كتاب الصرف .
ولما كان يخص هذا البيع شرطان : أحدهما : عدم النسيئة ، ( وهو الفور ) ، والآخر : عدم التفاضل ، ( وهو اشتراط المثلية ) ، كان النظر في هذا الباب ينحصر في خمسة أجناس :
الأول : في معرفة ما هو نسيئة مما ليس بنسيئة .
الثاني : في معرفة ما هو مماثل مما ليس بمماثل; إذ هذان القسمان ينقسمان بفصول كثيرة فيعرض هنالك الخلاف .
الثالث : فيما وقع أيضا من هذا البيع بصورة مختلف فيها هل هو ذريعة إلى أحد هذين ( أعني : الزيادة والنسيئة ) ، أو كليهما عند من قال بالذرائع ، وهو مالك ، وأصحابه ، وهذا ينقسم أيضا إلى نوعين كانقسام أصله .
الخامس : في خصائص أحكام هذا البيع من جهة ما يعتبر فيه هذان الشرطان ( أعني : عدم النساء والتفاضل ) ، أو كليهما ، وذلك أنه يخالف هذا البيع البيوع لمكان هذين الشرطين فيه في أحكام كثيرة .
وأنت إذا تأملت الكتب الموضوعة في فروع الكتاب الذي يرسمونه بكتاب الصرف وجدتها كلها راجعة إلى هذه الأجناس الخمسة ، أو إلى ما تركب منها ما عدا المسائل التي يدخلون في الكتاب الواحد بعينه مما ليس هو من ذلك الكتاب ، مثل إدخال الملكية في الصرف مسائل كثيرة هي من باب الاقتضاء في السلف ، لكن لما كان الفاسد منها يئول إلى أحد هذين الأصلين ( أعني : إلى صرف بنسيئة ، أو بتفاضل ) أدخلوها في هذا الكتاب مثل مسائلهم في اقتضاء القائمة ، والمجموعة ، والفرادى بعضها من بعض .
لكن لما كان قصدنا إنما هو ذكر المسائل التي هي منطوق بها في الشرع ، أو قريب من المنطوق بها; [ ص: 554 ] رأينا أن نذكر في هذا الكتاب سبع مسائل مشهورة تجري مجرى الأصول لما يطرأ على المجتهد من مسائل هذا الباب ، فإن هذا الكتاب إنما وضعناه ليبلغ به المجتهد في هذه الصناعة رتبة الاجتهاد إذا حصل ما يجب له أن يحصل قبله من القدر الكافي له في علم النحو ، واللغة ، وصناعة أصول الفقه ، ويكفي من ذلك ما هو مساو لجرم هذا الكتاب ، أو أقل ، وبهذه الرتبة يسمى فقيها لا بحفظ مسائل الفقه ، ولو بلغت في العدد أقصى ما يمكن أن يحفظه إنسان ، كما نجد متفقهة زماننا يظنون أن الأفقه هو الذي حفظ مسائل أكثر ، وهؤلاء عرض لهم شبيه ما يعرض لمن ظن أن الخفاف هو الذي عنده خفاف كثيرة لا الذي يقدر على عملها ، وهو بين أن الذي عنده خفاف كثيرة سيأتيه إنسان بقدم لا يجد في خفافه ما يصلح لقدمه ، فيلجأ إلى صانع الخفاف ضرورة ، وهو الذي يصنع لكل قدم خفا يوافقه ، فهذا هو مثال أكثر المتفقهة في هذا الوقت .
وإذ قد خرجنا عما كنا بسبيله ، فلنرجع إلى حيث كنا من ذكر المسائل التي وعدنا بها .
المسألة الأولى .
[ بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ] .
أجمع العلماء على أن لا يجوز إلا مثلا بمثل ، يدا بيد ، إلا ما روي عن بيع الذهب بالذهب والفضة بالفضة ، ومن تبعه من المكيين ، فإنهم أجازوا بيعه متفاضلا ، ومنعوه نسيئة فقط . ابن عباس
وإنما صار لذلك لما رواه عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أسامة بن زيد " ، وهو حديث صحيح ، فأخذ لا ربا إلا في النسيئة بظاهر هذا الحديث ، فلم يجعل الربا إلا في النسيئة . ابن عباس
وأما الجمهور فصاروا إلى ما رواه مالك ، عن نافع ، عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أبي سعيد الخدري " ، وهو من أصح ما روي في هذا الباب . وحديث لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الفضة بالفضة إلا مثلا بمثل ، ولا تشفوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها شيئا غائبا بناجز حديث صحيح أيضا في هذا الباب . عبادة بن الصامت
فصار الجمهور إلى هذه الأحاديث ; إذ كانت نصا في ذلك . وأما حديث فإنه ليس بنص في ذلك; لأنه روي فيه لفظان : ابن عباس
أحدهما : أنه قال : " " ، وهذا ليس يفهم منه إجازة التفاضل إلا من باب دليل الخطاب ، وهو ضعيف ، ولا سيما إذا عارضه النص . إنما الربا في النسيئة
وأما اللفظ الآخر : وهو : " " ، فهو أقوى من هذا اللفظ ; لأن ظاهره يقتضي أن ما عدا النسيئة فليس بربا ، لكن يحتمل أن يريد بقوله : " لا ربا إلا في النسيئة " ، من جهة أن الواقع في الأكثر ، وإذا كان هذا محتملا ، والأول نص وجب تأويله على الجهة التي يصح الجمع بينهما . لا ربا إلا في النسيئة
وأجمع الجمهور على أن مسكوكه ، وتبره ، ومصوغه سواء في منع بيع بعضه ببعض متفاضلا لعموم الأحاديث المتقدمة في ذلك ، إلا معاوية فإنه كان يجيز التفاضل بين التبر ، والمصوغ لمكان زيادة الصياغة ، وإلا ما روي عن مالك أنه سئل عن الرجل يأتي دار الضرب بورقه ، فيعطيهم أجرة الضرب ويأخذ منهم [ ص: 555 ] دنانير ، ودراهم وزن ورقه أو دراهمه ، فقال : إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة ، ونحو ذلك ، فأرجو أن لا يكون به بأس ، وبه قال ابن القاسم من أصحابه ، وأنكر ذلك ابن وهب من أصحابه ، ، وجمهور العلماء . وأجاز وعيسى بن دينار مالك بدل الدينار الناقص بالوازن أو بالدينارين على اختلاف بين أصحابه في العدد الذي يجوز فيه ذلك من الذي لا يجوز على جهة المعروف .