[ ص: 221 ] فصل
وبهذا يظهر أن على الجملة والتفصيل ، وهو الصادر عن أهل الأهواء ، وإذا دخل الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حرصا على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف ، وأدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء ، لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها ، وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق ، وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى ، وذلك مخالفة الشرع ، ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء ، فاتباع الهوى من حيث يظن أنه اتباع للشرع ضلال في الشرع ، ولذلك سميت البدع ضلالات ، وجاء " الخلاف - الذي هو في الحقيقة خلاف - ناشئ عن الهوى المضل لا عن تحري قصد الشارع باتباع الأدلة " ؛ لأن صاحبها مخطئ من حيث توهم أنه مصيب ، ودخول الأهواء في الأعمال خفي ، فأقوال أهل الأهواء غير معتد بها في الخلاف المقرر في الشرع ، فلا خلاف حينئذ في مسائل الشرع من هذه الجهة . إن كل بدعة ضلالة
فإن قيل : هذا مشكل ، فإن العلماء قد اعتدوا بها في الخلاف الشرعي ، ونقلوا أقوالهم في علمي الأصول ، وفرعوا عليها الفروع ، واعتبروهم في [ ص: 222 ] الإجماع والاختلاف ، وهذا هو الاعتداد بأقوالهم .
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنا لا نسلم أنهم اعتدوا بها ، بل إنما أتوا بها ليردوها ، ويبينوا فسادها ، كما أتوا بأقوالاليهود والنصارى وغيرهم ليوضحوا ما فيها ، وذلك في علمي الأصول معا بين ، وما يتفرع عنها مبني عليها .
والثاني : إذا سلم اعتدادهم بها ، فمن جهة أنهم غير متبعين للهوى بإطلاق ، وإنما المتبع للهوى على الإطلاق من لم يصدق بالشريعة رأسا ، وأما من صدق بها وبلغ فيها مبلغا يظن به أنه غير متبع إلا مقتضى الدليل يصير إلى حيث أصاره ، فمثله لا يقال فيه : إنه متبع للهوى مطلقا ، بل هو متبع للشرع ، ولكن بحيث يزاحمه الهوى في مطالبه من جهة اتباع المتشابه ، فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته ، وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما عليه دليل على الجملة .
وأيضا ، فقد ظهر منهم اتحاد القصد على الجملة مع أهل الحق في مطلب واحد ، وهو اتباع الشريعة ، وأشد مسائل الخلاف مثلا مسألة إثبات الصفات ، حيث نفاها من نفاها فإنا إذا نظرنا إلى الفريقين وجدنا كل فريق حائما حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث ، وهو مطلوب الأدلة ، فاختلافهم في الطريق قد لا يخل بهذا القصد في الطرفين معا ، وهكذا إذا اعتبرت سائر المسائل الأصولية .
وإلى هذا فإن منها ما يشكل وروده ويعظم خطب الخوض فيه ؛ ولهذا [ ص: 223 ] لم يظهر من الشارع خروجهم عن الإسلام بسبب بدعهم .
وأيضا ، فإنهم لما دخلوا في غمار المسلمين ، وارتسموا في مراسم المجتهدين منهم بحسب ظاهر الحال ، وكان الشارع في غالب الأمر قد أشار إلى عدم تعيينهم ، ولم يتميزوا إلا بحسب الاجتهاد في بعضهم ، ومدارك الاجتهاد تختلف - لم يمكن والحال هذه إلا حكاية أقوالهم ، والاعتداد بتسطيرها ، والنظر فيها ، واعتبارهم في الوفاق والخلاف ليستمر النظر فيه ، وإلا أدى إلى عدم الضبط ، ولهذا تقرير في كتاب الإجماع ، فلما اجتمعت هذه الأمور ، نقل خلافهم .
وفي الحقيقة ، فمن جهة ما اتفقوا فيه مع أهل الحق حصل التآلف ، ومن جهة ما اختلفوا حصلت الفرقة ، وإذا كان كذلك ، فجهة الائتلاف لا خلاف فيها في الحقيقة ، لصحتها واتحاد حكمها ، وجهة الاختلاف هم مخطئون فيها قطعا ، فصارت أقوالهم زلات لا اعتبار بها في الخلاف ، فالاتفاق حاصل إذا على كل تقدير .
فالحاصل من مجموع هذه المسألة أن كلمة الإسلام متحدة على الجملة في كل مسألة شرعية ، ولولا الإطالة لبسط هذا الموضع بأدلته التفصيلية وأمثلته الشافية ، ولكن ما ذكر فيها كاف ، والله الموفق للصواب .