[ ص: 267 ] المسألة الثالثة
تنبني على ما قبلها ، وهي أن
nindex.php?page=treesubj&link=22322الفتيا لا تصح من مخالف لمقتضى العلم ، وهذا وإن كان الأصوليون قد نبهوا عليه وبينوه ، فهو في كلامهم مجمل يحتمل البيان بالتفصيل المقرر في أقسام الفتيا .
فأما فتياه بالقول ، فإذا جرت أقواله على غير المشروع فلا يوثق بما يفتي به ، لإمكان جريانها كسائر أقواله على غير المشروع ، وهذا من جملة أقواله ، فيمكن جريانها على غير المشروع ، فلا يوثق بها .
وأما أفعاله ، فإذا جرت على خلاف أفعال أهل الدين والعلم ، لم يصح الاقتداء بها ، ولا جعلها أسوة في جملة أعمال السلف الصالح .
وكذلك إقراره ؛ لأنه من جملة أفعاله .
وأيضا ، فإن كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة عائد على صاحبيه بالتأثير ، فإن المخالف بجوارحه يدل على مخالفته في قوله ، والمخالف بقوله يدل على مخالفته بجوارحه ؛ لأن الجميع يستمد من أمر واحد قلبي .
هذا بيان عدم صحة الفتيا منه على الجملة .
[ ص: 268 ] وأما على التفصيل ، فإن المفتي إذا أمر مثلا بالصمت عما لا يعني ، فإن كان صامتا عما لا يعني ففتواه صادقة ، وإن كان من الخائضين فيما لا يعني فهي غير صادقة ، وإذا دلك على الزهد في الدنيا وهو زاهد فيها صدقت فتياه ، وإن كان راغبا في الدنيا فهي كاذبة ، وإن دلك على المحافظة على الصلاة وكان محافظا عليها صدقت فتياه ، وإلا فلا .
وعلى هذا الترتيب سائر أحكام الشريعة في الأوامر ، ومثلها النواهي ، فإذا نهى عن النظر إلى الأجنبيات من النساء ، وكان في نفسه منتهيا عنها صدقت فتياه ، أو نهى عن الكذب وهو صادق اللسان ، أو عن الزنى وهو لا يزني ، أو عن التفحش وهو لا يتفحش ، أو عن مخالطة الأشرار وهو لا يخالطهم ، وما أشبه ذلك ، فهو الصادق الفتيا ، والذي يقتدى بقوله ويقتدى بفعله ، وإلا فلا ؛ لأن علامة صدق القول مطابقة الفعل ، بل هو الصدق في الحقيقة عند العلماء ، ولذلك قال تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=23رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه [ الأحزاب : 23 ] .
وقال في ضده :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=75ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ، إلى قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=77وبما كانوا يكذبون [ التوبة : 75 - 77 ] .
فاعتبر في الصدق مطابقة القول الفعل ، وفي الكذب مخالفته .
وقال تعالى في الثلاثة الذين خلفوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=119يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين [ التوبة : 119 ] .
[ ص: 269 ] وهكذا إذا أخبر العالم عن الحكم أو أمر أو نهي فإنما ذلك مشترك بينه وبين سائر المكلفين في الحقيقة ، فإن وافق صدق ، وإن خالف كذب ، فالفتيا لا تصح مع المخالفة ، وإنما تصح مع الموافقة .
وحسب الناظر من ذلك سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - حيث كانت أفعاله مع أقواله على الوفاق والتمام ، حتى أنكر على من قال : يحل الله لرسوله ما شاء .
وحين سأله الرجل عن أمر ، فقال : إني أفعله ، فقال له : إنك لست مثلنا ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك ، وما تأخر ، غضب - صلى الله عليه وسلم - وقال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337949والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله ، وأعلمكم بما أتقي .
وفي القرآن عن
شعيب عليه السلام :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=89قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها [ الأعراف : 89 ] .
وقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=88وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه [ هود : 88 ] .
[ ص: 270 ] فبينت الآية أن مخالفة القول الفعل تقتضي كذب القول ، وهو مقتضى ما تقدم في المسألة قبل هذا ، وقد قالوا في عصمة الأنبياء قبل النبوة من الجهل بالله ، وعبادة غير الله : إن ذلك لأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله ، وهذا المعنى جار من باب أولى فيما بعد النبوة بالنسبة إلى فروع الملة فضلا عن أصولها ، فإنهم لو كانوا آمرين بالمعروف ولا يفعلونه ، وناهين عن المنكر ويأتونه - عياذا بالله من ذلك - لكان ذلك أولى منفر ، وأقرب صاد عن الاتباع ، فمن كان في رتبة الوراثة لهم ، فمن حقيقة نيله الرتبة ظهور الفعل على مصداق القول .
ولما نهى عن الربا قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337950وأول ربا أضعه ربا nindex.php?page=showalam&ids=18العباس بن عبد المطلب .
وحين وضع الدماء التي كانت في الجاهلية قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337951وأول دم أضعه دمنا دم nindex.php?page=showalam&ids=15886ربيعة بن الحارث .
[ ص: 271 ] وقال حين شفع له في حد السرقة :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337952والذي نفسي بيده ، لو سرقت nindex.php?page=showalam&ids=129فاطمة بنت رسول الله لقطعت يدها .
وكله ظاهر في المحافظة على مطابقة القول الفعل بالنسبة إليه وإلى قرابته ، وأن الناس في أحكام الله سواء .
والأدلة في هذا المعنى أكثر من أن تحصى .
وقد ذم الشرع الفاعل بخلاف ما يقول ، فقال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=44أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم الآية [ البقرة : 44 ] .
وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=2يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=3كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون [ الصف : 2 - 3 ] .
[ ص: 272 ] عن
جعفر بن برقان قال : سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=17188ميمون بن مهران يقول : إن القاص المتكلم ينتظر المقت ، والمستمع ينتظر الرحمة ، قلت : أرأيت قول الله :
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=2يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون الآية [ الصف : 2 ] هو الرجل يقرظ نفسه ، فيقول : فعلت كذا وكذا من الخير ؟ أو هو الرجل يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، وإن كان فيه تقصير ؟ فقال : كلاهما .
فإن قيل : إن كان كما قلت تعذر القيام بالفتوى ، وبالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وقد قال العلماء : إنه لا يلزم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون صاحبه مؤتمرا أو منتهيا ، وإلا أدى ذلك إلى خرم الأصل ، وقد مر أن كل تكملة أدت إلى انخرام الأصل المكمل غير معتبرة ، فكذلك هنا ، ومثله الانتصاب للفتوى ، ومن الذي يوجد لا يزل ، ولا يضل ، ولا يخالف قوله فعله ، ولا سيما في الأزمنة المتأخرة البعيدة عن زمان النبوة ؟
نعم ، لا إشكال في أن من طابق قوله فعله على الإطلاق هو المستحق للتقدم في هذه المراتب ، وأما أن يقال إذا عدم ذلك لم يصح الانتصاب هذا مشكل جدا .
[ ص: 273 ] فالجواب : أن هذا السؤال غير وارد على القصد المقرر ؛ لأنا إنما تكلمنا على صحة الانتصاب والانتفاع في الوقوع لا في الحكم الشرعي ، فنحن نقول : واجب على العالم المجتهد الانتصاب والفتوى على الإطلاق ، طابق قوله فعله أم لا ، لكن الانتفاع بفتواه لا يحصل ولا يطرد إن حصل ، وذلك أنه إن كان موافقا قوله لفعله حصل الانتفاع والاقتداء به في القول والفعل معا ، أو كان مظنة للحصول ؛ لأن الفعل يصدق القول أو يكذبه ، وإن خالف فعله قوله ، فإما أن تؤديه المخالفة إلى الانحطاط عن رتبة العدالة إلى الفسق أو لا ، فإن كان الأول فلا إشكال في عدم صحة الاقتداء ، وعدم صحة الانتصاب شرعا وعادة ، ومن اقتدى به كان مخالفا مثله ، فلا فتوى في الحقيقة ولا حكم ، وإن كان الثاني صح الاقتداء به واستفتاؤه وفتواه فيما وافق دون ما خالف ، فمن المعلوم كما تقدم أنه إذا أفتاك بترك الزنا والخمر وبالمحافظة على الواجبات ، وهو في فعله على حسب فتواه لك - حصل تصديق قوله بفعله ، وإذا أفتاك بالزهد في الدنيا أو ترك مخالطة المترفين أو نحو ذلك مما لا يقدح في أصل العدالة ثم رأيته يحرص على الدنيا ، ويخالط من نهاك عن مخالطتهم - فلم يصدق القول الفعل .
هذا وإن كان الشرع قد أمرك بمتابعة قوله ، فقد نصبه الشارع أيضا ليؤخذ بقوله وفعله ؛ لأنه وارث النبي فإذا خالف فقد خالف مقتضى المرتبة ، وكذب الفعل القول لما في الجبلات من جواذب التأسي بالأفعال .
[ ص: 274 ] فعلى كل تقدير لا يصح الاقتداء ، ولا الفتوى على كمالها في الصحة ، إلا مع مطابقة القول الفعل على الإطلاق ، وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=11822أبو الأسود الدؤلي :
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يسمع ما تقول ويقتدى
بالرأي منك وينفع التعليم لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
وهو معنى موافق للنقل والعقل ، لا خلاف فيه بين العقلاء .
[ ص: 267 ] الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
تَنْبَنِي عَلَى مَا قَبْلَهَا ، وَهِيَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=22322الْفُتْيَا لَا تَصِحُّ مِنْ مُخَالِفٍ لِمُقْتَضَى الْعِلْمِ ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ الْأُصُولِيُّونَ قَدْ نَبَّهُوا عَلَيْهِ وَبَيَّنُوهُ ، فَهُوَ فِي كَلَامِهِمْ مُجْمَلٌ يَحْتَمِلُ الْبَيَانَ بِالتَّفْصِيلِ الْمُقَرَّرِ فِي أَقْسَامِ الْفُتْيَا .
فَأَمَّا فُتْيَاهُ بِالْقَوْلِ ، فَإِذَا جَرَتْ أَقْوَالُهُ عَلَى غَيْرِ الْمَشْرُوعِ فَلَا يُوثَقُ بِمَا يُفْتِي بِهِ ، لِإِمْكَانِ جَرَيَانِهَا كَسَائِرِ أَقْوَالِهِ عَلَى غَيْرِ الْمَشْرُوعِ ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ أَقْوَالِهِ ، فَيُمْكِنُ جَرَيَانُهَا عَلَى غَيْرِ الْمَشْرُوعِ ، فَلَا يُوثَقُ بِهَا .
وَأَمَّا أَفْعَالُهُ ، فَإِذَا جَرَتْ عَلَى خِلَافِ أَفْعَالِ أَهْلِ الدِّينِ وَالْعَلَمِ ، لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهَا ، وَلَا جَعْلُهَا أُسْوَةً فِي جُمْلَةِ أَعْمَالِ السَّلَفِ الصَّالِحِ .
وَكَذَلِكَ إِقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَفْعَالِهِ .
وَأَيْضًا ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ عَائِدٌ عَلَى صَاحِبَيْهِ بِالتَّأْثِيرِ ، فَإِنَّ الْمُخَالِفَ بِجَوَارِحِهِ يَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَتِهِ فِي قَوْلِهِ ، وَالْمُخَالِفُ بِقَوْلِهِ يَدُلُّ عَلَى مُخَالَفَتِهِ بِجَوَارِحِهِ ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ يَسْتَمِدُّ مِنْ أَمْرٍ وَاحِدٍ قَلْبِيٍّ .
هَذَا بَيَانُ عَدَمِ صِحَّةِ الْفُتْيَا مِنْهُ عَلَى الْجُمْلَةِ .
[ ص: 268 ] وَأَمَّا عَلَى التَّفْصِيلِ ، فَإِنَّ الْمُفْتِيَ إِذَا أَمَرَ مَثَلًا بِالصَّمْتِ عَمًّا لَا يَعْنِي ، فَإِنْ كَانَ صَامِتًا عَمًّا لَا يَعْنِي فَفَتْوَاهُ صَادِقَةٌ ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْخَائِضِينَ فِيمَا لَا يَعْنِي فَهِيَ غَيْرُ صَادِقَةٍ ، وَإِذَا دَلَّكَ عَلَى الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ زَاهِدٌ فِيهَا صَدَقَتْ فُتْيَاهُ ، وَإِنْ كَانَ رَاغِبًا فِي الدُّنْيَا فَهِيَ كَاذِبَةٌ ، وَإِنْ دَلَّكَ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ وَكَانَ مُحَافِظًا عَلَيْهَا صَدَقَتْ فُتْيَاهُ ، وَإِلَّا فَلَا .
وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ سَائِرُ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ فِي الْأَوَامِرِ ، وَمِثْلُهَا النَّوَاهِي ، فَإِذَا نَهَى عَنِ النَّظَرِ إِلَى الْأَجْنَبِيَّاتِ مِنَ النِّسَاءِ ، وَكَانَ فِي نَفْسِهِ مُنْتَهِيًا عَنْهَا صَدَقَتْ فُتْيَاهُ ، أَوْ نَهَى عَنِ الْكَذِبِ وَهُوَ صَادِقُ اللِّسَانِ ، أَوْ عَنِ الزِّنَى وَهُوَ لَا يَزْنِي ، أَوْ عَنِ التَّفَحُّشِ وَهُوَ لَا يَتَفَحَّشُ ، أَوْ عَنْ مُخَالَطَةِ الْأَشْرَارِ وَهُوَ لَا يُخَالِطُهُمْ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، فَهُوَ الصَّادِقُ الْفُتْيَا ، وَالَّذِي يُقْتَدَى بِقَوْلِهِ وَيُقْتَدَى بِفِعْلِهِ ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّ عَلَامَةَ صِدْقِ الْقَوْلِ مُطَابَقَةُ الْفِعْلِ ، بَلْ هُوَ الصِّدْقُ فِي الْحَقِيقَةِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=33&ayano=23رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [ الْأَحْزَابِ : 23 ] .
وَقَالَ فِي ضِدِّهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=75وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ، إِلَى قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=77وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [ التَّوْبَةِ : 75 - 77 ] .
فَاعْتُبِرَ فِي الصِّدْقِ مُطَابَقَةُ الْقَوْلِ الْفِعْلَ ، وَفِي الْكَذِبِ مُخَالَفَتُهُ .
وَقَالَ تَعَالَى فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا :
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=119يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [ التَّوْبَةِ : 119 ] .
[ ص: 269 ] وَهَكَذَا إِذَا أَخْبَرَ الْعَالِمُ عَنِ الْحُكْمِ أَوْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ فَإِنَّمَا ذَلِكَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ فِي الْحَقِيقَةِ ، فَإِنْ وَافَقَ صَدَقَ ، وَإِنْ خَالَفَ كَذَبَ ، فَالْفُتْيَا لَا تَصِحُّ مَعَ الْمُخَالَفَةِ ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ مَعَ الْمُوَافَقَةِ .
وَحَسْبُ النَّاظِرِ مِنْ ذَلِكَ سَيِّدُ الْبَشَرِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ كَانَتْ أَفْعَالُهُ مَعَ أَقْوَالِهِ عَلَى الْوِفَاقِ وَالتَّمَامِ ، حَتَّى أَنْكَرَ عَلَى مَنْ قَالَ : يُحِلُّ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مَا شَاءَ .
وَحِينَ سَأَلَهُ الرَّجُلُ عَنْ أَمْرٍ ، فَقَالَ : إِنِّي أَفْعَلُهُ ، فَقَالَ لَهُ : إِنَّكَ لَسْتَ مِثْلَنَا ، قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ، وَمَا تَأَخَّرَ ، غَضِبَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337949وَاللَّهِ إِنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَعْلَمُكُمْ بِمَا أَتَّقِي .
وَفِي الْقُرْآنِ عَنْ
شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=89قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا [ الْأَعْرَافِ : 89 ] .
وَقَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=88وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [ هُودٍ : 88 ] .
[ ص: 270 ] فَبَيَّنَتِ الْآيَةُ أَنَّ مُخَالَفَةَ الْقَوْلِ الْفِعْلَ تَقْتَضِي كَذِبَ الْقَوْلِ ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ هَذَا ، وَقَدْ قَالُوا فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مِنَ الْجَهْلِ بِاللَّهِ ، وَعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ : إِنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقُلُوبَ تَنْفِرُ عَمَّنْ كَانَتْ هَذِهِ سَبِيلُهُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى جَارٍ مِنْ بَابِ أَوْلَى فِيمَا بَعْدَ النُّبُوَّةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فُرُوعِ الْمِلَّةِ فَضْلًا عَنْ أُصُولِهَا ، فَإِنَّهُمْ لَوْ كَانُوا آمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَفْعَلُونَهُ ، وَنَاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَأْتُونَهُ - عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ - لَكَانَ ذَلِكَ أَوْلَى مُنَفِّرٍ ، وَأَقْرَبَ صَادٍّ عَنِ الِاتِّبَاعِ ، فَمَنْ كَانَ فِي رُتْبَةِ الْوِرَاثَةِ لَهُمْ ، فَمِنْ حَقِيقَةِ نَيْلِهِ الرُّتْبَةَ ظُهُورُ الْفِعْلِ عَلَى مِصْدَاقِ الْقَوْلِ .
وَلَمَّا نَهَى عَنِ الرِّبَا قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337950وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رَبَا nindex.php?page=showalam&ids=18الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ .
وَحِينَ وَضَعَ الدِّمَاءَ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337951وَأَوَّلُ دَمٍ أَضَعُهُ دَمُنَا دَمُ nindex.php?page=showalam&ids=15886رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ .
[ ص: 271 ] وَقَالَ حِينَ شُفِعَ لَهُ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10337952وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَوْ سَرَقَتْ nindex.php?page=showalam&ids=129فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ لَقَطَعْتُ يَدَهَا .
وَكُلُّهُ ظَاهِرٌ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَى مُطَابَقَةِ الْقَوْلِ الْفِعْلَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَإِلَى قَرَابَتِهِ ، وَأَنَّ النَّاسَ فِي أَحْكَامِ اللَّهِ سَوَاءٌ .
وَالْأَدِلَّةُ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى .
وَقَدْ ذَمَّ الشَّرْعُ الْفَاعِلَ بِخِلَافِ مَا يَقُولُ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=44أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمُ الْآيَةَ [ الْبَقَرَةِ : 44 ] .
وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=2يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=3كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [ الصَّفِّ : 2 - 3 ] .
[ ص: 272 ] عَنْ
جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ قَالَ : سَمِعْتُ
nindex.php?page=showalam&ids=17188مَيْمُونَ بْنَ مِهْرَانَ يَقُولُ : إِنَّ الْقَاصَّ الْمُتَكَلِّمَ يَنْتَظِرُ الْمَقْتَ ، وَالْمُسْتَمِعُ يَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ ، قُلْتُ : أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=61&ayano=2يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ الْآيَةَ [ الصَّفِّ : 2 ] هُوَ الرَّجُلُ يُقَرِّظُ نَفْسَهُ ، فَيَقُولُ : فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْخَيْرِ ؟ أَوْ هُوَ الرَّجُلُ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَقْصِيرٌ ؟ فَقَالَ : كِلَاهُمَا .
فَإِنْ قِيلَ : إِنْ كَانَ كَمَا قُلْتَ تَعَذَّرَ الْقِيَامُ بِالْفَتْوَى ، وَبِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ : إِنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ مُؤْتَمِرًا أَوْ مُنْتَهِيًا ، وَإِلَّا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى خَرْمِ الْأَصْلِ ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ كُلَّ تَكْمِلَةٍ أَدَّتْ إِلَى انْخِرَامِ الْأَصْلِ الْمُكَمِّلِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٌ ، فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَمِثْلُهُ الِانْتِصَابُ لِلْفَتْوَى ، وَمَنِ الَّذِي يُوجَدُ لَا يَزِلُّ ، وَلَا يَضِلُّ ، وَلَا يُخَالِفُ قَوْلُهُ فِعْلَهُ ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ الْبَعِيدَةِ عَنْ زَمَانِ النُّبُوَّةِ ؟
نَعَمْ ، لَا إِشْكَالَ فِي أَنَّ مَنْ طَابَقَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلتَّقَدُّمِ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ ، وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ إِذَا عَدِمَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ الِانْتِصَابُ هَذَا مُشْكِلٌ جِدًّا .
[ ص: 273 ] فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ غَيْرُ وَارِدٍ عَلَى الْقَصْدِ الْمُقَرَّرِ ؛ لِأَنَّا إِنَّمَا تَكَلَّمْنَا عَلَى صِحَّةِ الِانْتِصَابِ وَالِانْتِفَاعِ فِي الْوُقُوعِ لَا فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ، فَنَحْنُ نَقُولُ : وَاجِبٌ عَلَى الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ الِانْتِصَابَ وَالْفَتْوَى عَلَى الْإِطْلَاقِ ، طَابَقَ قَوْلُهُ فِعْلَهُ أَمْ لَا ، لَكِنَّ الِانْتِفَاعَ بِفَتْوَاهُ لَا يَحْصُلُ وَلَا يَطَّرِدُ إِنْ حَصَلَ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مُوَافِقًا قَوْلُهُ لِفِعْلِهِ حَصَلَ الِانْتِفَاعُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَعًا ، أَوْ كَانَ مَظِنَّةً لِلْحُصُولِ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يُصَدِّقُ الْقَوْلَ أَوْ يُكَذِّبُهُ ، وَإِنْ خَالَفَ فِعْلَهُ قَوْلُهُ ، فَإِمَّا أَنْ تُؤَدِّيَهُ الْمُخَالَفَةُ إِلَى الِانْحِطَاطِ عَنْ رُتْبَةِ الْعَدَالَةِ إِلَى الْفِسْقِ أَوْ لَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلَا إِشْكَالَ فِي عَدَمِ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ ، وَعَدَمِ صِحَّةِ الِانْتِصَابِ شَرْعًا وَعَادَةً ، وَمَنِ اقْتَدَى بِهِ كَانَ مُخَالِفًا مِثْلَهُ ، فَلَا فَتْوَى فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا حُكْمَ ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي صَحَّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَاسْتِفْتَاؤُهُ وَفَتْوَاهُ فِيمَا وَافَقَ دُونَ مَا خَالَفَ ، فَمِنَ الْمَعْلُومِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ إِذَا أَفْتَاكَ بِتَرْكِ الزِّنَا وَالْخَمْرِ وَبِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْوَاجِبَاتِ ، وَهُوَ فِي فِعْلِهِ عَلَى حَسَبِ فَتْوَاهُ لَكَ - حَصَلَ تَصْدِيقُ قَوْلِهِ بِفِعْلِهِ ، وَإِذَا أَفْتَاكَ بِالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا أَوْ تَرْكِ مُخَالَطَةِ الْمُتْرَفِينَ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَقْدَحُ فِي أَصْلِ الْعَدَالَةِ ثُمَّ رَأَيْتَهُ يَحْرِصُ عَلَى الدُّنْيَا ، وَيُخَالِطُ مَنْ نَهَاكَ عَنْ مُخَالَطَتِهِمْ - فَلَمْ يُصَدِّقِ الْقَوْلُ الْفِعْلَ .
هَذَا وَإِنْ كَانَ الشَّرْعُ قَدْ أَمَرَكَ بِمُتَابَعَةِ قَوْلِهِ ، فَقَدْ نَصَبَهُ الشَّارِعُ أَيْضًا لِيُؤْخَذَ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَارِثُ النَّبِيِّ فَإِذَا خَالَفَ فَقَدْ خَالَفَ مُقْتَضَى الْمَرْتَبَةِ ، وَكَذَّبَ الْفِعْلُ الْقَوْلَ لِمَا فِي الْجِبِلَّاتِ مِنْ جَوَاذِبِ التَّأَسِّي بِالْأَفْعَالِ .
[ ص: 274 ] فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ ، وَلَا الْفَتْوَى عَلَى كَمَالِهَا فِي الصِّحَّةِ ، إِلَّا مَعَ مُطَابَقَةِ الْقَوْلِ الْفِعْلَ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَقَدْ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11822أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ :
ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ فَهُنَاكَ يُسْمَعُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى
بِالرَّأْيِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ
عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
وَهُوَ مَعْنًى مُوَافِقٌ لِلنَّقْلِ وَالْعَقْلِ ، لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ .