[ ص: 224 ] المسألة الثالثة عشرة
مر الكلام فيما يفتقر إليه المجتهد من العلوم ، وأنه إذا حصلها فله الاجتهاد بالإطلاق .
وبقي النظر في
nindex.php?page=treesubj&link=22246المقدار الذي إذا وصل إليه فيها توجه عليه الخطاب بالاجتهاد بما أراه الله ، وذلك أن طالب العلم إذا استمر في طلبه مرت عليه أحوال ثلاثة :
أحدها : أن يتنبه عقله إلى النظر فيما حفظ ، والبحث عن أسبابه ، وإنما ينشأ هذا عن شعور بمعنى ما حصل ، لكنه مجمل بعد ، وربما ظهر له في بعض أطراف المسائل جزئيا لا كليا ، وربما لم يظهر بعد ، فهو ينهي البحث نهايته ومعلمه عند ذلك يعينه بما يليق به في تلك الرتبة ، ويرفع عنه أوهاما وإشكالات تعرض له في طريقه ، يهديه إلى مواقع إزالتها ويطارحه في الجريان على مجراه ، مثبتا قدمه ، ورافعا وحشته ، ومؤدبا له حتى يتسنى له النظر والبحث على الصراط المستقيم .
فهذا الطالب حين بقائه هنا ، ينازع الموارد الشرعية وتنازعه ، ويعارضها وتعارضه ، طمعا في إدراك أصولها ، والاتصال بحكمها ومقاصدها ، ولم تتلخص له بعد - لا يصح منه الاجتهاد فيما هو ناظر فيه ؛ لأنه لم يتخلص له مستند الاجتهاد ، ولا هو منه على بينة بحيث ينشرح صدره بما يجتهد فيه ، فاللازم له الكف والتقليد .
[ ص: 225 ] والثاني : أن ينتهي بالنظر إلى تحقيق معنى ما حصل على حسب ما أداه إليه البرهان الشرعي ، بحيث يحصل له اليقين ، ولا يعارضه شك ، بل تصير الشكوك - إذا أوردت عليه - كالبراهين الدالة على صحة ما في يديه ، فهو يتعجب من المتشكك في محصوله كما يتعجب من ذي عينين لا يرى ضوء النهار ، لكنه استمر به الحال إلى أن زل محفوظه عن حفظه حكما ، وإن كان موجودا عنده ، فلا يبالي في القطع على المسائل ، أنص عليها أو على خلافها أم لا .
فإذا حصل الطالب على هذه المرتبة ، فهل يصح منه الاجتهاد في الأحكام الشرعية أم لا ؟ هذا محل نظر والتباس ، ومما يقع فيه الخلاف .
[ ص: 226 ] وللمحتج للجواز أن يقول : إن المقصود الشرعي إذا كان هذا الطالب قد صار له أوضح من الشمس ، وتبينت له معاني النصوص الشرعية حتى التأمت ، وصار بعضها عاضدا للبعض ، ولم يبق عليه في العلم بحقائقها مطلب ، فالذي حصل عنده هو كلية الشريعة ، وعمدة النحلة ، ومنبع التكليف ، فلا عليه أنظر في خصوصياتها المنصوصة أو مسائلها الجزئية أم لا ، إذ لا يزيده النظر في ذلك زيادة ، إذ لو كان كذلك لم يكن واصلا بعد إلى هذه المرتبة ، وقد فرضناه واصلا ، هذا خلف .
ووجه ثان ، وهو أن النظر في الجزئيات والمنصوصات إنما مقصوده التوصل إلى ذلك المطلوب الكلي الشرعي ، حتى يبني عليه فتياه ، ويرد إليه حكم اجتهاده ، فإذا كان حاصلا فالتنزل إلى الجزئيات طلب لتحصيل الحاصل ، وهو محال .
ووجه ثالث ، وهو أن كلي المقصود الشرعي إنما انتظم له من التفقه في الجزئيات والخصوصيات وبمعانيها ترقى إلى ما ترقى إليه ، فإن تكن في الحال
[ ص: 227 ] غير حاكمة عنده لاستيلاء المعنى الكلي ، فهي حاكمة في الحقيقة ؛ لأن المعنى الكلي منها انتظم ، ولأجل ذلك لا تجد صاحب هذه المرتبة يقطع بالحكم بأمر إلا وقامت له الأدلة الجزئية عاضدة وناصرة ، ولو لم يكن كذلك لم تعضده ولا نصرته ، فلما كان كذلك ثبت أن صاحب هذه المرتبة متمكن جدا من الاستنباط والاجتهاد ، وهو المطلوب .
وللمانع أن يحتج على المنع من أوجه :
- منها أن صاحب هذه المرتبة إذا فاجأته حقائقها ، وتعاضدت مراميها ، واتصل له بالبرهان ما كان منها عنده مقطوعا حتى صارت الشريعة في حقه أمرا متحدا ، ومسلكا منتظما ، لا يزل عنه من مواردها فرد ، ولا يشذ له عن الاعتبار منها خاص إلا وهو مأخوذ بطرف لا بد من اعتباره عن طرف آخر لا بد أيضا من اعتباره ؛ إذ قد تبين في كتاب الأدلة أن اعتبار الكلي مع اطراح الجزئي خطأ كما في العكس ، وإذا كان كذلك لم يستحق من هذا حاله أن يترقى إلى درجة الاجتهاد حتى يكمل ما يحتاج إلى تكميله .
ومنها : أن للخصوصيات خواص يليق بكل محل منها ما لا يليق بمحل
[ ص: 228 ] آخر كما في النكاح مثلا ، فإنه لا يسوغ أن يجري مجرى المعاوضات من كل وجه ، كما أنه لا يسوغ أن يجري مجرى الهبات والنحل من كل وجه ، وكما في مال العبد ، وثمرة الشجرة ، والقرض ، والعرايا ، وضرب الدية على العاقلة ، والقراض ، والمساقاة ، بل لكل باب ما يليق به ، ولكل خاص خاصية تليق به لا تليق بغيره ، وكما في الترخصات في العبادات ، والعادات ، وسائر الأحكام .
وإذا كان كذلك - وقد علمنا أن الجميع يرجع مثلا إلى حفظ الضروريات ، والحاجيات ، والتكميليات - فتنزيل حفظها في كل محل على وجه واحد لا يمكن ، بل لا بد من اعتبار خصوصيات الأحوال والأبواب ، وغير ذلك من الخصوصيات الجزئية ، فمن كانت عنده الخصوصيات في حكم التبع الحكمي ، لا في حكم المقصود العيني بحسب كل نازلة ، فكيف يستقيم له جريان ذلك الكلي ، وأنه هو مقصود الشارع ؟ هذا لا يستمر مع الحفظ على مقصود الشارع .
- ومنها : أن هذه المرتبة يلزمها إذا لم يعتبر الخصوصيات ألا يعتبر محالها ، وهي أفعال المكلفين ، بل كما يجري الكليات في كل جزئية على
[ ص: 229 ] الإطلاق يلزمه أن يجريها في كل مكلف على الإطلاق من غير اعتبار بخصوصياتهم ، وهذا لا يصح كذلك على ما استمر عليه الفهم في مقاصد الشارع ، فلا يصح مع هذا إلا اعتبار خصوصيات الأدلة ، فصاحب هذه المرتبة لا يمكنه التنزل إلى ما تقتضيه رتبة المجتهد ، فلا يستقيم مع هذا أن يكون من أهل الاجتهاد .
وإذا تقرر أن لكل احتمال مأخذا كانت المسألة بحسب النظر الحقيقي فيها باقية الإشكال .
ومن أمثلة هذه المرتبة مذهب من نفى القياس جملة ، وأخذ بالنصوص على الإطلاق ، ومذهب من أعمل القياس على الإطلاق ولم يعتبر ما خالفه من الأخبار جملة ، فإن كل واحد من الفريقين غاص به الفكر في منحى شرعي مطلق عام اطرد له في جملة الشريعة اطرادا لا يتوهم معه في الشريعة نقص ولا تقصير ، بل على مقتضى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3اليوم أكملت لكم دينكم [ المائدة : 3 ] .
[ ص: 230 ] فصاحب الرأي يقول :
nindex.php?page=treesubj&link=21858الشريعة كلها ترجع إلى حفظ مصالح العباد ودرء مفاسدهم ، وعلى ذلك دلت أدلتها عموما وخصوصا ، دل على ذلك الاستقراء ، فكل فرد جاء مخالفا فليس بمعتبر شرعا ؛ إذ قد شهد الاستقراء بما يعتبر مما لا يعتبر ، لكن على وجه كلي عام ، فهذا الخاص المخالف يجب رده وإعمال مقتضى الكلي العام ؛ لأن دليله قطعي ، ودليل الخاص ظني ، فلا يتعارضان .
والظاهري يقول : الشريعة إنما جاءت لابتلاء المكلفين أيهم أحسن عملا ، ومصالحهم تجري على حسب ما أجراها الشارع ، لا على حسب أنظارهم ، فنحن من اتباع مقتضى النصوص على يقين في الإصابة ، من حيث إن الشارع إنما تعبدنا بذلك ، واتباع المعاني رأي ، فكل ما خالف النصوص منه غير معتبر ؛ لأنه أمر خاص مخالف لعام الشريعة ، والخاص الظني لا يعارض العام القطعي .
فأصحاب الرأي جردوا المعاني ، فنظروا في الشريعة بها ، واطرحوا خصوصيات الألفاظ ، والظاهرية جردوا مقتضيات الألفاظ ، فنظروا في الشريعة بها ، واطرحوا خصوصيات المعاني القياسية ، ولم تتنزل واحدة من الفرقتين إلى النظر فيما نظرت فيه الأخرى بناء على كلي ما اعتمدته في فهم الشريعة .
[ ص: 231 ] ويمكن أن يرجع إلى هذا القبيل ما خرج
ثابت في الدلائل عن
nindex.php?page=showalam&ids=16365عبد الصمد بن عبد الوارث قال : وجدت في كتاب جدي : أتيت
مكة ، فأصبت بها
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبا حنيفة ، nindex.php?page=showalam&ids=12526وابن أبي ليلى nindex.php?page=showalam&ids=16438، وابن شبرمة ، فأتيت
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبا حنيفة فقلت له : ما تقول في رجل باع بيعا واشترط شرطا ؟ قال : البيع باطل ، والشرط باطل ، وأتيت
nindex.php?page=showalam&ids=12526ابن أبي ليلى ، فقال : البيع جائز ، والشرط باطل ، وأتيت
ابن شبرمة ، فقال : البيع جائز ، والشرط جائز ، فقلت : سبحان الله ! ثلاثة من فقهاء
الكوفة يختلفون علينا في مسألة ، فأتيت
nindex.php?page=showalam&ids=11990أبا حنيفة فأخبرته بقولهما ، فقال : لا أدري ما قالا ، حدثني
nindex.php?page=showalam&ids=16709عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ،
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط ، فأتيت
nindex.php?page=showalam&ids=12526ابن أبي ليلى فأخبرته بقولهما ، فقال : لا أدري ما قالا ، حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=17245هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن
عائشة ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337934اشتري nindex.php?page=showalam&ids=216بريرة ، واشترطي لهم الولاء ، فإن الولاء لمن أعتق فأجاز البيع وأبطل الشرط ، فأتيت
ابن شبرمة فأخبرته بقولهما ، فقال : ما أدري ما قالاه ، حدثني
مسعود بن حكيم ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=16883محارب بن دثار ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=36جابر بن عبد الله قال :
" اشترى مني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقة فشرطت حملاني " فأجاز البيع والشرط . اهـ .
[ ص: 232 ] فيجوز أن يكون كل واحد منهم اعتمد في فتياه على كلية ما استفاد من حديثه ، ولم ير غيره من الجزئيات معارضا ، فاطرح الاعتماد عليه ، والله أعلم .
والحال الثالث : أن يخوض فيما خاض فيه الطرفان ، ويتحقق بالمعاني الشرعية منزلة على الخصوصيات الفرعية ، بحيث لا يصده التبحر في الاستبصار بطرف عن التبحر في الاستبصار بالطرف الآخر ، فلا هو يجري على عموم واحد منهما دون أن يعرضه على الآخر ، ثم يلتفت مع ذلك إلى تنزل ما تلخص له على ما يليق في أفعال المكلفين ، فهو في الحقيقة راجع إلى الرتبة التي ترقى منها ، لكن بعلم المقصود الشرعي في كل جزئي فيها عموما وخصوصا .
وهذه الرتبة لا خلاف في صحة الاجتهاد من صاحبها ، وحاصله أنه متمكن فيها ، حاكم لها ، غير مقهور فيها ، بخلاف ما قبلها ، فإن صاحبها محكوم عليه فيها ، ولذلك قد تستفزه معانيها الكلية عن الالتفات إلى الخصوصيات ، وكل رتبة حكمت على صاحبها دلت على عدم رسوخه فيها ، وإن كانت محكوما
[ ص: 233 ] عليها تحت نظره وقهره ، فهو صاحب التمكين والرسوخ ، فهو الذي يستحق الانتصاب للاجتهاد ، والتعرض للاستنباط ، وكثيرا ما يختلط أهل الرتبة الوسطى بأهل هذه الرتبة ، فيقع النزاع في الاستحقاق أو عدمه ، والله أعلم .
ويسمى صاحب هذه المرتبة : الرباني ، والحكيم ، والراسخ في العلم ، والعالم ، والفقيه ، والعاقل ؛ لأنه يربى بصغار العلم قبل كباره ، ويوفي كل أحد حقه حسبما يليق به ، وقد تحقق بالعلم ، وصار له كالوصف المجبول عليه ، وفهم عن الله مراده من شريعته .
ومن خاصيته أمران :
أحدهما : أنه يجيب السائل على ما يليق به في حالته على الخصوص إن كان له في المسألة حكم خاص ، بخلاف صاحب الرتبة الثانية ، فإنه إنما يجيب من رأس الكلية من غير اعتبار بخاص .
والثاني : أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات ، وصاحب الثانية لا ينظر في ذلك ، ولا يبالي بالمآل إذا ورد عليه أمر أو نهي أو غيرهما ، وكان في مساقه كليا ، ولهذا الموضع أمثلة كثيرة تقدم منها جملة في مسألة الاستحسان ومسألة اعتبار المآل ، وفي مذهب
مالك من ذلك كثير .
[ ص: 224 ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ
مَرَّ الْكَلَامُ فِيمَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ الْمُجْتَهِدُ مِنَ الْعُلُومِ ، وَأَنَّهُ إِذَا حَصَّلَهَا فَلَهُ الِاجْتِهَادُ بِالْإِطْلَاقِ .
وَبَقِيَ النَّظَرُ فِي
nindex.php?page=treesubj&link=22246الْمِقْدَارِ الَّذِي إِذَا وَصَلَ إِلَيْهِ فِيهَا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْخِطَابُ بِالِاجْتِهَادِ بِمَا أَرَاهُ اللَّهُ ، وَذَلِكَ أَنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ إِذَا اسْتَمَرَّ فِي طَلَبِهِ مَرَّتْ عَلَيْهِ أَحْوَالٌ ثَلَاثَةٌ :
أَحَدُهَا : أَنْ يَتَنَبَّهَ عَقْلُهُ إِلَى النَّظَرِ فِيمَا حَفِظَ ، وَالْبَحْثِ عَنْ أَسْبَابِهِ ، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ هَذَا عَنْ شُعُورٍ بِمَعْنَى مَا حَصَّلَ ، لَكِنَّهُ مُجْمَلٌ بَعْدُ ، وَرُبَّمَا ظَهَرَ لَهُ فِي بَعْضِ أَطْرَافِ الْمَسَائِلِ جُزْئِيًّا لَا كُلِّيًّا ، وَرُبَّمَا لَمْ يَظْهَرْ بَعْدُ ، فَهُوَ يُنْهِي الْبَحْثَ نِهَايَتَهُ وَمُعَلِّمُهُ عِنْدَ ذَلِكَ يُعِينُهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ فِي تِلْكَ الرُّتْبَةِ ، وَيَرْفَعُ عَنْهُ أَوْهَامًا وَإِشْكَالَاتٍ تَعْرِضُ لَهُ فِي طَرِيقِهِ ، يَهْدِيهِ إِلَى مَوَاقِعِ إِزَالَتِهَا وَيُطَارِحُهُ فِي الْجَرَيَانِ عَلَى مَجْرَاهُ ، مُثَبِّتًا قَدَمَهُ ، وَرَافِعًا وَحْشَتَهُ ، وَمُؤَدِّبًا لَهُ حَتَّى يَتَسَنَّى لَهُ النَّظَرُ وَالْبَحْثُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ .
فَهَذَا الطَّالِبُ حِينَ بَقَائِهِ هُنَا ، يُنَازِعُ الْمَوَارِدَ الشَّرْعِيَّةَ وَتُنَازِعُهُ ، وَيُعَارِضُهَا وَتُعَارِضُهُ ، طَمَعًا فِي إِدْرَاكِ أُصُولِهَا ، وَالِاتِّصَالِ بِحِكَمِهَا وَمَقَاصِدِهَا ، وَلَمْ تَتَلَخَّصْ لَهُ بَعْدُ - لَا يَصِحُّ مِنْهُ الِاجْتِهَادُ فِيمَا هُوَ نَاظِرٌ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّصْ لَهُ مُسْتَنَدُ الِاجْتِهَادِ ، وَلَا هُوَ مِنْهُ عَلَى بَيِّنَةٍ بِحَيْثُ يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ بِمَا يَجْتَهِدُ فِيهِ ، فَاللَّازِمُ لَهُ الْكَفُّ وَالتَّقْلِيدُ .
[ ص: 225 ] وَالثَّانِي : أَنْ يَنْتَهِيَ بِالنَّظَرِ إِلَى تَحْقِيقِ مَعْنَى مَا حَصَلَ عَلَى حَسَبِ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِ الْبُرْهَانُ الشَّرْعِيُّ ، بِحَيْثُ يَحْصُلُ لَهُ الْيَقِينُ ، وَلَا يُعَارِضُهُ شَكٌّ ، بَلْ تَصِيرُ الشُّكُوكُ - إِذَا أُورِدَتْ عَلَيْهِ - كَالْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ مَا فِي يَدَيْهِ ، فَهُوَ يَتَعَجَّبُ مِنَ الْمُتَشَكِّكِ فِي مَحْصُولِهِ كَمَا يَتَعَجَّبُ مِنْ ذِي عَيْنَيْنِ لَا يَرَى ضَوْءَ النَّهَارِ ، لَكِنَّهُ اسْتَمَرَّ بِهِ الْحَالُ إِلَى أَنْ زَلَّ مَحْفُوظُهُ عَنْ حِفْظِهِ حُكْمًا ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَهُ ، فَلَا يُبَالِي فِي الْقَطْعِ عَلَى الْمَسَائِلِ ، أَنُصَّ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى خِلَافِهَا أَمْ لَا .
فَإِذَا حَصَلَ الطَّالِبُ عَلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ ، فَهَلْ يَصِحُّ مِنْهُ الِاجْتِهَادُ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَمْ لَا ؟ هَذَا مَحَلُّ نَظَرٍ وَالْتِبَاسٍ ، وَمِمَّا يَقَعُ فِيهِ الْخِلَافُ .
[ ص: 226 ] وَلِلْمُحْتَجِّ لِلْجَوَازِ أَنْ يَقُولَ : إِنَّ الْمَقْصُودَ الشَّرْعِيَّ إِذَا كَانَ هَذَا الطَّالِبُ قَدْ صَارَ لَهُ أَوْضَحَ مِنَ الشَّمْسِ ، وَتَبَيَّنَتْ لَهُ مَعَانِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ حَتَّى الْتَأَمَتْ ، وَصَارَ بَعْضُهَا عَاضِدًا لِلْبَعْضِ ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ فِي الْعِلْمِ بِحَقَائِقِهَا مَطْلَبٌ ، فَالَّذِي حَصَلَ عِنْدَهُ هُوَ كُلِّيَّةُ الشَّرِيعَةِ ، وَعُمْدَةُ النِّحْلَةِ ، وَمَنْبَعُ التَّكْلِيفِ ، فَلَا عَلَيْهِ أَنَظَرَ فِي خُصُوصِيَّاتِهَا الْمَنْصُوصَةِ أَوْ مَسَائِلِهَا الْجُزْئِيَّةِ أَمْ لَا ، إِذْ لَا يَزِيدُهُ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ زِيَادَةً ، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وَاصِلًا بَعْدُ إِلَى هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ ، وَقَدْ فَرَضْنَاهُ وَاصِلًا ، هَذَا خَلْفٌ .
وَوَجْهٌ ثَانٍ ، وَهُوَ أَنَّ النَّظَرَ فِي الْجُزْئِيَّاتِ وَالْمَنْصُوصَاتِ إِنَّمَا مَقْصُودُهُ التَّوَصُّلُ إِلَى ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ الْكُلِّيِّ الشَّرْعِيِّ ، حَتَّى يَبْنِيَ عَلَيْهِ فُتْيَاهُ ، وَيَرُدَّ إِلَيْهِ حُكْمَ اجْتِهَادِهِ ، فَإِذَا كَانَ حَاصِلًا فَالتَّنَزُّلُ إِلَى الْجُزْئِيَّاتِ طَلَبٌ لِتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ ، وَهُوَ مُحَالٌ .
وَوَجْهٌ ثَالِثٌ ، وَهُوَ أَنَّ كُلِّيَّ الْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ إِنَّمَا انْتَظَمَ لَهُ مِنَ التَّفَقُّهِ فِي الْجُزْئِيَّاتِ وَالْخُصُوصِيَّاتِ وَبِمَعَانِيهَا تَرْقَى إِلَى مَا تَرْقَى إِلَيْهِ ، فَإِنْ تَكُنْ فِي الْحَالِ
[ ص: 227 ] غَيْرَ حَاكِمَةٍ عِنْدَهُ لِاسْتِيلَاءِ الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ ، فَهِيَ حَاكِمَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْكُلِّيَّ مِنْهَا انْتَظَمَ ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا تَجِدُ صَاحِبَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ يَقْطَعُ بِالْحُكْمِ بِأَمْرٍ إِلَّا وَقَامَتْ لَهُ الْأَدِلَّةُ الْجُزْئِيَّةُ عَاضِدَةً وَنَاصِرَةً ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ تُعَضِّدْهُ وَلَا نَصَرَتْهُ ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مُتَمَكِّنٌ جِدًّا مِنَ الِاسْتِنْبَاطِ وَالِاجْتِهَادِ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
وَلِلْمَانِعِ أَنْ يَحْتَجَّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ أَوْجُهٍ :
- مِنْهَا أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ إِذَا فَاجَأَتْهُ حَقَائِقُهَا ، وَتَعَاضَدَتْ مَرَامِيهَا ، وَاتَّصَلَ لَهُ بِالْبُرْهَانِ مَا كَانَ مِنْهَا عِنْدَهُ مَقْطُوعًا حَتَّى صَارَتِ الشَّرِيعَةُ فِي حَقِّهِ أَمْرًا مُتَّحِدًا ، وَمَسْلَكًا مُنْتَظِمًا ، لَا يَزِلُّ عَنْهُ مِنْ مَوَارِدِهَا فَرْدٌ ، وَلَا يَشِذُّ لَهُ عَنِ الِاعْتِبَارِ مِنْهَا خَاصٌّ إِلَّا وَهُوَ مَأْخُوذٌ بِطَرَفٍ لَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِهِ عَنْ طَرَفٍ آخَرَ لَا بُدَّ أَيْضًا مِنِ اعْتِبَارِهِ ؛ إِذْ قَدْ تَبَيَّنَ فِي كِتَابِ الْأَدِلَّةِ أَنَّ اعْتِبَارَ الْكُلِّيِّ مَعَ اطِّرَاحِ الْجُزْئِيِّ خَطَأٌ كَمَا فِي الْعَكْسِ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَسْتَحِقَّ مَنْ هَذَا حَالُهُ أَنْ يَتَرَقَّى إِلَى دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ حَتَّى يُكْمِلَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكْمِيلِهِ .
وَمِنْهَا : أَنَّ لِلْخُصُوصِيَّاتِ خَوَاصَّ يَلِيقُ بِكُلِّ مَحَلٍّ مِنْهَا مَا لَا يَلِيقُ بِمَحَلٍّ
[ ص: 228 ] آخَرَ كَمَا فِي النِّكَاحِ مَثَلًا ، فَإِنَّهُ لَا يَسُوغُ أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْمُعَاوَضَاتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَسُوغُ أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْهِبَاتِ وَالنِّحَلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَكَمَا فِي مَالِ الْعَبْدِ ، وَثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ ، وَالْقَرْضِ ، وَالْعَرَايَا ، وَضَرْبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَالْقِرَاضِ ، وَالْمُسَاقَاةِ ، بَلْ لِكُلِّ بَابٍ مَا يَلِيقُ بِهِ ، وَلِكُلِّ خَاصٍّ خَاصِّيَّةٌ تَلِيقُ بِهِ لَا تَلِيقُ بِغَيْرِهِ ، وَكَمَا فِي التَّرَخُّصَاتِ فِي الْعِبَادَاتِ ، وَالْعَادَاتِ ، وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ - وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْجَمِيعَ يَرْجِعُ مَثَلًا إِلَى حِفْظِ الضَّرُورِيَّاتِ ، وَالْحَاجِيَّاتِ ، وَالتَّكْمِيلِيَّاتِ - فَتَنْزِيلُ حِفْظِهَا فِي كُلِّ مَحَلٍّ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ لَا يُمْكِنُ ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ خُصُوصِيَّاتِ الْأَحْوَالِ وَالْأَبْوَابِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ الْجُزْئِيَّةِ ، فَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ الْخُصُوصِيَّاتُ فِي حُكْمِ التَّبَعِ الْحُكْمِيِّ ، لَا فِي حُكْمِ الْمَقْصُودِ الْعَيْنِيِّ بِحَسَبِ كُلِّ نَازِلَةٍ ، فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ لَهُ جَرَيَانُ ذَلِكَ الْكُلِّيِّ ، وَأَنَّهُ هُوَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ ؟ هَذَا لَا يَسْتَمِرُّ مَعَ الْحِفْظِ عَلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ .
- وَمِنْهَا : أَنَّ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ يَلْزَمُهَا إِذَا لَمْ يَعْتَبِرِ الْخُصُوصِيَّاتِ أَلَّا يَعْتَبِرَ مَحَالَّهَا ، وَهِيَ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ ، بَلْ كَمَا يُجْرِي الْكُلِّيَّاتِ فِي كُلِّ جُزْئِيَّةٍ عَلَى
[ ص: 229 ] الْإِطْلَاقِ يَلْزَمُهُ أَنْ يُجْرِيَهَا فِي كُلِّ مُكَلَّفٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِخُصُوصِيَّاتِهِمْ ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ كَذَلِكَ عَلَى مَا اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الْفَهْمُ فِي مَقَاصِدِ الشَّارِعِ ، فَلَا يَصِحُّ مَعَ هَذَا إِلَّا اعْتِبَارُ خُصُوصِيَّاتِ الْأَدِلَّةِ ، فَصَاحِبُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ لَا يُمْكِنُهُ التَّنَزُّلُ إِلَى مَا تَقْتَضِيهِ رُتْبَةُ الْمُجْتَهِدِ ، فَلَا يَسْتَقِيمُ مَعَ هَذَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ .
وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ لِكُلِّ احْتِمَالٍ مَأْخَذًا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ بِحَسَبِ النَّظَرِ الْحَقِيقِيِّ فِيهَا بَاقِيَةَ الْإِشْكَالِ .
وَمِنْ أَمْثِلَةِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مَذْهَبُ مَنْ نَفَى الْقِيَاسَ جُمْلَةً ، وَأَخَذَ بِالنُّصُوصِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَمَذْهَبُ مَنْ أَعْمَلَ الْقِيَاسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ مَا خَالَفَهُ مِنَ الْأَخْبَارِ جُمْلَةً ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ غَاصَ بِهِ الْفِكْرُ فِي مَنْحًى شَرْعِيٍّ مُطْلَقٍ عَامٍّ اطَّرَدَ لَهُ فِي جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ اطِّرَادًا لَا يُتَوَهَّمُ مَعَهُ فِي الشَّرِيعَةِ نَقْصٌ وَلَا تَقْصِيرٌ ، بَلْ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] .
[ ص: 230 ] فَصَاحِبُ الرَّأْيِ يَقُولُ :
nindex.php?page=treesubj&link=21858الشَّرِيعَةُ كُلُّهَا تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ وَدَرْءِ مَفَاسِدِهِمْ ، وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّتْ أَدِلَّتُهَا عُمُومًا وَخُصُوصًا ، دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الِاسْتِقْرَاءُ ، فَكُلُّ فَرْدٍ جَاءَ مُخَالِفًا فَلَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ شَرْعًا ؛ إِذْ قَدْ شَهِدَ الِاسْتِقْرَاءُ بِمَا يُعْتَبَرُ مِمَّا لَا يُعْتَبَرُ ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ كُلِّيٍّ عَامٍّ ، فَهَذَا الْخَاصُّ الْمُخَالِفُ يَجِبُ رَدُّهُ وَإِعْمَالُ مُقْتَضَى الْكُلِّيِّ الْعَامِّ ؛ لِأَنَّ دَلِيلَهُ قَطْعِيٌّ ، وَدَلِيلَ الْخَاصِّ ظَنِّيٌّ ، فَلَا يَتَعَارَضَانِ .
وَالظَّاهِرِيُّ يَقُولُ : الشَّرِيعَةُ إِنَّمَا جَاءَتْ لِابْتِلَاءِ الْمُكَلَّفِينَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ، وَمَصَالِحُهُمْ تَجْرِي عَلَى حَسَبِ مَا أَجْرَاهَا الشَّارِعُ ، لَا عَلَى حَسَبِ أَنْظَارِهِمْ ، فَنَحْنُ مِنَ اتِّبَاعِ مُقْتَضَى النُّصُوصِ عَلَى يَقِينٍ فِي الْإِصَابَةِ ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا تَعَبَّدَنَا بِذَلِكَ ، وَاتِّبَاعُ الْمَعَانِي رَأْيٌ ، فَكُلُّ مَا خَالَفَ النُّصُوصَ مِنْهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ خَاصٌّ مُخَالِفٌ لِعَامِّ الشَّرِيعَةِ ، وَالْخَاصُّ الظَّنِّيُّ لَا يُعَارِضُ الْعَامَّ الْقَطْعِيَّ .
فَأَصْحَابُ الرَّأْيِ جَرَّدُوا الْمَعَانِيَ ، فَنَظَرُوا فِي الشَّرِيعَةِ بِهَا ، وَاطَّرَحُوا خُصُوصِيَّاتِ الْأَلْفَاظِ ، وَالظَّاهِرِيَّةُ جَرَّدُوا مُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ ، فَنَظَرُوا فِي الشَّرِيعَةِ بِهَا ، وَاطَّرَحُوا خُصُوصِيَّاتِ الْمَعَانِي الْقِيَاسِيَّةِ ، وَلَمْ تَتَنَزَّلْ وَاحِدَةٌ مِنَ الْفِرْقَتَيْنِ إِلَى النَّظَرِ فِيمَا نَظَرَتْ فِيهِ الْأُخْرَى بِنَاءً عَلَى كُلِّيِّ مَا اعْتَمَدَتْهُ فِي فَهْمِ الشَّرِيعَةِ .
[ ص: 231 ] وَيُمْكِنُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى هَذَا الْقَبِيلِ مَا خَرَّجَ
ثَابِتٌ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16365عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ قَالَ : وَجَدْتُ فِي كِتَابِ جَدِّي : أَتَيْتُ
مَكَّةَ ، فَأَصَبْتُ بِهَا
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبَا حَنِيفَةَ ، nindex.php?page=showalam&ids=12526وَابْنَ أَبِي لَيْلَى nindex.php?page=showalam&ids=16438، وَابْنَ شُبْرُمَةَ ، فَأَتَيْتُ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبَا حَنِيفَةَ فَقُلْتُ لَهُ : مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ بَاعَ بَيْعًا وَاشْتَرَطَ شَرْطًا ؟ قَالَ : الْبَيْعُ بَاطِلٌ ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ، وَأَتَيْتُ
nindex.php?page=showalam&ids=12526ابْنَ أَبِي لَيْلَى ، فَقَالَ : الْبَيْعُ جَائِزٌ ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ، وَأَتَيْتُ
ابْنَ شُبْرُمَةَ ، فَقَالَ : الْبَيْعُ جَائِزٌ ، وَالشَّرْطُ جَائِزٌ ، فَقُلْتُ : سُبْحَانَ اللَّهِ ! ثَلَاثَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ
الْكُوفَةِ يَخْتَلِفُونَ عَلَيْنَا فِي مَسْأَلَةٍ ، فَأَتَيْتُ
nindex.php?page=showalam&ids=11990أَبَا حَنِيفَةَ فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِهِمَا ، فَقَالَ : لَا أَدْرِي مَا قَالَا ، حَدَّثَنِي
nindex.php?page=showalam&ids=16709عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ ، فَأَتَيْتُ
nindex.php?page=showalam&ids=12526ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِهِمَا ، فَقَالَ : لَا أَدْرِي مَا قَالَا ، حَدَّثَنَا
nindex.php?page=showalam&ids=17245هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ
عَائِشَةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337934اشْتَرِي nindex.php?page=showalam&ids=216بَرِيرَةَ ، وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلَاءَ ، فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ فَأَجَازَ الْبَيْعَ وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ ، فَأَتَيْتُ
ابْنَ شُبْرُمَةَ فَأَخْبَرْتُهُ بِقَوْلِهِمَا ، فَقَالَ : مَا أَدْرِي مَا قَالَاهُ ، حَدَّثَنِي
مَسْعُودُ بْنُ حَكِيمٍ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16883مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ ، عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=36جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ :
" اشْتَرَى مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاقَةً فَشَرَطْتُ حُمْلَانِي " فَأَجَازَ الْبَيْعَ وَالشَّرْطَ . اهـ .
[ ص: 232 ] فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ اعْتَمَدَ فِي فُتْيَاهُ عَلَى كُلِّيَّةِ مَا اسْتَفَادَ مِنْ حَدِيثِهِ ، وَلَمْ يَرَ غَيْرَهُ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ مُعَارِضًا ، فَاطَّرَحَ الِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالْحَالُ الثَّالِثُ : أَنْ يَخُوضَ فِيمَا خَاضَ فِيهِ الطَّرَفَانِ ، وَيَتَحَقَّقُ بِالْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ مُنَزَّلَةً عَلَى الْخُصُوصِيَّاتِ الْفَرْعِيَّةِ ، بِحَيْثُ لَا يَصُدُّهُ التَّبَحُّرُ فِي الِاسْتِبْصَارِ بِطَرَفٍ عَنِ التَّبَحُّرِ فِي الِاسْتِبْصَارِ بِالطَّرَفِ الْآخَرِ ، فَلَا هُوَ يَجْرِي عَلَى عُمُومٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دُونَ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى الْآخَرِ ، ثُمَّ يَلْتَفِتُ مَعَ ذَلِكَ إِلَى تَنَزُّلِ مَا تَلَخَّصَ لَهُ عَلَى مَا يَلِيقُ فِي أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ ، فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إِلَى الرُّتْبَةِ الَّتِي تَرْقَى مِنْهَا ، لَكِنْ بِعِلْمِ الْمَقْصُودِ الشَّرْعِيِّ فِي كُلِّ جُزْئِيٍّ فِيهَا عُمُومًا وَخُصُوصًا .
وَهَذِهِ الرُّتْبَةُ لَا خِلَافَ فِي صِحَّةِ الِاجْتِهَادِ مِنْ صَاحِبِهَا ، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ فِيهَا ، حَاكِمٌ لَهَا ، غَيْرُ مَقْهُورٍ فِيهَا ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا ، فَإِنَّ صَاحِبَهَا مَحْكُومٌ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَلِذَلِكَ قَدْ تَسْتَفِزُّهُ مَعَانِيهَا الْكُلِّيَّةُ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْخُصُوصِيَّاتِ ، وَكُلُّ رُتْبَةٍ حَكَمَتْ عَلَى صَاحِبِهَا دَلَّتْ عَلَى عَدَمِ رُسُوخِهِ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مَحْكُومًا
[ ص: 233 ] عَلَيْهَا تَحْتَ نَظَرِهِ وَقَهْرِهِ ، فَهُوَ صَاحِبُ التَّمْكِينِ وَالرُّسُوخِ ، فَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الِانْتِصَابَ لِلِاجْتِهَادِ ، وَالتَّعَرُّضَ لِلِاسْتِنْبَاطِ ، وَكَثِيرًا مَا يَخْتَلِطُ أَهْلُ الرُّتْبَةِ الْوُسْطَى بِأَهْلِ هَذِهِ الرُّتْبَةِ ، فَيَقَعُ النِّزَاعُ فِي الِاسْتِحْقَاقِ أَوْ عَدَمِهِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَيُسَمَّى صَاحِبُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ : الرَّبَّانِيَّ ، وَالْحَكِيمَ ، وَالرَّاسِخَ فِي الْعِلْمِ ، وَالْعَالِمَ ، وَالْفَقِيهَ ، وَالْعَاقِلَ ؛ لِأَنَّهُ يُرَبَّى بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ ، وَيُوُفِّي كُلَّ أَحَدٍ حَقَّهُ حَسْبَمَا يَلِيقُ بِهِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ بِالْعِلْمِ ، وَصَارَ لَهُ كَالْوَصْفِ الْمَجْبُولِ عَلَيْهِ ، وَفَهِمَ عَنِ اللَّهِ مُرَادَهُ مِنْ شَرِيعَتِهِ .
وَمِنْ خَاصِّيَتِهِ أَمْرَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُجِيبُ السَّائِلَ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ فِي حَالَتِهِ عَلَى الْخُصُوصِ إِنْ كَانَ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ حُكْمٌ خَاصٌّ ، بِخِلَافِ صَاحِبِ الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُجِيبُ مِنْ رَأْسِ الْكُلِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارٍ بِخَاصٍّ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ نَاظِرٌ فِي الْمَآلَاتِ قَبْلَ الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالَاتِ ، وَصَاحِبُ الثَّانِيَةِ لَا يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يُبَالِي بِالْمَآلِ إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ أَوْ غَيْرُهُمَا ، وَكَانَ فِي مَسَاقِهِ كُلِّيًّا ، وَلِهَذَا الْمَوْضِعِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ تَقَدَّمَ مِنْهَا جُمْلَةٌ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِحْسَانِ وَمَسْأَلَةِ اعْتِبَارِ الْمَآلِ ، وَفِي مَذْهَبِ
مَالِكٍ مِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ .