الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الجنس الثالث

[ حكم المكاتب إذا مات قبل أن يؤدي الكتابة ]

وأما حكمه إذا مات قبل أن يؤدي الكتابة ، فاتفقوا على أنه إذا مات دون ولد قبل أن يؤدي من الكتابة شيئا أنه يرق . واختلفوا إذا مات عن ولد ،

فقال مالك : حكم ولده كحكمه ، فإن ترك مالا فيه وفاء للكتابة أدوه وعتقوا ، وإن لم يترك مالا وكانت لهم قوة على السعي بقوا على نجوم أبيهم حتى يعجزوا أو يعتقوا ، وإن لم يكن عندهم لا مال ولا قدرة على السعي رقوا ، وأنه إن فضل عن الكتابة شيء من ماله ورثوه على حكم ميراث الأحرار ، وأنه ليس يرثه إلا ولده الذين هم في الكتابة معه دون سواهم من وارثيه إن كان له وارث غير الولد الذي معه في الكتابة . وقال أبو حنيفة : إنه يرثه بعد أداء كتابته من المال الذي ترك جميع أولاده الذين كاتب عليهم أو ولدوا في الكتابة وأولاده الأحرار وسائر ورثته .

وقال الشافعي : لا يرثه بنوه الأحرار ولا الذين كاتب عليهم أو ولدوا في الكتابة ، وماله لسيده وعلى أولاده الذين كاتب عليهم أن يسعوا من الكتابة في مقدار حظوظهم منها ، وتسقط حصة الأب عنهم ، وبسقوط حصة الأب عنهم قال أبو حنيفة ، وسائر الكوفيين . والذين قالوا بسقوطها قال بعضهم : تعتبر القيمة ، وهو قول الشافعي ، وقيل : بالثمن ، وقيل : حصته على مقدار الرءوس . وإنما قال هؤلاء بسقوط حصة الأب عن الأبناء الذين كاتب عليهم لا الذين ولدوا في الكتابة ; لأن من ولد له أولاد في الكتابة فهم تبع لأبيهم .

وعمدة مالك أن المكاتبين كتابة واحدة بعضهم حملاء عن بعض ، ولذلك من عتق منهم أو مات لم تسقط حصته عن الباقي . وعمدة الفريق الثاني أن الكتابة لا تضمن . وروى مالك عن عبد الملك بن مروان في موطئه مثل قول الكوفيين .

[ ص: 706 ] وسبب اختلافهم ماذا يموت عليه المكاتب ؟ فعند مالك أنه يموت مكاتبا ، وعند أبي حنيفة أنه يموت حرا ، وعند الشافعي أنه يموت عبدا . وعلى هذه الأصول بنوا الحكم فيه .

فعمدة الشافعية أن العبودية والحرية ليس بينهما وسط ، وإذا مات المكاتب فليس حرا بعد ; لأن حريته إنما تجب بأداء كتابته وهو لم يؤدها بعد ، فقد بقي أنه مات عبدا لأنه لا يصح أن يعتق الميت .

وعمدة الحنفية أن العتق قد وقع بموته مع وجود المال الذي كاتب عليه ; لأنه ليس له أن يرق نفسه ، والحرية يجب أن تكون حاصلة له بوجود المال لا بدفعه إلى السيد .

وأما مالك فجعل موته على حالة متوسطة بين العبودية والحرية وهي الكتابة ، فمن حيث لم يورث أولاده الأحرار منه جعل له حكم العبيد ، ومن حيث لم يورث سيده ماله حكم له بحكم الأحرار ، والمسألة في حد الاجتهاد .

ومما يتعلق بهذا الجنس اختلافهم في أم ولد المكاتب إذا مات المكاتب وترك بنين لا يقدرون على السعي وأرادت الأم أن تسعى عليهم ، فقال مالك : لها ذلك ، وقال الشافعي والكوفيون : ليس لها ذلك .

وعمدتهم أن أم الولد إذا مات المكاتب مال من مال السيد ، وأما مالك فيرى أن حرمة الكتابة التي لسيدها صائرة إليها وإلى بنيها .

ولم يختلف قول مالك أن المكاتب إذا ترك بنين صغارا لا يستطيعون السعي ، وترك أم ولد لا تستطيع السعي أنها تباع ويؤدى منها باقي الكتابة . وعند أبي يوسف ، ومحمد بن الحسن أنه لا يجوز بيع المكاتب لأم ولده ، ويجوز عند أبي حنيفة والشافعي .

واختلف أصحاب مالك في أم ولد المكاتب إذا مات المكاتب وترك بنين ووفاه كتابته ، هل تعتق أم ولده أم لا ؟ فقال ابن القاسم : إذا كان معها ولد عتقت وإلا رقت ، وقال أشهب : تعتق على كل حال . وعلى أصل الشافعي كل ما ترك المكاتب مال من مال سيده لا ينتفع به البنون في أداء ما عليه من كتابته كانوا معه في عقد الكتابة ، أو كانوا ولدوا في الكتابة ، وإنما عليهم السعي . وعلى أصل أبي حنيفة يكون حرا ولا بد ، ومذهب ابن القاسم كأنه استحسان .

التالي السابق


الخدمات العلمية