الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ المسألة الثانية ]

[ صلاة القائم خلف القاعد ]

وأما المسألة الثانية ( وهي صلاة القائم خلف القاعد ) فإن حاصل القول فيها أن العلماء اتفقوا على أنه ليس للصحيح أن يصلي فرضا قاعدا إذا كان منفردا أو إماما لقوله تعالى : ( وقوموا لله قانتين ) واختلفوا إذا كان المأموم صحيحا ، فصلى خلف إمام مريض يصلي قاعدا على ثلاثة أقوال : أحدها : أن المأموم يصلي خلفه قاعدا ، وممن قال بهذا القول أحمد ، وإسحاق ، والقول الثاني : أنهم يصلون خلفه قياما .

قال أبو عمر بن عبد البر : وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار الشافعي ، وأصحابه ، وأبو حنيفة ، وأصحابه وأهل الظاهر ، وأبو ثور ، وغيرهم ، وزاد هؤلاء فقالوا يصلون وراءه قياما وإن كان لا يقوى على الركوع والسجود بل يومئ إيماء .

وروى ابن القاسم أنه لا تجوز إمامة القاعد وأنه إن صلوا خلفه قياما أو قعودا بطلت صلاتهم ، وقد روي عن مالك أنهم يعيدون الصلاة في الوقت ، وهذا إنما بني على الكراهة لا على المنع ، والأول هو المشهور عنه . وسبب الاختلاف تعارض الآثار في ذلك ومعارضة العمل للآثار ( أعني عمل أهل المدينة عند مالك ) وذلك أن في ذلك حديثين متعارضين : أحدهما حديث أنس ، وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - " وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا " وحديث عائشة في معناه ، وهو " أنه صلى - صلى الله عليه وسلم - وهو شاك جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال " إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا ركع فاركعوا ، وإذا رفع فارفعوا ، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا " والحديث الثاني حديث عائشة " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج في مرضه الذي توفي منه ، فأتى المسجد فوجد أبا بكر وهو قائم يصلي بالناس ، فاستأخر أبو بكر فأشار إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن كما أنت ، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنب أبي بكر ، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر " فذهب الناس في هذين الحديثين مذهبين : مذهب النسخ ، ومذهب الترجيح . فأما من ذهب مذهب النسخ فإنهم قالوا : إن ظاهر حديث عائشة وهو " أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يؤم الناس ، وأن أبا بكر كان مسمعا " ; لأنه لا يجوز أن يكون إمامان في صلاة واحدة ، وأن الناس كانوا قياما ، وأن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان جالسا ، فوجب أن يكون هذا من فعله - عليه الصلاة والسلام - إذ كان آخر ما فعله ناسخا لقوله وفعله المتقدم . وأما من ذهب مذهب الترجيح فإنهم رجحوا حديث أنس بأن قالوا إن هذا الحديث قد اضطربت [ ص: 130 ] الرواية عن عائشة فيه فيمن كان الإمام ، هل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو أبو بكر ؟ . وأما مالك فليس له مستند من السماع لأن كلا الحديثين اتفقا على جواز إمامة القاعد ، وإنما اختلفا في قيام المأموم أو قعوده ، حتى إنه قد قال أبو محمد بن حزم إنه ليس في حديث عائشة أن الناس صلوا لا قياما ولا قعودا ، وليس يجب أن يترك المنصوص عليه لشيء لم ينص عليه . قال أبو عمر : وقد ذكر أبو المصعب في مختصره عن مالك أنه قال : لا يؤم الناس أحد قاعدا ، فإن أمهم قاعدا فسدت صلاتهم وصلاته ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يؤمن أحد بعدي قاعدا " قال أبو عمر وهذا حديث لا يصح عند أهل العلم بالحديث لأنه يرويه جابر الجعفي مرسلا ، وليس بحجة فيما أسند فكيف فيما أرسل ؟ وقد روى ابن القاسم عن مالك أنه كان يحتج بما رواه ربيعة بن أبي عبد الرحمن " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج وهو مريض ، فكان أبو بكر هو الإمام ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بصلاة أبي بكر وقال : ما مات نبي حتى يؤمه رجل من أمته " وهذا ليس فيه حجة إلا أن يتوهم أنه ائتم بأبي بكر ; لأنه لا تجوز صلاة الإمام القاعد ، وهذا ظن لا يجب أن يترك له النص مع ضعف هذا الحديث .

التالي السابق


الخدمات العلمية