[ ص: 5 ] كتاب الاجتهاد وهو القسم الخامس من الموافقات
[ ص: 6 ] [ ص: 7 ] بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتاب
nindex.php?page=treesubj&link=22237الاجتهاد
وللنظر فيه ثلاثة أطراف :
أ - طرف يتعلق بالمجتهد من جهة الاجتهاد .
ب - وطرف يتعلق بفتواه .
ج - وطرف يتعلق النظر فيه بإعمال قوله والاقتداء به .
[ ص: 8 ] [ ص: 9 ] الطرف الأول في الاجتهاد
فأما الأول; ففيه مسائل :
[ ص: 10 ] [ ص: 11 ] المسألة الأولى
nindex.php?page=treesubj&link=22239الاجتهاد على ضربين :
أحدهما :
nindex.php?page=treesubj&link=22239لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف ، وذلك عند قيام الساعة .
والثاني : يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا .
[ ص: 12 ] فأما الأول فهو
nindex.php?page=treesubj&link=22239الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط ، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله ، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي لكن يبقى النظر في تعيين محله ، وذلك أن الشارع إذا قال
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=2وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] وثبت عندنا معنى العدالة شرعا افتقرنا إلى تعيين من حصلت
[ ص: 13 ] فيه هذه الصفة ، وليس الناس في وصف العدالة على حد سواء ، بل ذلك يختلف اختلافا متباينا ، فإنا إذا تأملنا العدول وجدنا لاتصافهم بها طرفين وواسطة ، طرف أعلى في العدالة لا إشكال فيه
nindex.php?page=showalam&ids=1كأبي بكر الصديق ، وطرف آخر وهو أول درجة في الخروج عن مقتضى الوصف كالمجاوز لمرتبة الكفر إلى الحكم بمجرد الإسلام فضلا عن مرتكبي الكبائر المحدودين فيها ، وبينهما مراتب لا تنحصر ، وهذا الوسط غامض لا بد فيه من بلوغ حد الوسع وهو الاجتهاد .
فهذا مما يفتقر إليه الحاكم في كل شاهد ، كما إذا أوصى بماله للفقراء ، فلا شك أن من الناس من لا شيء له فيتحقق فيه اسم الفقر فهو
[ ص: 14 ] من أهل الوصية ، ومنهم من لا حاجة به ولا فقر وإن لم يملك نصابا ، وبينهما وسائط; كالرجل يكون له الشيء ولا سعة له; فينظر فيه : هل الغالب عليه حكم الفقر أو حكم الغنى ؟ وكذلك في فرض نفقات الزوجات والقرابات; إذ هو مفتقر إلى النظر في حال المنفق عليه والمنفق ، وحال الوقت إلى غير ذلك من الأمور التي لا تنضبط بحصر ، ولا يمكن استيفاء القول في آحادها; فلا يمكن أن يستغنى هاهنا بالتقليد; لأن التقليد إنما يتصور بعد تحقيق مناط الحكم المقلد فيه ، والمناط هنا لم يتحقق بعد; لأن كل صورة من صوره النازلة نازلة مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير ، وإن تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا; فلا بد من النظر فيها بالاجتهاد ، وكذلك إن فرضنا أنه تقدم لنا مثلها; فلا بد من النظر في كونها مثلها أو لا ، وهو نظر اجتهادي أيضا ، وكذلك القول فيما فيه حكومة من أروش الجنايات ، وقيم المتلفات .
ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها ، وإنما أتت بأمور كلية ، وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر ، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين ، وليس ما به
[ ص: 15 ] الامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق ، ولا هو طردي بإطلاق ، بل ذلك منقسم إلى الضربين ، وبينهما قسم ثالث يأخذ بجهة من الطرفين ، فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب حتى يحقق تحت أي دليل تدخل ، فإن أخذت بشبه من الطرفين فالأمر أصعب ، وهذا كله بين لمن شدا في العلم .
ومن القواعد القضائية "
nindex.php?page=treesubj&link=16282البينة على المدعي واليمين على من أنكر " فالقاضي لا يمكنه الحكم في واقعة - بل لا يمكنه توجيه
[ ص: 16 ] الحجاج ، ولا طلب الخصوم بما عليهم - إلا بعد فهم المدعي من المدعى عليه ، وهو أصل القضاء ، ولا يتعين ذلك إلا بنظر واجتهاد ورد الدعاوى إلى الأدلة ، وهو تحقيق المناط بعينه .
فالحاصل أنه لا بد منه بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفت ، بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه; فإن العامي إذا سمع في الفقه أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهوا من غير جنس أفعال الصلاة ، أو من جنسها إن كانت يسيرة فمغتفرة ، وإن كانت كثيرة فلا ، فوقعت له في صلاته زيادة; فلا بد له من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين ، ولا يكون ذلك إلا باجتهاد ونظر ، فإذا تعين له قسمها
[ ص: 17 ] تحقق له مناط الحكم فأجراه عليه ، وكذلك سائر تكليفاته ، ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن; لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك ، منزلات على أفعال مطلقات كذلك ، والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة ، وإنما تقع معينة مشخصة ، فلا يكون الحكم واقعا عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام ، وقد يكون ذلك سهلا ، وقد لا يكون ، وكله اجتهاد .
وقد يكون من هذا القسم ما يصح فيه التقليد ، وذلك فيما اجتهد فيه الأولون من تحقيق المناط إذا كان متوجها على الأنواع لا على الأشخاص المعينة; كالمثل في جزاء الصيد ، فإن الذي جاء في الشريعة قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95فجزاء مثل ما قتل من النعم [ المائدة : 95 ] وهذا ظاهر في اعتبار المثل ، إلا أن المثل لا بد من تعيين نوعه ، وكونه مثلا لهذا النوع المقتول ، ككون الكبش مثلا للضبع ، والعنز مثلا للغزال ، والعناق مثلا للأرنب ، والبقرة مثلا للبقرة الوحشية ، والشاة مثلا للشاة من الظباء ، وكذلك الرقبة الواجبة في عتق الكفارات ، والبلوغ في الغلام والجارية ، وما أشبه ذلك ، ولكن هذا الاجتهاد في الأنواع لا يغني عن الاجتهاد في الأشخاص المعينة; فلا بد من هذا الاجتهاد في كل زمان; إذ لا يمكن
[ ص: 18 ] حصول التكليف إلا به ، فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد لكان تكليفا بالمحال ، وهو غير ممكن شرعا ، كما أنه غير ممكن عقلا ، وهو
[ ص: 19 ] أوضح دليل في المسألة .
[ ص: 5 ] كِتَابُ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ الْقِسْمُ الْخَامِسُ مِنَ الْمُوَافَقَاتِ
[ ص: 6 ] [ ص: 7 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا
مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ
كِتَابُ
nindex.php?page=treesubj&link=22237الِاجْتِهَادِ
وَلِلنَّظَرِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَطْرَافٍ :
أ - طَرَفٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمُجْتَهِدِ مِنْ جِهَةِ الِاجْتِهَادِ .
ب - وَطَرَفٌ يَتَعَلَّقُ بِفَتْوَاهُ .
ج - وَطَرَفٌ يَتَعَلَّقُ النَّظَرُ فِيهِ بِإِعْمَالِ قَوْلِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ .
[ ص: 8 ] [ ص: 9 ] الطَّرَفُ الْأَوَّلُ فِي الِاجْتِهَادِ
فَأَمَّا الْأَوَّلُ; فَفِيهِ مَسَائِلُ :
[ ص: 10 ] [ ص: 11 ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى
nindex.php?page=treesubj&link=22239الِاجْتِهَادُ عَلَى ضَرْبَيْنِ :
أَحَدُهُمَا :
nindex.php?page=treesubj&link=22239لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْقَطِعَ حَتَّى يَنْقَطِعَ أَصْلُ التَّكْلِيفِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ .
وَالثَّانِي : يُمْكِنُ أَنْ يَنْقَطِعَ قَبْلَ فَنَاءِ الدُّنْيَا .
[ ص: 12 ] فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=22239الِاجْتِهَادُ الْمُتَعَلِّقُ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ ، وَهُوَ الَّذِي لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي قَبُولِهِ ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ بِمُدْرَكِهِ الشَّرْعِيِّ لَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي تَعْيِينِ مَحَلِّهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّارِعَ إِذَا قَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=65&ayano=2وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [ الطَّلَاقِ : 2 ] وَثَبَتَ عِنْدَنَا مَعْنَى الْعَدَالَةِ شَرْعًا افْتَقَرْنَا إِلَى تَعْيِينِ مَنْ حَصَلَتْ
[ ص: 13 ] فِيهِ هَذِهِ الصِّفَةُ ، وَلَيْسَ النَّاسُ فِي وَصْفِ الْعَدَالَةِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ ، بَلْ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا ، فَإِنَّا إِذَا تَأَمَّلْنَا الْعُدُولَ وَجَدْنَا لِاتِّصَافِهِمْ بِهَا طَرَفَيْنِ وَوَاسِطَةً ، طَرَفٌ أَعْلَى فِي الْعَدَالَةِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ
nindex.php?page=showalam&ids=1كَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، وَطَرَفٌ آخَرُ وَهُوَ أَوَّلُ دَرَجَةٍ فِي الْخُرُوجِ عَنْ مُقْتَضَى الْوَصْفِ كَالْمُجَاوِزِ لِمَرْتَبَةِ الْكُفْرِ إِلَى الْحُكْمِ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ فَضْلًا عَنْ مُرْتَكِبِي الْكَبَائِرِ الْمَحْدُودِينَ فِيهَا ، وَبَيْنَهُمَا مَرَاتِبُ لَا تَنْحَصِرُ ، وَهَذَا الْوَسَطُ غَامِضٌ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ بُلُوغِ حَدِّ الْوُسْعِ وَهُوَ الِاجْتِهَادُ .
فَهَذَا مِمَّا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ الْحَاكِمُ فِي كُلِّ شَاهِدٍ ، كَمَا إِذَا أَوْصَى بِمَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ ، فَلَا شَكَّ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ اسْمُ الْفَقْرِ فَهُوَ
[ ص: 14 ] مِنْ أَهْلِ الْوَصِيَّةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا حَاجَةَ بِهِ وَلَا فَقْرَ وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا ، وَبَيْنَهُمَا وَسَائِطُ; كَالرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ الشَّيْءُ وَلَا سَعَةَ لَهُ; فَيَنْظُرُ فِيهِ : هَلِ الْغَالِبُ عَلَيْهِ حُكْمُ الْفَقْرِ أَوْ حُكْمُ الْغِنَى ؟ وَكَذَلِكَ فِي فَرْضِ نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَالْقَرَابَاتِ; إِذْ هُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى النَّظَرِ فِي حَالِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ وَالْمُنْفِقِ ، وَحَالِ الْوَقْتِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَنْضَبِطُ بِحَصْرٍ ، وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الْقَوْلِ فِي آحَادِهَا; فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَغْنَى هَاهُنَا بِالتَّقْلِيدِ; لِأَنَّ التَّقْلِيدَ إِنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ تَحْقِيقِ مَنَاطِ الْحُكْمِ الْمُقَلَّدِ فِيهِ ، وَالْمَنَاطُ هُنَا لَمْ يَتَحَقَّقْ بَعْدُ; لِأَنَّ كُلَّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِهِ النَّازِلَةِ نَازِلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فِي نَفْسِهَا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا نَظِيرٌ ، وَإِنْ تَقَدَّمَ لَهَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَنَا; فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا بِالِاجْتِهَادِ ، وَكَذَلِكَ إِنْ فَرَضْنَا أَنَّهُ تَقَدَّمَ لَنَا مِثْلُهَا; فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي كَوْنِهَا مِثْلَهَا أَوْ لَا ، وَهُوَ نَظَرٌ اجْتِهَادِيٌّ أَيْضًا ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِيمَا فِيهِ حُكُومَةٌ مِنْ أُرُوشِ الْجِنَايَاتِ ، وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ .
وَيَكْفِيكَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَنُصَّ عَلَى حُكْمِ كُلِّ جُزْئِيَّةٍ عَلَى حِدَتِهَا ، وَإِنَّمَا أَتَتْ بِأُمُورٍ كُلِّيَّةٍ ، وَعِبَارَاتٍ مُطْلَقَةٍ تَتَنَاوَلُ أَعْدَادًا لَا تَنْحَصِرُ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَلِكُلِّ مُعَيَّنٍ خُصُوصِيَّةٌ لَيْسَتْ فِي غَيْرِهِ وَلَوْ فِي نَفْسِ التَّعْيِينِ ، وَلَيْسَ مَا بِهِ
[ ص: 15 ] الِامْتِيَازُ مُعْتَبَرًا فِي الْحُكْمِ بِإِطْلَاقٍ ، وَلَا هُوَ طَرْدِيٌّ بِإِطْلَاقٍ ، بَلْ ذَلِكَ مُنْقَسِمٌ إِلَى الضَّرْبَيْنِ ، وَبَيْنَهُمَا قِسْمٌ ثَالِثٌ يَأْخُذُ بِجِهَةٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ ، فَلَا يَبْقَى صُورَةٌ مِنَ الصُّوَرِ الْوُجُودِيَّةِ الْمُعَيَّنَةِ إِلَّا وَلِلْعَالِمِ فِيهَا نَظَرٌ سَهْلٌ أَوْ صَعْبٌ حَتَّى يُحَقِّقَ تَحْتَ أَيِّ دَلِيلٍ تَدْخُلُ ، فَإِنْ أُخِذَتْ بِشُبَهٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ فَالْأَمْرُ أَصْعَبُ ، وَهَذَا كُلُّهُ بَيِّنٌ لِمَنْ شَدَا فِي الْعِلْمِ .
وَمِنَ الْقَوَاعِدِ الْقَضَائِيَّةِ "
nindex.php?page=treesubj&link=16282الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ " فَالْقَاضِي لَا يُمْكِنُهُ الْحُكْمُ فِي وَاقِعَةٍ - بَلْ لَا يُمْكِنُهُ تَوْجِيهُ
[ ص: 16 ] الْحِجَاجِ ، وَلَا طَلَبُ الْخُصُومِ بِمَا عَلَيْهِمْ - إِلَّا بَعْدَ فَهْمِ الْمُدَّعِي مِنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَصْلُ الْقَضَاءِ ، وَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ إِلَّا بِنَظَرٍ وَاجْتِهَادٍ وَرَدِّ الدَّعَاوَى إِلَى الْأَدِلَّةِ ، وَهُوَ تَحْقِيقُ الْمَنَاطِ بِعَيْنِهِ .
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ نَاظِرٍ وَحَاكِمٍ وَمُفْتٍ ، بَلْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ فِي نَفْسِهِ; فَإِنَّ الْعَامِّيَّ إِذَا سَمِعَ فِي الْفِقْهِ أَنَّ الزِّيَادَةَ الْفِعْلِيَّةَ فِي الصَّلَاةِ سَهْوًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ ، أَوْ مِنْ جِنْسِهَا إِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً فَمُغْتَفَرَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً فَلَا ، فَوَقَعَتْ لَهُ فِي صَلَاتِهِ زِيَادَةٌ; فَلَا بُدَّ لَهُ مِنَ النَّظَرِ فِيهَا حَتَّى يَرُدَّهَا إِلَى أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِاجْتِهَادٍ وَنَظَرٍ ، فَإِذَا تَعَيَّنَ لَهُ قِسْمُهَا
[ ص: 17 ] تَحَقَّقَ لَهُ مَنَاطُ الْحُكْمِ فَأَجْرَاهُ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ تَكْلِيفَاتِهِ ، وَلَوْ فُرِضَ ارْتِفَاعُ هَذَا الِاجْتِهَادِ لَمْ تَتَنَزَّلِ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَّا فِي الذِّهْنِ; لِأَنَّهَا مُطْلَقَاتٌ وَعُمُومَاتٌ وَمَا يَرْجِعُ إِلَى ذَلِكَ ، مُنْزَلَاتٌ عَلَى أَفْعَالٍ مُطْلَقَاتٍ كَذَلِكَ ، وَالْأَفْعَالُ لَا تَقَعُ فِي الْوُجُودِ مُطْلَقَةً ، وَإِنَّمَا تَقَعُ مُعَيَّنَةً مُشَخَّصَةً ، فَلَا يَكُونُ الْحُكْمُ وَاقِعًا عَلَيْهَا إِلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِأَنَّ هَذَا الْمُعَيَّنَ يَشْمَلُهُ ذَلِكَ الْمُطْلَقُ أَوْ ذَلِكَ الْعَامُّ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ سَهْلًا ، وَقَدْ لَا يَكُونُ ، وَكُلُّهُ اجْتِهَادٌ .
وَقَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ مَا يَصِحُّ فِيهِ التَّقْلِيدُ ، وَذَلِكَ فِيمَا اجْتَهَدَ فِيهِ الْأَوَّلُونَ مِنْ تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ إِذَا كَانَ مُتَوَجِّهًا عَلَى الْأَنْوَاعِ لَا عَلَى الْأَشْخَاصِ الْمُعَيَّنَةِ; كَالْمِثْلِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ ، فَإِنَّ الَّذِي جَاءَ فِي الشَّرِيعَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=95فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [ الْمَائِدَةِ : 95 ] وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي اعْتِبَارِ الْمِثْلِ ، إِلَّا أَنَّ الْمِثْلَ لَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ نَوْعِهِ ، وَكَوْنِهِ مَثَلًا لِهَذَا النَّوْعِ الْمَقْتُولِ ، كَكَوْنِ الْكَبْشِ مَثَلًا لِلضَّبْعِ ، وَالْعَنْزِ مَثَلًا لِلْغَزَالِ ، وَالْعَنَاقِ مَثَلًا لِلْأَرْنَبِ ، وَالْبَقَرَةِ مَثَلًا لِلْبَقَرَةِ الْوَحْشِيَّةِ ، وَالشَّاةِ مَثَلًا لِلشَّاةِ مِنَ الظِّبَاءِ ، وَكَذَلِكَ الرَّقَبَةُ الْوَاجِبَةُ فِي عِتْقِ الْكَفَّارَاتِ ، وَالْبُلُوغُ فِي الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّ هَذَا الِاجْتِهَادَ فِي الْأَنْوَاعِ لَا يُغْنِي عَنِ الِاجْتِهَادِ فِي الْأَشْخَاصِ الْمُعَيَّنَةِ; فَلَا بُدَّ مِنْ هَذَا الِاجْتِهَادِ فِي كُلِّ زَمَانٍ; إِذْ لَا يُمْكِنُ
[ ص: 18 ] حُصُولُ التَّكْلِيفِ إِلَّا بِهِ ، فَلَوْ فُرِضَ التَّكْلِيفُ مَعَ إِمْكَانِ ارْتِفَاعِ هَذَا الِاجْتِهَادِ لَكَانَ تَكْلِيفًا بِالْمُحَالِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُمْكِنٍ شَرْعًا ، كَمَا أَنَّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ عَقْلًا ، وَهُوَ
[ ص: 19 ] أَوْضَحُ دَلِيلٍ فِي الْمَسْأَلَةِ .