوا في الانتفاع بشعره وفي طهارة جلده مدبوغا وغير مدبوغ ، وقد تقدم ذلك في كتاب الطهارة .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=33212الدم : فاتفقوا على تحريم المسفوح منه من الحيوان المذكى ، واختلفوا في غير المسفوح منه .
وكذلك اختلفوا في دم الحوت : فمنهم من رآه نجسا . ومنهم من لم يره نجسا . والاختلاف في هذا كله موجود في مذهب
مالك وخارجا عنه .
[ ص: 385 ] وسبب اختلافهم في غير المسفوح : معارضة الإطلاق للتقييد ، وذلك أن قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3حرمت عليكم الميتة والدم يقتضي ) تحريم مسفوح الدم وغيره ، وقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=145أو دما مسفوحا ) يقتضي بحسب دليل الخطاب تحريم المسفوح فقط .
فمن رد المطلق إلى المقيد اشترط في التحريم السفح . ومن رأى أن الإطلاق يقتضي حكما زائدا على التقييد ، وأن معارضة المقيد للمطلق إنما هو من باب دليل الخطاب ; والمطلق عام ، والعام أقوى من دليل الخطاب ; قضى بالمطلق على المقيد ، وقال : يحرم قليل الدم وكثيره .
والسفح المشترط في حرمية الدم إنما هو دم الحيوان المذكى ( أعني : أنه الذي يسيل عند التذكية من الحيوان الحلال الأكل . وأما أكل دم يسيل من الحيوان الحي فقليله وكثيره حرام ، وكذلك الدم من الحيوان المحرم الأكل وإن ذكي فقليله وكثيره حرام ، ولا خلاف في هذا .
وأما سبب اختلافهم في دم الحوت فمعارضة العموم للقياس :
أما العموم : فقوله تعالى : ( والدم ) .
وأما القياس : فما يمكن أن يتوهم من كون الدم تابعا في التحريم لميتة الحيوان ( أعني : أن ما حرم ميتته حرم دمه ، وما حل ميتته حل دمه ) ، ولذلك رأى
مالك أن ما لا دم له فليس بميتة .
قال القاضي : وقد تكلمنا في هذه المسألة في كتاب الطهارة ، ويذكر الفقهاء في هذا حديثا مخصصا لعموم الدم قوله عليه الصلاة والسلام : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006428أحلت لنا ميتتان ودمان " . وهذا الحديث في غالب ظني ليس هو في الكتب المشهورة من كتب الحديث .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=33212المحرمات لعينها المختلف فيها فأربعة :
أحدها : لحوم السباع من الطير ومن ذوات الأربع .
والثاني : ذوات الحافر الإنسية .
والثالث : لحوم الحيوان المأمور بقتله في الحرم .
والرابع : لحوم الحيوانات التي تعافها النفوس وتستخبثها بالطبع .
وحكى
أبو حامد عن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي أنه يحرم لحم الحيوان المنهي عن قتله ، قال : كالخطاف والنحل ، فيكون هذا جنسا خامسا من المختلف فيه .
كِتَابُ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ
وَالْكَلَامُ فِي أُصُولِ هَذَا الْكِتَابِ يَتَعَلَّقُ بِجُمْلَتَيْنِ :
[ ص: 383 ] الْجُمْلَةُ الْأُولَى : نَذْكُرُ فِيهَا الْمُحَرَّمَاتِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ .
الْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ : نَذْكُرُ فِيهَا أَحْوَالَهَا فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ .
الْجُمْلَةُ الْأُولَى
[
nindex.php?page=treesubj&link=33212الْمُحَرَّمَاتُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ ]
- وَالْأَغْذِيَةُ الْإِنْسَانِيَّةُ نَبَاتٌ وَحَيَوَانٌ : فَأَمَّا الْحَيَوَانُ الَّذِي يُغْتَذَى بِهِ ، فَمِنْهُ حَلَالٌ فِي الشَّرْعِ ، وَمِنْهُ حَرَامٌ ، وَهَذَا مِنْهُ بَرِّيٌّ وَمِنْهُ بَحْرِيٌّ . وَالْمُحَرَّمَةُ مِنْهَا مَا تَكُونُ مُحَرَّمَةً لِعَيْنِهَا ، وَمِنْهَا مَا تَكُونُ لِسَبَبٍ وَارِدٍ عَلَيْهَا . وَكُلُّ هَذِهِ مِنْهَا مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ ، وَمِنْهَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ .
فَأَمَّا الْمُحَرَّمَةُ لِسَبَبٍ وَارِدٍ عَلَيْهَا : فَهِيَ بِالْجُمْلَةِ تِسْعَةٌ : الْمَيْتَةُ ، وَالْمُنْخَنِقَةُ ، وَالْمَوْقُوذَةُ ، وَالْمُتَرَدِّيَةُ ، وَالنَّطِيحَةُ ، وَمَا أَكَلَ السَّبْعُ ، وَكُلُّ مَا نَقَصَهُ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ التَّذْكِيَةِ مِنَ الْحَيَوَانِ الَّذِي التَّذْكِيَةُ شَرْطٌ فِي أَكْلِهِ ، وَالْجَلَّالَةُ ، وَالطَّعَامُ الْحَلَالُ يُخَالِطُهُ نَجِسٌ .
فَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=33220الْمَيْتَةُ : فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ مَيْتَةِ الْبَرِّ ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَيْتَةِ الْبَحْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : فَقَالَ قَوْمٌ : هِيَ حَلَالٌ بِإِطْلَاقٍ . وَقَالَ قَوْمٌ : هِيَ حَرَامٌ بِإِطْلَاقٍ ; وَقَالَ قَوْمٌ : مَا طَفَا مِنَ السَّمَكِ حَرَامٌ ، وَمَا جَزَرَ عَنْهُ الْبَحْرُ فَهُوَ حَلَالٌ .
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ : تَعَارُضُ الْآثَارِ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَمُعَارَضَةُ عُمُومِ الْكِتَابِ لِبَعْضِهَا مُعَارَضَةً كُلِّيَّةً ، وَمُوَافَقَتُهُ لِبَعْضِهَا مُوَافَقَةً جُزْئِيَّةً ، وَمُعَارَضَةُ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ مُعَارَضَةً جُزْئِيَّةً .
فَأَمَّا الْعُمُومُ : فَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) .
وَأَمَّا الْآثَارُ الْمُعَارِضَةُ لِهَذَا الْعُمُومِ مُعَارَضَةً كُلِّيَّةً فَحَدِيثَانِ : الْوَاحِدُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَالْآخَرُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ .
أَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فَحَدِيثُ
جَابِرٍ ، وَفِيهِ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006423إِنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدُوا حُوتًا يُسَمَّى الْعَنْبَرَ ، أَوْ دَابَّةً قَدْ جَزَرَ عَنْهُ الْبَحْرُ ، فَأَكَلُوا مِنْهُ بِضْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، أَوْ شَهْرًا ، ثُمَّ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ فَقَالَ : هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ : فَأَرْسَلُوا مِنْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَهُ " . وَهَذَا إِنَّمَا يُعَارِضُ الْكِتَابَ مُعَارَضَةً كُلِّيَّةً بِمَفْهُومِهِ لَا بِلَفْظِهِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي الْمُخْتَلَفُ فِيهِ : فَمَا رَوَاهُ
مَالِكٌ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006424أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ : هو الطَّهُورُ مَاؤُهُ ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمُوَافِقُ لِلْعُمُومِ مُوَافَقَةً جُزْئِيَّةً ، فَمَا رَوَى
إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ
أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ
جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006425مَا أَلْقَى الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ ، وَمَا طَفَا فَلَا تَأْكُلُوهُ " وَهُوَ حَدِيثٌ أَضْعَفُ عِنْدَهُمْ مِنْ حَدِيثِ
مَالِكٍ .
وَسَبَبُ ضِعْفِ حَدِيثِ
مَالِكٍ : أَنَّ فِي رُوَاتِهِ مَنْ لَا يُعْرَفُ ، وَأَنَّهُ وَرَدَ مِنْ طَرِيقٍ وَاحِدٍ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13332أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : بَلْ رُوَاتُهُ مَعْرُوفُونَ وَقَدْ وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ . وَسَبَبُ ضَعْفِ حَدِيثِ
جَابِرٍ : أَنَّ الثِّقَاتِ أَوْقَفُوهُ عَلَى
جَابِرٍ .
فَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ
جَابِرٍ هَذَا عَلَى حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ لِشَهَادَةِ عُمُومِ الْكِتَابِ لَهُ لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا
[ ص: 384 ] جَزَرَ عَنْهُ الْبَحْرُ إِذْ لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ تَعَارُضٌ . وَمَنْ رَجَّحَ حَدِيثَ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ بِالْإِبَاحَةِ مُطْلَقًا . وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالْمَنْعِ مُطْلَقًا فَمَصِيرًا إِلَى تَرْجِيحِ عُمُومِ الْكِتَابِ .
وَبِالْإِبَاحَةِ مُطْلَقًا قَالَ
مَالِكٌ ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790وَالشَّافِعِيُّ ، وَبِالْمَنْعِ مُطْلَقًا قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ ، وَقَالَ قَوْمٌ غَيْرُ هَؤُلَاءِ بِالْفَرْقِ .
وَأَمَّا الْخَمْسَةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ مَعَ الْمَيْتَةِ : فَلَا خِلَافَ أَنَّ حُكْمَهَا عِنْدَهُمْ حُكْمُ الْمَيْتَةِ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=33221_16871_16873الْجَلَّالَةُ ( وَهِيَ الَّتِي تَأْكُلُ النَّجَاسَةَ ) : فَاخْتَلَفُوا فِي أَكْلِهَا . وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ : مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ لِلْأَثَرِ :
أَمَّا الْأَثَرُ : فَمَا رُوِيَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006426أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَهَى عَنْ لُحُومِ الْجَلَّالَةِ وَأَلْبَانِهَا " خَرَّجَهُ
أَبُو دَاوُدَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=12ابْنِ عُمَرَ .
وَأَمَّا الْقِيَاسُ الْمُعَارِضُ لِهَذَا : فَهُوَ أَنَّ مَا يَرِدُ جَوْفَ الْحَيَوَانِ يَنْقَلِبُ إِلَى لَحْمِ ذَلِكَ الْحَيَوَانِ وَسَائِرِ أَجْزَائِهِ ، فَإِذَا قُلْنَا : إِنَّ لَحْمَ الْحَيَوَانِ حَلَالٌ ; وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِمَا يَنْقَلِبُ مِنْ ذَلِكَ حُكْمُ مَا يَنْقَلِبُ إِلَيْهِ ، وَهُوَ اللَّحْمُ ، كَمَا لَوِ انْقَلَبَ تُرَابًا ، أَوْ كَانْقِلَابِ الدَّمِ لَحْمًا .
nindex.php?page=showalam&ids=13790وَالشَّافِعِيُّ يُحَرِّمُ الْجَلَّالَةَ ،
وَمَالكٌ يَكْرَهُهَا .
وَأَمَّا النَّجَاسَةُ تُخَالِطُ الْحَلَالَ : فَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ مِنْ حَدِيثِ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَيْمُونَةَ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006427أَنَّهُ سُئِلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ ، فَقَالَ : إِنْ كَانَ جَامِدًا فَاطْرَحُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوا الْبَاقِيَ ، وَإِنْ كَانَ ذَائِبًا فَأَرِيقُوهُ أَوْ لَا تَقْرَبُوهُ " .
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=26317النَّجَاسَةِ تُخَالِطُ الْمَطْعُومَاتِ الْحَلَالَ مَذْهَبَانِ :
أَحَدُهُمَا : مَنْ يَعْتَبِرُ فِي التَّحْرِيمِ الْمُخَالَطَةَ فَقَطْ ، وَإِنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ لِلطَّعَامِ لَوْنٌ وَلَا رَائِحَةٌ وَلَا طَعْمٌ مِنْ قِبَلِ النَّجَاسَةِ الَّتِي خَالَطَتْهُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ .
وَالثَّانِي مَذْهَبُ مَنْ يَعْتَبِرُ فِي ذَلِكَ التَّغَيُّرَ ، وَهُوَ قَوْلُ
أَهْلِ الظَّاهِرِ وَرِوَايَةٌ عَنْ
مَالِكٍ .
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ : اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ الْحَدِيثِ : وَذَلِكَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْخَاصُّ ، وَهُمْ أَهْلُ الظَّاهِرِ فَقَالُوا : هَذَا الْحَدِيثُ يَمُرُّ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَسَائِرُ الْأَشْيَاءِ يُعْتَبَرُ فِيهَا تَغَيُّرُهَا بِالنَّجَاسَةِ أَوْ لَا تَغَيُّرُهَا بِهَا .
وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْخَاصِّ أُرِيدَ بِهِ الْعَامُّ وَهُمُ الْجُمْهُورُ ، فَقَالُوا : الْمَفْهُومُ مِنْهُ أَنَّ بِنَفْسِ مُخَالَطَةِ النَّجِسِ يَنْجُسُ الْحَلَالُ ، إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّلْ لَهُمُ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ جَامِدًا أَوْ ذَائِبًا لِوُجُودِ الْمُخَالَطَةِ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ أَكْثَرَ ( أَعْنِي فِي حَالَةِ الذَّوَبَانِ ) ; وَيَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُخَالَطَةِ الْقَلِيلَةِ وَالْكَثِيرَةِ ، فَلَمَّا لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا فَكَأَنَّهُمُ اقْتَصَرُوا مِنْ بَعْضِ الْحَدِيثِ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَمِنْ بَعْضِهِ عَلَى الْقِيَاسِ عَلَيْهِ ، وَلِذَلِكَ أَقَرَّتْهُ الظَّاهِرِيَّةُ كُلَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ .
وَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ لِعَيْنِهَا : فَمِنْهَا مَا اتَّفَقُوا أَيْضًا عَلَيْهِ ، وَمِنْهَا مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ . فَأَمَّا الْمُتَّفَقُ مِنْهَا عَلَيْهِ : فَاتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا عَلَى اثْنَيْنِ : لَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، وَالدَّمِ .
فَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=33217الْخِنْزِيرُ : فَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ شَحْمِهِ وَلَحْمِهِ وَجِلْدِهِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي الِانْتِفَاعِ بِشَعْرِهِ وَفِي طَهَارَةِ جِلْدِهِ مَدْبُوغًا وَغَيْرَ مَدْبُوغٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=33212الدَّمُ : فَاتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْمَسْفُوحِ مِنْهُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمُذَكَّى ، وَاخْتَلَفُوا فِي غَيْرِ الْمَسْفُوحِ مِنْهُ .
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي دَمِ الْحُوتِ : فَمِنْهُمْ مَنْ رَآهُ نَجِسًا . وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَرَهُ نَجِسًا . وَالِاخْتِلَافُ فِي هَذَا كُلِّهِ مَوْجُودٌ فِي مَذْهَبِ
مَالِكٍ وَخَارِجًا عَنْهُ .
[ ص: 385 ] وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي غَيْرِ الْمَسْفُوحِ : مُعَارَضَةُ الْإِطْلَاقِ لِلتَّقْيِيدِ ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ يَقْتَضِي ) تَحْرِيمَ مَسْفُوحِ الدَّمِ وَغَيْرِهِ ، وَقَوْلَهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=145أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ) يَقْتَضِي بِحَسَبِ دَلِيلِ الْخِطَابِ تَحْرِيمَ الْمَسْفُوحِ فَقَطْ .
فَمَنْ رَدَّ الْمُطْلَقَ إِلَى الْمُقَيَّدِ اشْتَرَطَ فِي التَّحْرِيمِ السَّفْحَ . وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْإِطْلَاقَ يَقْتَضِي حُكْمًا زَائِدًا عَلَى التَّقْيِيدِ ، وَأَنَّ مُعَارَضَةَ الْمُقَيَّدِ لِلْمُطْلَقِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ ; وَالْمُطْلَقُ عَامٌّ ، وَالْعَامُّ أَقْوَى مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ ; قَضَى بِالْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَقَالَ : يَحْرُمُ قَلِيلُ الدَّمِ وَكَثِيرُهُ .
وَالسَّفْحُ الْمُشْتَرَطُ فِي حُرْمِيَّةِ الدَّمِ إِنَّمَا هُوَ دَمُ الْحَيَوَانِ الْمُذَكَّى ( أَعْنِي : أَنَّهُ الَّذِي يُسِيلُ عِنْدَ التَّذْكِيَةِ مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَلَالِ الْأَكْلِ . وَأَمَّا أَكْلُ دَمٍ يَسِيلُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ حَرَامٌ ، وَكَذَلِكَ الدَّمُ مِنَ الْحَيَوَانِ الْمُحَرَّمِ الْأَكْلِ وَإِنْ ذُكِّيَ فَقَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ حَرَامٌ ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا .
وَأَمَّا سَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي دَمِ الْحُوتِ فَمُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْقِيَاسِ :
أَمَّا الْعُمُومُ : فَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( وَالدَّمُ ) .
وَأَمَّا الْقِيَاسُ : فَمَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَهَّمَ مِنْ كَوْنِ الدَّمِ تَابِعًا فِي التَّحْرِيمِ لِمَيْتَةِ الْحَيَوَانِ ( أَعْنِي : أَنَّ مَا حَرُمَ مَيْتَتُهُ حَرُمَ دَمُهُ ، وَمَا حَلَّ مَيْتَتُهُ حَلَّ دَمُهُ ) ، وَلِذَلِكَ رَأَى
مَالِكٌ أَنَّ مَا لَا دَمَ لَهُ فَلَيْسَ بِمَيْتَةٍ .
قَالَ الْقَاضِي : وَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الطَّهَارَةِ ، وَيَذْكُرُ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا حَدِيثًا مُخَصِّصًا لِعُمُومِ الدَّمِ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1006428أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ " . وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي غَالِبِ ظَنِّي لَيْسَ هُوَ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ مِنْ كُتُبِ الْحَدِيثِ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=33212الْمُحَرَّمَاتُ لِعَيْنِهَا الْمُخْتَلَفُ فِيهَا فَأَرْبَعَةٌ :
أَحَدُهَا : لُحُومُ السِّبَاعِ مِنَ الطَّيْرِ وَمِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ .
وَالثَّانِي : ذَوَاتُ الْحَافِرِ الْإِنْسِيَّةُ .
وَالثَّالِثُ : لُحُومُ الْحَيَوَانِ الْمَأْمُورِ بِقَتْلِهِ فِي الْحَرَمِ .
وَالرَّابِعُ : لُحُومُ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تَعَافُهَا النُّفُوسُ وَتَسْتَخْبِثُهَا بِالطَّبْعِ .
وَحَكَى
أَبُو حَامِدٍ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُحَرِّمُ لَحْمَ الْحَيَوَانِ الْمَنْهِيِّ عَنْ قَتْلِهِ ، قَالَ : كَالْخُطَّافِ وَالنَّحْلِ ، فَيَكُونُ هَذَا جِنْسًا خَامِسًا مِنَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ .