الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
واختلف الشافعي ، ومالك في الموت : هل حكمه حكم الفلس أم لا ؟ فقال مالك : هو في الموت أسوة الغرماء ، بخلاف الفلس . وقال الشافعي : الأمر في ذلك واحد . وعمدة مالك : ما رواه عن ابن شهاب ، عن أبي بكر ، وهو نص في ذلك ، وأيضا من جهة النظر : إن فرقا بين الذمة في الفلس ، والموت ، وذلك أن الفلس ممكن أن تثرى حاله فيتبعه غرماؤه بما بقي عليه ، وذلك غير متصور في الموت .

وأما الشافعي : فعمدته ما رواه ابن أبي ذئب بسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق به " ، فسوى في هذه الرواية بين الموت ، والفلس . قال : وحديث ابن أبي ذئب أولى من حديث ابن شهاب ; لأن حديث ابن شهاب مرسل ، وهذا مسند . ومن طريق المعنى : فهو مال لا تصرف فيه لمالكه إلا بعد أداء ما عليه ، فأشبه مال المفلس . وقياس مالك أقوى من قياس الشافعي ، وترجيح حديثه على حديث ابن أبي ذئب من جهة أن موافقة القياس له أقوى ، وذلك أن ما وافق من الأحاديث المتعارضة قياس المعنى فهو أقوى مما وافقه قياس الشبه ( أعني : أن القياس الموافق لحديث الشافعي هو قياس شبه ، والموافق لحديث مالك قياس معنى ) ، ومرسل مالك خرجه عبد الرزاق .

فسبب الخلاف : تعارض الآثار في هذا المعنى ، والمقاييس ، وأيضا فإن الأصل يشهد لقول مالك في الموت ( أعني : أن من باع شيئا فليس يرجع إليه ) ، فمالك رحمه الله أقوى في هذه المسألة ، والشافعي إنما ضعف عنده فيها قول مالك لما روي من المسند المرسل عنده لا يجب العمل به .

واختلف مالك ، والشافعي فيمن وجد سلعته بعينها عند المفلس ، وقد أحدث زيادة ، مثل أن تكون أرضا يغرسها ، أو عرصة يبنيها : فقال مالك : العمل الزائد فيها هو فوت ، ويرجع صاحب السلعة شريك الغرماء . [ ص: 631 ] وقال الشافعي : بل يخير البائع بين أن يعطي قيمة ما أحدث المشتري في سلعته ويأخذها ، أو أن يأخذ أصل السلعة ويحاص الغرماء في الزيادة ، وما يكون فوتا مما لا يكون فوتا في مذهب مالك منصوص في كتبه المشهورة .

وتحصيل مذهب مالك فيما يكون الغريم به أحق من سائر الغرماء في الموت والفلس ، أو في الفلس دون الموت : أن الأشياء المبيعة بالدين تنقسم في التفليس ثلاثة أقسام : عرض يتعين ، وعين اختلف فيه هل يتعين فيه أم لا ؟ وعمل لا يتعين .

فأما العرض : فإن كان في يد بائعه لم يسلمه حتى أفلس المشتري ، فهو أحق به في الموت ، والفلس ، وهذا ما لا خلاف فيه ، وإن كان قد دفعه إلى المشتري ثم أفلس وهو قائم بيده فهو أحق به من الغرماء في الفلس دون الموت ، ولهم عنده أن يأخذوا سلعته بالثمن . وقال الشافعي : ليس لهم . وقال أشهب : لا يأخذونها إلا بالزيادة يحطونها عن المفلس . وقال ابن الماجشون : إن شاءوا كان الثمن من أموالهم ، أو من مال الغريم . وقال ابن كنانة : بل يكون من أموالهم .

وأما العين : فهو أحق بها في الموت أيضا ، والفلس ما كان بيده . واختلف إذا دفعه إلى بائعه فيه ففلس أو مات وهو قائم بيده يعرف بعينه ، فقيل : إنه أحق به كالعروض في الفلس دون الموت ، وهو قول ابن القاسم ، وقيل : إنه لا سبيل له عليه ، وهو أسوة الغرماء ، وهو قول أشهب ، والقولان جاريان على الاختلاف في تعيين العين . وأما إن لم يعرف بعينه فهو أسوة الغرماء في الموت والفلس .

وأما العمل الذي لا يتعين : فإن أفلس المستأجر قبل أن يستوفي عمل الأجير كان الأجير أحق بما عمله في الموت والفلس جميعا ، كالسلعة إذا كانت بيد البائع في وقت الفلس ، وإن كان فلسه بعد أن استوفى عمل الأجير : فالأجير أسوة الغرماء بأجرته التي شارطه عليها في الفلس والموت جميعا على أظهر الأقوال ، إلا أن تكون بيده السلعة التي استؤجر على عملها ، فيكون أحق بذلك في الموت ، والفلس جميعا; لأنه كالرهن بيده ، فإن أسلمه كان أسوة الغرماء بعمله ، إلا أن يكون له فيه شيء أخرجه فيكون أحق به في الفلس دون الموت ، وكذلك الأمر عنده في فلس مكتري الدواب إن استكرى أحق بما عليه من المتاع في الموت والفلس جميعا ، وكذلك مكتري السفينة ، وهذا كله شبهه مالك بالرهن .

وبالجملة : فلا خلاف في مذهبه أن البائع أحق بما في يديه في الموت والفلس ، وأحق بسلعته القائمة الخارجة عن يده في الفلس دون الموت ، وأنه أسوة الغرماء في سلعته إذا فاتت ، وعندما يشبه حال الأجير ( عند أصحاب مالك . وبالجملة ) البائع منفعة بالبائع الرقبة ، فمرة يشبهون المنفعة التي عمل : بالسلعة التي لم يقبضها المشتري ، فيقولون : هو أحق بها في الموت والفلس ، ومرة يشبهونه بالتي خرجت من يده ولم يمت فيقولون : هو أحق بها في الفلس دون الموت ، ومرة يشبهون ذلك بالموت الذي فاتت فيه ، فيقولون : هو أسوة الغرماء .

ومثال ذلك : اختلافهم فيمن استؤجر على سقي حائط ، فسقاه حتى أثمر الحائط ، ثم أفلس المستأجر ، فإنهم قالوا فيه الثلاثة الأقوال . وتشبيه بيع المنافع في هذا الباب ببيع الرقاب هو شيء - فيما أحسب - انفرد [ ص: 632 ] به مالك دون فقهاء الأمصار ، وهو ضعيف; لأن قياس الشبه المأخوذ من الموضع المفارق للأصول يضعف ، ولذلك ضعف عند قوم القياس على موضع الرخص ، ولكن انقدح هنالك قياس علة ، فهو أقوى . ولعل المالكية تدعي وجود هذا المعنى في القياس ، ولكن هذا كله ليس يليق بهذا المختصر .

ومن هذا الباب اختلافهم في العبد المفلس المأذون له في التجارة : هل يتبع بالدين في رقبته أم لا ؟ فذهب مالك وأهل الحجاز إلى أنه إنما يتبع بما في يده لا في رقبته ، ثم إن أعتق بما بقي عليه ورأى قوم أنه يباع ، ورأى قوم أن الغرماء يخيرون بين بيعه وبين أن يسعى فيما بقي عليه من الدين ، وبه قال شريح ، وقالت طائفة : بل يلزم سيده ما عليه ، وإن لم يشترطه .

فالذين لم يروا بيع رقبته قالوا : إنما عامل الناس على ما في يده فأشبه الحر ، والذين رأوا بيعه شبهوا ذلك بالجنايات التي يجني ، وأما الذين رأوا الرجوع على السيد بما عليه من الدين : فإنهم شبهوا ماله بمال السيد إذ كان له انتزاعه .

فسبب الخلاف هو تعارض أقيسة الشبه في هذه المسألة .

ومن هذا المعنى : إذا أفلس العبد والمولى معا بأي يبدأ : هل بدين العبد ، أم بدين المولى ؟ فالجمهور يقولون : بدين العبد; لأن الذين داينوا العبد إنما فعلوا ذلك ثقة بما رأوا عند العبد من المال ، والذين داينوا المولى لم يعتدوا بمال العبد .

ومن رأى البدء بالمولى قال : لأن مال العبد هو في الحقيقة للمولى .

فسبب الخلاف : تردد مال العبد بين أن يكون حكمه حكم مال الأجنبي ، أو حكم مال السيد .

وأما قدر ما يترك للمفلس من ماله : فقيل في المذهب : يترك له ما يعيش به هو وأهله وولده الصغار الأيام . وقال في الواضحة والعتبية : الشهر ونحوه ، ويترك له كسوة مثله . وتوقف مالك في كسوة زوجته لكونها هل تجب لها بعوض مقبوض - وهو الانتفاع بها - أو بغير عوض . وقال سحنون : لا يترك له كسوة زوجته . وروى ابن نافع عن مالك : أنه لا يترك له إلا ما يواريه ، وبه قال ابن كنانة .

واختلفوا في بيع كتب العلم عليه على قولين : وهذا مبني على كراهية بيع كتب الفقه ، أو لا كراهية ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية