[ ص: 234 ] المسألة الرابعة عشرة
تقدم التنبيه على طرف من الاجتهاد الخاص بالعلماء ، والعام لجميع المكلفين ، ولكن لا بد من إعادة شيء من ذلك على وجه يوضح النوعين ، ويبين جهة المأخذ في الطريقين .
وبيان ذلك أن
nindex.php?page=treesubj&link=28889المشروعات المكية وهي الأولية كانت في غالب الأحوال مطلقة غير مقيدة ، وجارية على ما تقتضيه مجاري العادات عند أرباب العقول ، وعلى ما تحكمه قضايا مكارم الأخلاق من التلبس بكل ما هو معروف في محاسن العادات ، والتباعد عن كل ما هو منكر في محاسن العادات ، فيما سوى ما العقل معزول عن تقريره جملة من حدود الصلوات وما أشبهها ، فكان أكثر ذلك موكولا إلى أنظار المكلفين في تلك العادات ، ومصروفا إلى اجتهادهم ليأخذ كل بما لاق به ، وما قدر عليه من تلك المحاسن الكليات ، وما استطاع من تلك المكارم في التوجه بها للواحد المعبود ، من إقامة الصلوات فرضها ونفلها حسبما بينه الكتاب والسنة ، وإنفاق الأموال في إعانة المحتاجين ، ومواساة الفقراء والمساكين من غير تقدير مقرر في الشريعة ، وصلة الأرحام قربت أو بعدت على حسب ما تستحسنه العقول السليمة في ذلك الترتيب ، ومراعاة حقوق الجوار ، وحقوق الملة الجامعة بين الأقارب والأجانب ، وإصلاح ذات البين بالنسبة إلى جميع الخلق ، والدفع بالتي هي أحسن ، وما أشبه ذلك من المشروعات المطلقة التي لم ينص على تقييدها بعد .
[ ص: 235 ] وكذلك الأمر فيما نهي عنه من المنكرات والفواحش على مراتبها في القبح ، فإنهم كانوا مثابرين على مجانبتها مثابرتهم على التلبس بالمحاسن .
فكان المسلمون في تلك الأحيان آخذين فيها بأقصى مجهودهم ، وعاملين على مقتضاها بغاية موجودهم ، وهكذا بعد ما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى
المدينة ، وبعد وفاته ، وفي زمان التابعين ، إلا أن خطة الإسلام لما اتسعت ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ربما وقعت بينهم مشاحات في المعاملات ، ومطالبات بأقصى ما يحق لهم في مقطع الحق ، أو عرضت لهم خصوصيات ضروريات تقتضي أحكاما خاصة ، أو بدرت من بعضهم فلتات في مخالفة المشروعات ، وارتكاب الممنوعات ، فاحتاجوا عند ذلك إلى حدود تقتضيها تلك العوارض الطارئة ، ومشروعات تكمل لهم تلك المقدمات ، وتقييدات تفصل لهم بين الواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات ؛ إذ كان أكثرها جزئيات لا تستقل بإدراكها العقول السليمة ، فضلا عن غيرها ، كما لم تستقل بأصول العبادات ، وتفاصيل التقربات ، ولا سيما حين دخل في الإسلام من لم يكن لعقله ذلك النفوذ من عربي أو غيره ، أو من كان على عادة في الجاهلية وضري على استحسانها فريقه ، ومال إليها طبعه ، وهي في نفسها على غير ذلك ، وكذلك الأمور التي كانت لها في عادات الجاهلية جريان لمصالح رأوها ، وقد شابها مفاسد مثلها أو أكثر ، هذا إلى ما أمر الله به
[ ص: 236 ] [ ص: 237 ] من فرض الجهاد حين قووا على عدوهم ، وطولبوا بدعائهم الخلق إلى الملة الحنيفية ، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فأنزل الله تعالى ما يبين لهم كل ما احتاجوا إليه بغاية البيان : تارة بالقرآن ، وتارة بالسنة ، فتفصلت تلك المجملات المكية ، وتبينت تلك المحتملات ، وقيدت تلك المطلقات ، وخصصت بالنسخ أو غيره تلك العمومات ليكون ذلك الباقي المحكم قانونا مطردا ، وأصلا مستنا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وليكون ذلك تماما
[ ص: 238 ] لتلك الكليات المقدمة ، وبناء على تلك الأصول المحكمة ، فضلا من الله ونعمة .
فالأصول الأول باقية ، لم تتبدل ولم تنسخ ؛ لأنها في عامة الأمر كليات ضروريات ، وما لحق بها ، وإنما وقع النسخ أو البيان على وجهه عند الأمور المتنازع فيها من الجزئيات لا الكليات .
وهذا كله ظاهر لمن نظر في الأحكام المكية مع الأحكام المدنية ، فإن الأحكام المكية مبنية على الإنصاف من النفس ، وبذل المجهود في الامتثال بالنسبة إلى حقوق الله أو حقوق الآدميين .
وأما
nindex.php?page=treesubj&link=28889الأحكام المدنية ، فمنزلة في الغالب على وقائع لم تكن فيما تقدم من بعض المنازعات والمشاحات ، والرخص ، والتخفيفات ، وتقرير العقوبات - في الجزئيات لا الكليات ، فإن الكليات كانت مقررة محكمة بمكة - وما أشبه ذلك مع بقاء الكليات المكية على حالها ، ولذلك يؤتى بها في السور المدنيات تقريرا ، وتأكيدا فكملت جملة الشريعة - والحمد لله - بالأمرين ، وتمت واسطتها بالطرفين ، فقال الله تعالى عند ذلك :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [ المائدة : 3 ] .
وإنما عنى الفقهاء بتقرير الحدود والأحكام الجزئيات التي هي مظان
[ ص: 239 ] التنازع والمشاحة والأخذ بالحظوظ الخاصة ، والعمل بمقتضى الطوارئ العارضة ، وكأنهم واقفون للناس في اجتهادهم على خط الفصل بين ما أحل الله وما حرم ، حتى لا يتجاوزوا ما أحل الله إلى ما حرم ، فهم يحققون للناس مناط هذه الأحكام بحسب الوقائع الخاصة ، حين صار التشاح ربما أدى إلى مقاربة الحد الفاصل ، فهم يزعونهم عن مقاربته ويمنعونهم عن مداخلة الحمى ، وإذا زل أحدهم يبين له الطريق الموصل إلى الخروج عن ذلك في كل جزئية آخذين بحجزهم تارة بالشدة ، وتارة باللين ، فهذا النمط هو كان مجال اجتهاد الفقهاء ، وإياه تحروا .
وأما سوى ذلك مما هو من أصول مكارم الأخلاق فعلا وتركا ، فلم يفصلوا القول فيه ؛ لأنه غير محتاج إلى التفصيل ، بل الإنسان في أكثر الأمر يستقل بإدراك العمل فيه ، فوكلوه إلى اختيار المكلف واجتهاده ؛ إذ كيف ما فعل فهو جار على موافقة أمر الشارع ونهيه ، وقد تشتبه فيه أمور ، ولكن بحسب قربها من الحد الفاصل ، فتكلم الفقهاء عليها من تلك الجهة فهو من القسم الأول ، فعلى هذا كل من كان بعده من ذلك الحد أكثر كان إغراقه في مقتضى الأصول الكلية أكثر .
وإذا نظرت إلى أوصاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله تبين لك فرق ما بين القسمين وبون ما بين المنزلتين ، وكذلك ما يؤثر من شيم الصحابة واتصافهم
[ ص: 240 ] بمقتضى تلك الأصول ، وعلى هذا القسم عول من شهر من أهل التصوف ، وبذلك سادوا غيرهم ممن لم يبلغ مبالغهم في الاتصاف بأوصاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، وأما غيرهم ممن حاز من الدنيا نصيبا فافتقر إلى النظر في هذه الجزئيات والوقائع الدائرة بين الناس في المعاملات والمناكحات ، فأجروها بالأصول الأولى على حسب ما استطاعوا ، وأجروها بالفروع الثواني حين اضطروا إلى ذلك ، فعاملوا ربهم في الجميع ، ولا يقدر على هذا إلا الموفق الفذ ، وهو كان شأن معاملات الصحابة كما نص عليه أصحاب السير .
ولم تزل الأصول يندرس العمل بمقتضاها لكثرة الاشتغال بالدنيا والتفريع فيها ، حتى صارت كالنسي المنسي ، وصار طالب العمل بها كالغريب المقصى عن أهله ، وهو داخل تحت معنى قوله - عليه الصلاة والسلام - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337935بدأ هذا الدين غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء .
[ ص: 241 ] فالحاصل من هذه الجملة أن النظر في الكليات يشارك الجمهور فيه العلماء على الجملة ، وأما النظر في الجزئيات فيختص بالعلماء ، واستقراء ما تقدم من الشريعة يبينه .
[ ص: 234 ] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ
تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى طَرَفٍ مِنَ الِاجْتِهَادِ الْخَاصِّ بِالْعُلَمَاءِ ، وَالْعَامِّ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ إِعَادَةِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يُوَضِّحُ النَّوْعَيْنِ ، وَيُبَيِّنُ جِهَةَ الْمَأْخَذِ فِي الطَّرِيقَيْنِ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28889الْمَشْرُوعَاتِ الْمَكِّيَّةَ وَهِيَ الْأَوَّلِيَّةُ كَانَتْ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ مُطْلَقَةً غَيْرَ مُقَيَّدَةٍ ، وَجَارِيَةً عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مَجَارِي الْعَادَاتِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْعُقُولِ ، وَعَلَى مَا تَحْكُمُهُ قَضَايَا مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ مِنَ التَّلَبُّسِ بِكُلِّ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَاسِنَ الْعَادَاتِ ، وَالتَّبَاعُدِ عَنْ كُلِّ مَا هُوَ مُنْكَرٌ فِي مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ ، فِيمَا سِوَى مَا الْعَقْلُ مَعْزُولٌ عَنْ تَقْرِيرِهِ جُمْلَةً مِنْ حُدُودِ الصَّلَوَاتِ وَمَا أَشْبَهَهَا ، فَكَانَ أَكْثَرُ ذَلِكَ مَوْكُولًا إِلَى أَنْظَارِ الْمُكَلَّفِينَ فِي تِلْكَ الْعَادَاتِ ، وَمَصْرُوفًا إِلَى اجْتِهَادِهِمْ لِيَأْخُذَ كُلٌّ بِمَا لَاقَ بِهِ ، وَمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْمَحَاسِنِ الْكُلِّيَّاتِ ، وَمَا اسْتَطَاعَ مِنْ تِلْكَ الْمَكَارِمِ فِي التَّوَجُّهِ بِهَا لِلْوَاحِدِ الْمَعْبُودِ ، مِنْ إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ فَرْضِهَا وَنَفْلِهَا حَسْبَمَا بَيَّنَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، وَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِي إِعَانَةِ الْمُحْتَاجِينَ ، وَمُوَاسَاةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ مُقَرَّرٍ فِي الشَّرِيعَةِ ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ قَرُبَتْ أَوْ بَعُدَتْ عَلَى حَسَبِ مَا تُسْتَحْسِنُهُ الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ فِي ذَلِكَ التَّرْتِيبِ ، وَمُرَاعَاةِ حُقُوقِ الْجِوَارِ ، وَحُقُوقِ الْمِلَّةِ الْجَامِعَةِ بَيْنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ ، وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ ، وَالدَّفْعِ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْمَشْرُوعَاتِ الْمُطْلَقَةِ الَّتِي لَمْ يُنَصَّ عَلَى تَقْيِيدِهَا بَعْدُ .
[ ص: 235 ] وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ الْمُنْكَرَاتِ وَالْفَوَاحِشِ عَلَى مَرَاتِبِهَا فِي الْقُبْحِ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُثَابِرِينَ عَلَى مُجَانَبَتِهَا مُثَابَرَتَهُمْ عَلَى التَّلَبُّسِ بِالْمَحَاسِنِ .
فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي تِلْكَ الْأَحْيَانِ آخِذِينَ فِيهَا بِأَقْصَى مَجْهُودِهِمْ ، وَعَامِلِينَ عَلَى مُقْتَضَاهَا بِغَايَةِ مَوْجُودِهِمْ ، وَهَكَذَا بَعْدَ مَا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى
الْمَدِينَةِ ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ ، وَفِي زَمَانِ التَّابِعِينَ ، إِلَّا أَنَّ خُطَّةَ الْإِسْلَامِ لَمَّا اتَّسَعَتْ ، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا رُبَّمَا وَقَعَتْ بَيْنَهُمْ مُشَاحَّاتٌ فِي الْمُعَامَلَاتِ ، وَمُطَالَبَاتٌ بِأَقْصَى مَا يَحِقُّ لَهُمْ فِي مَقْطَعِ الْحَقِّ ، أَوْ عَرَضَتْ لَهُمْ خُصُوصِيَّاتٌ ضَرُورِيَّاتٌ تَقْتَضِي أَحْكَامًا خَاصَّةً ، أَوْ بَدَرَتْ مِنْ بَعْضِهِمْ فَلَتَاتٌ فِي مُخَالَفَةِ الْمَشْرُوعَاتِ ، وَارْتِكَابِ الْمَمْنُوعَاتِ ، فَاحْتَاجُوا عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى حُدُودٍ تَقْتَضِيهَا تِلْكَ الْعَوَارِضُ الطَّارِئَةُ ، وَمَشْرُوعَاتٍ تُكْمِلُ لَهُمْ تِلْكَ الْمُقَدِّمَاتِ ، وَتَقْيِيدَاتٍ تَفْصِلُ لَهُمْ بَيْنَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ ؛ إِذْ كَانَ أَكْثَرُهَا جُزْئِيَّاتٍ لَا تَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِهَا الْعُقُولُ السَّلِيمَةُ ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهَا ، كَمَا لَمْ تَسْتَقِلَّ بِأُصُولِ الْعِبَادَاتِ ، وَتَفَاصِيلِ التَّقَرُّبَاتِ ، وَلَا سِيَّمَا حِينَ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْ لَمْ يَكُنْ لِعَقْلِهِ ذَلِكَ النُّفُوذُ مِنْ عَرَبِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ ، أَوْ مَنْ كَانَ عَلَى عَادَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَضُرِّيَ عَلَى اسْتِحْسَانِهَا فَرِيقُهُ ، وَمَالَ إِلَيْهَا طَبْعُهُ ، وَهِيَ فِي نَفْسِهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْأُمُورُ الَّتِي كَانَتْ لَهَا فِي عَادَاتِ الْجَاهِلِيَّةِ جَرَيَانٌ لِمَصَالِحَ رَأَوْهَا ، وَقَدْ شَابَهَا مَفَاسِدُ مِثْلُهَا أَوْ أَكْثَرُ ، هَذَا إِلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ
[ ص: 236 ] [ ص: 237 ] مِنْ فَرْضِ الْجِهَادِ حِينَ قَوُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ ، وَطُولِبُوا بِدُعَائِهِمُ الْخَلْقَ إِلَى الْمِلَّةِ الْحَنِيفِيَّةِ ، وَإِلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يُبَيِّنُ لَهُمْ كُلَّ مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ بِغَايَةِ الْبَيَانِ : تَارَةً بِالْقُرْآنِ ، وَتَارَةً بِالسُّنَّةِ ، فَتَفَصَّلَتْ تِلْكَ الْمُجْمَلَاتُ الْمَكِّيَّةُ ، وَتَبَيَّنَتْ تِلْكَ الْمُحْتَمَلَاتُ ، وَقُيِّدَتْ تِلْكَ الْمُطْلِقَاتُ ، وَخُصِّصَتْ بِالنَّسْخِ أَوْ غَيْرِهِ تِلْكَ الْعُمُومَاتُ لِيَكُونَ ذَلِكَ الْبَاقِي الْمُحْكَمُ قَانُونًا مُطَّرِدًا ، وَأَصْلًا مُسْتَنًّا إِلَى أَنْ يَرِثَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا ، وَلِيَكُونَ ذَلِكَ تَمَامًا
[ ص: 238 ] لِتِلْكَ الْكُلِّيَّاتِ الْمُقَدَّمَةِ ، وَبِنَاءً عَلَى تِلْكَ الْأُصُولِ الْمَحْكَمَةِ ، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً .
فَالْأُصُولُ الْأُوَلُ بَاقِيَةٌ ، لَمْ تَتَبَدَّلْ وَلَمْ تُنْسَخْ ؛ لِأَنَّهَا فِي عَامَّةِ الْأَمْرِ كُلِّيَّاتٌ ضَرُورِيَّاتٌ ، وَمَا لَحِقَ بِهَا ، وَإِنَّمَا وَقَعَ النَّسْخُ أَوِ الْبَيَانُ عَلَى وَجْهِهِ عِنْدَ الْأُمُورِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ لَا الْكُلِّيَّاتِ .
وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ لِمَنْ نَظَرَ فِي الْأَحْكَامِ الْمَكِّيَّةِ مَعَ الْأَحْكَامِ الْمَدَنِيَّةِ ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الْمَكِّيَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْإِنْصَافِ مِنَ النَّفْسِ ، وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي الِامْتِثَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حُقُوقِ اللَّهِ أَوْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=28889الْأَحْكَامُ الْمَدَنِيَّةُ ، فَمُنَزَّلَةٌ فِي الْغَالِبِ عَلَى وَقَائِعَ لَمْ تَكُنْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ بَعْضِ الْمُنَازَعَاتِ وَالْمُشَاحَّاتِ ، وَالرُّخَصِ ، وَالتَّخْفِيفَاتِ ، وَتَقْرِيرِ الْعُقُوبَاتِ - فِي الْجُزْئِيَّاتِ لَا الْكُلِّيَّاتِ ، فَإِنَّ الْكُلِّيَّاتِ كَانَتْ مُقَرَّرَةٌ مُحْكَمَةٌ بِمَكَّةَ - وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مَعَ بَقَاءِ الْكُلِّيَّاتِ الْمَكِّيَّةِ عَلَى حَالِهَا ، وَلِذَلِكَ يُؤْتَى بِهَا فِي السُّوَرِ الْمَدَنِيَّاتِ تَقْرِيرًا ، وَتَأْكِيدًا فَكَمُلَتْ جُمْلَةُ الشَّرِيعَةِ - وَالْحَمْدُ لِلَّهِ - بِالْأَمْرَيْنِ ، وَتَمَّتْ وَاسِطَتُهَا بِالطَّرَفَيْنِ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذَلِكَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=3الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [ الْمَائِدَةِ : 3 ] .
وَإِنَّمَا عَنَى الْفُقَهَاءُ بِتَقْرِيرِ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ الْجُزْئِيَّاتِ الَّتِي هِيَ مَظَانُّ
[ ص: 239 ] التَّنَازُعِ وَالْمُشَاحَّةِ وَالْأَخْذِ بِالْحُظُوظِ الْخَاصَّةِ ، وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الطَّوَارِئِ الْعَارِضَةِ ، وَكَأَنَّهُمْ وَاقِفُونَ لِلنَّاسِ فِي اجْتِهَادِهِمْ عَلَى خَطِّ الْفَصْلِ بَيْنَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَمَا حَرَّمَ ، حَتَّى لَا يَتَجَاوَزُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ إِلَى مَا حَرَّمَ ، فَهُمْ يُحَقِّقُونَ لِلنَّاسِ مَنَاطَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ الْخَاصَّةِ ، حِينَ صَارَ التَّشَاحُّ رُبَّمَا أَدَّى إِلَى مُقَارَبَةِ الْحَدِّ الْفَاصِلِ ، فَهُمْ يَزَعُونَهُمْ عَنْ مُقَارَبَتِهِ وَيَمْنَعُونَهُمْ عَنْ مُدَاخَلَةِ الْحِمَى ، وَإِذَا زَلَّ أَحَدُهُمْ يُبَيِّنُ لَهُ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلُ إِلَى الْخُرُوجِ عَنْ ذَلِكَ فِي كُلِّ جُزْئِيَّةٍ آخِذِينَ بِحُجَزِهِمْ تَارَةً بِالشِّدَّةِ ، وَتَارَةً بِاللِّينِ ، فَهَذَا النَّمَطُ هُوَ كَانَ مَجَالَ اجْتِهَادِ الْفُقَهَاءِ ، وَإِيَّاهُ تَحَرَّوْا .
وَأَمَّا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ أُصُولِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِعْلًا وَتَرْكًا ، فَلَمْ يُفَصِّلُوا الْقَوْلَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى التَّفْصِيلِ ، بَلِ الْإِنْسَانُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ يَسْتَقِلُّ بِإِدْرَاكِ الْعَمَلِ فِيهِ ، فَوَكَلُوهُ إِلَى اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ وَاجْتِهَادِهِ ؛ إِذْ كَيْفَ مَا فَعَلَ فَهُوَ جَارٍ عَلَى مُوَافَقَةِ أَمْرِ الشَّارِعِ وَنَهْيِهِ ، وَقَدْ تَشْتَبِهُ فِيهِ أُمُورٌ ، وَلَكِنْ بِحَسَبِ قُرْبِهَا مِنَ الْحَدِّ الْفَاصِلِ ، فَتَكَلُّمُ الْفُقَهَاءِ عَلَيْهَا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ فَهُوَ مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، فَعَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ كَانَ بُعْدُهُ مِنْ ذَلِكَ الْحَدِّ أَكْثَرَ كَانَ إِغْرَاقُهُ فِي مُقْتَضَى الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ أَكْثَرَ .
وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى أَوْصَافِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَفْعَالِهِ تَبَيَّنَ لَكَ فَرْقُ مَا بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ وَبَوْنُ مَا بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ ، وَكَذَلِكَ مَا يُؤْثَرُ مِنْ شِيَمِ الصَّحَابَةِ وَاتِّصَافِهِمْ
[ ص: 240 ] بِمُقْتَضَى تِلْكَ الْأُصُولِ ، وَعَلَى هَذَا الْقِسْمِ عَوَّلَ مَنْ شُهِرَ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ ، وَبِذَلِكَ سَادُوا غَيْرَهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ مَبَالِغَهُمْ فِي الِاتِّصَافِ بِأَوْصَافِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ حَازَ مِنَ الدُّنْيَا نَصِيبًا فَافْتَقَرَ إِلَى النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ وَالْوَقَائِعِ الدَّائِرَةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْمُنَاكَحَاتِ ، فَأَجْرَوْهَا بِالْأُصُولِ الْأُولَى عَلَى حَسَبِ مَا اسْتَطَاعُوا ، وَأَجْرَوْهَا بِالْفُرُوعِ الثَّوَانِي حِينَ اضْطُرُّوا إِلَى ذَلِكَ ، فَعَامَلُوا رَبَّهُمْ فِي الْجَمِيعِ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا إِلَّا الْمُوَفَّقُ الْفَذُّ ، وَهُوَ كَانَ شَأْنَ مُعَامَلَاتِ الصَّحَابَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَصْحَابُ السِّيَرِ .
وَلَمْ تَزَلِ الْأُصُولُ يَنْدَرِسُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا لِكَثْرَةِ الِاشْتِغَالِ بِالدُّنْيَا وَالتَّفْرِيعِ فِيهَا ، حَتَّى صَارَتْ كَالنَّسْيِ الْمَنْسِيِّ ، وَصَارَ طَالِبُ الْعَمَلِ بِهَا كَالْغَرِيبِ الْمُقْصَى عَنْ أَهْلِهِ ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتِ مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337935بَدَأَ هَذَا الدِّينُ غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ .
[ ص: 241 ] فَالْحَاصِلُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّ النَّظَرَ فِي الْكُلِّيَّاتِ يُشَارِكُ الْجُمْهُورُ فِيهِ الْعُلَمَاءَ عَلَى الْجُمْلَةِ ، وَأَمَّا النَّظَرُ فِي الْجُزْئِيَّاتِ فَيَخْتَصُّ بِالْعُلَمَاءِ ، وَاسْتِقْرَاءُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّرِيعَةِ يُبَيِّنُهُ .