الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني في معرفة العيوب التي توجب الحكم ، وما شرطها الموجب للحكم فيها ؟

وفي هذا الفصل نظران : أحدهما : في العيوب التي توجب الحكم . والنظر الثاني : في الشرط الموجب له .

النظر الأول [ في العيوب التي توجب الحكم ]

فأما العيوب التي توجب الحكم : فمنها عيوب في النفس; ومنها عيوب في البدن ، وهذه منها ما هي عيوب بأن تشترط أضدادها في المبيع ، وهي التي تسمى عيوبا من قبل الشرط; ومنها ما هي عيوب توجب الحكم وإن لم يشترط وجود أضدادها في المبيع ، وهذه هي التي فقدها نقص في أصل الخلقة; وأما العيوب الأخر فهي التي أضدادها كمالات ، وليس فقدها نقصا مثل الصنائع ، وأكثر ما يوجد هذا الصنف في أحوال النفس ، وقد يوجد في أحوال الجسم .

والعيوب الجسمانية : منها ما هي في أجسام ذوات الأنفس ، ومنها ما هي في غير ذوات الأنفس . والعيوب التي لها تأثير في العقد هي عند الجميع ما نقص عن الخلقة الطبيعية ، أو عن الخلق الشرعي نقصانا له تأثير في ثمن المبيع ، وذلك يختلف بحسب اختلاف الأزمان ، والعوائد ، والأشخاص ، فربما كان النقص في الخلقة فضيلة في الشرع ، كالخفاض في الإماء ، والختان في العبيد .

ولتقارب هذه المعاني في شيء مما يتعامل الناس به وقع الخلاف بين الفقهاء في ذلك ، ونحن نذكر من هذه المسائل ما اشتهر الخلاف فيه بين الفقهاء ليكون ما يحصل من ذلك في نفس الفقيه يعود كالقانون والدستور الذي يعمل عليه فيما لم يجد فيه نصا عمن تقدمه ، أو فيما لم يقف على نص فيه لغيره .

فمن ذلك وجود الزنا في العبيد . اختلف العلماء فيه; فقال مالك ، والشافعي : هو عيب; وقال أبو حنيفة : ليس بعيب ، وهو نقص في الخلق الشرعي الذي هو العفة .

[ ص: 537 ] والزواج عند مالك عيب ، وهو من العيوب العائقة عن الاستعمال ، وكذلك الدين ، وذلك أن العيب بالجملة هو ما عاق فعل النفس ، أو فعل الجسم ، وهذا العائق قد يكون في الشيء وقد يكون من خارج; وقال الشافعي : ليس الدين ولا الزواج بعيب فيما أحسب .

والحمل في الرائعة عيب عند مالك . وفي كونه عيبا في الوخش خلاف في المذهب .

والتصرية عند مالك والشافعي عيب ، وهو حقن اللبن في الثدي أياما حتى يوهم ذلك أن الحيوان ذو لبن غزير ، وحجتهم حديث المصراة المشهور ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تصروا الإبل والبقر ، فمن فعل ذلك فهو بخير النظرين ، إن شاء أمسكها ، وإن شاء ردها وصاعا من تمر " ، قالوا : فأثبت له الخيار بالرد مع التصرية ، وذلك دال على كونه عيبا مؤثرا . قالوا : وأيضا فإنه مدلس ، فأشبه التدليس بسائر العيوب .

وقال أبو حنيفة ، وأصحابه : ليست التصرية عيبا للاتفاق على أن الإنسان إذا اشترى شاة فخرج لبنها قليلا أن ذلك ليس بعيب . قالوا : وحديث المصراة يجب أن لا يوجب عملا لمفارقته الأصول ، وذلك أنه مفارق للأصول من وجوه :

فمنها : أنه معارض لقوله عليه الصلاة والسلام : " الخراج بالضمان " وهو أصل متفق عليه .

ومنها : أن فيه معارضة منع بيع طعام بطعام نسيئة ، وذلك لا يجوز باتفاق .

ومنها : أن الأصل في المتلفات إما القيم وإما المثل ، وإعطاء صاع من تمر في لبن ليس قيمة ولا مثلا . ومنها : بيع الطعام المجهول ( أي : الجزاف ) بالمكيل المعلوم ، لأن اللبن الذي دلس به البائع غير معلوم القدر ، وأيضا فإنه يقل ويكثر ، والعوض هاهنا محدود .

ولكن الواجب أن يستثنى هذا من هذه الأصول كلها لموضع صحة الحديث ، وهذا كأنه ليس من هذا الباب ، وإنما هو حكم خاص . ولكن اطرد إليه القول ، فلنرجع إلى حيث كنا نقول : إنه لا خلاف عندهم في العور ، والعمى ، وقطع اليد ، والرجل أنها عيوب مؤثرة ، وكذلك المرض في أي عضو كان ، أو كان في جملة البدن ، والشيب في المذهب عيب في الرائعة ، وقيل لا بأس باليسير منه فيها ، وكذلك الاستحاضة عيب في الرقيق والوخش ، وكذلك ارتفاع الحيض عيب في المشهور من المذهب ، والزعر عيب ، وأمراض الحواس والأعضاء كلها عيب باتفاق .

وبالجملة فأصل المذهب أن كل ما أثر في القيمة ( أعني : نقص منها ) فهو عيب ، والبول في الفراش عيب ، وبه قال الشافعي ; وقال أبو حنيفة : ترد الجارية به ، ولا يرد العبد به ، والتأنيث في الذكر والتذكير في الأنثى عيب ، هذا كله في المذهب إلا ما ذكرنا فيه الاختلاف .

النظر الثاني [ في الشرط الموجب للحكم ]

وأما شرط العيب الموجب للحكم به فهو أن يكون حادثا قبل أمد التبايع باتفاق ، أو في العهدة عند من يقول بها ، فيجب هاهنا أن نذكر اختلاف الفقهاء في العهدة ، فنقول : انفرد مالك بالقول بالعهدة دون سائر فقهاء الأمصار ، وسلفه في ذلك أهل المدينة الفقهاء السبعة [ ص: 538 ] وغيرهم ، ومعنى العهدة : أن كل عيب حدث فيها عند المشتري فهو من البائع ، وهي عند القائلين بها عهدتان :

عهدة الثلاثة الأيام : وذلك من جمع العيوب الحادثة فيها عند المشتري .

وعهدة السنة : وهي من العيوب الثلاثة : الجذام ، والبرص ، والجنون ، فما حدث في السنة من هذه الثلاث بالمبيع فهو من البائع ، وما حدث من غيرها من العيوب كان من ضمان المشتري على الأصل .

وعهدة الثلاث عند المالكية بالجملة بمنزلة أيام الخيار ، وأيام الاستبراء ، والنفقة فيها والضمان من البائع .

وأما عهدة السنة : فالنفقة فيها والضمان من المشتري إلا من الأدواء الثلاثة ، وهذه العهدة عند مالك في الرقيق ، وهي أيضا واقعة في أصناف البيوع في كل ما القصد منه المماكسة والمحاكرة ، وكان بيعا لا في الذمة ، هذا ما لا خلاف فيه في المذهب ، واختلف في غير ذلك .

وعهدة السنة تحسب عنده بعد عهدة الثلاث في الأشهر من المذهب ، وزمان المواضعة يتداخل مع عهدة الثلاث إن كان زمان المواضعة أطول من عهدة الثلاث . وعهدة السنة لا تتداخل مع عهدة الاستبراء . هذا هو الظاهر من المذهب ، وفيه اختلاف .

وقال الفقهاء السبعة : لا يتداخل منها عهدة مع ثانية ، فعهدة الاستبراء أولا ، ثم عهدة الثلاث ، ثم عهدة السنة .

واختلف أيضا عن مالك : هل تلزم العهدة في كل البلاد من غير أن يحمل أهلها عليها ؟ فروي عنه الوجهان ، فإذا قيل لا يلزم أهل هذه البلد إلا أن يكونوا قد حملوا على ذلك; فهل يجب أن يحمل عليها أهل كل بلد أم لا ؟ فيه قولان في المذهب ، ولا يلزم النقد في عهدة الثلاث ، وإن اشترط ، ويلزم في عهدة السنة; والعلة في ذلك أنه لم يكمل تسليم البيع فيها للبائع قياسا على بيع الخيار لتردد النقد فيها بين السلف ، والبيع ، فهذه كلها مشهورات أحكام العهدة في مذهب مالك ، وهي كلها فروع مبنية على صحة العهدة ، فلنرجع إلى تقرير حجج المثبتين لها والمبطلين .

وأما عمدة مالك رحمه الله في العهدة ، وحجته التي عول عليها : فهي عمل أهل المدينة . وأما أصحابه المتأخرون فإنهم احتجوا بما رواه الحسن ، عن عقبة بن عامر ، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " عهدة الرقيق ثلاثة أيام " ، وروي أيضا : " لا عهدة بعد أربع " ، وروى هذا الحديث أيضا الحسن ، عن سمرة بن جندب الفزاري رضي الله عنه ، وكلا الحديثين عند أهل العلم معلول ، فإنهم اختلفوا في سماع الحسن ، عن سمرة ، وإن كان الترمذي قد صححه .

وأما سائر فقهاء الأمصار : فلم يصح عندهم في العهدة أثر ، ورأوا أنها لو صحت مخالفة للأصول ، وذلك أن المسلمين مجمعون على أن كل مصيبة تنزل بالمبيع قبل قبضه فهي من المشتري ، فالتخصيص لمثل هذا الأصل المتقرر إنما يكون بسماع ثابت ، ولهذا ضعف عند مالك في إحدى الروايتين عنه أن يقضى بها في كل بلد إلا أن يكون ذلك عرفا في البلد ، أو يشترط ، وبخاصة عهدة السنة ، فإنه لم يأت في ذلك أثر . وروي عن الشافعي ، عن ابن جريح قال : سألت ابن شهاب ، عن عهدة السنة ، والثلاث ، فقال : ما علمت فيها أمرا سالفا .

[ ص: 539 ] وإذ قد تقرر القول في تمييز العيوب التي توجب حكما من التي لا توجبه ، وتقرر الشرط في ذلك ، وهو أن يكون العيب حادثا قبل البيع أو في العهدة عند من يرى العهدة ، فلنصر إلى ما بقي .

التالي السابق


الخدمات العلمية