الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
- المطلب الثالث: الصيام

وفيه مسائل:

المسألة الأولى: في إثبات رؤية الهلال، وهل يصح الاعتماد على الحسابات الفلكية؟

نقل إلينا فقهاؤنا إجماع السلف على عدم الاعتبار بقول الحساب، والمؤقتين في الأهلة، ووجوب اعتماد الرؤية البصرية لإثبات الأهلة [1] ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته. ) [2] . وقوله: ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. ) [3] وقد أفتى المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في هـذا المجال فقال:

(يجب الاعتماد على الرؤية، ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد، مراعاة للحديث: (صوموا لرؤيته) ، وللحقائق العلمية) [4] وذهب ابن الشخير من التابعين، والقرافي وابن الشاط من المالكية ، والسبكي من الشافعية ، وجماعة من العلماء المعاصرين [5] إلى القول [ ص: 122 ] بالحسابات الفلكية في إثبات الأهلة. وقالوا: (إن الحساب يفيد القطـع، وإن الحكـم باعتبـار الـرؤية معـلل بأننا أمة أميـة لا نكتب ولا نحسب، وقد انتفى ذلك، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما) .

والذي أميل إليه بالنسبـة للاعتمـاد على الحسابـات الفلكيـة، أنـه لا يعمل بها إذا تفردت، عملا بالنصوص والحقائق العلمية التي أفادت أن اختلاف المطالع أمر مقرر.

ويرى الشيخ القرضاوي : (أنه يؤخذ بها في النفي، بأن نظل على إثبات الهلال بالرؤية، ولكن إذا نفى الحساب إمكان الرؤية كان الواجب ألا تقبل شهادة الشهود بحال) [6] وهنا تساؤل: هـل يصح الاعتماد على الحسابات إذا كان الحساب من الكافرين؟

تم الإجماع على عدم قبول شهادة المخالف في العبادات، والحاسب شـاهـد، فلو جـاء كفـار وشهدوا أمـام المسلمين أنهم رأوا الهلال، فلا يلتفت لشهادتهم؛ لأنهم ليسوا من أهل الرواية؟ ولأنهم لا يلتزمون الحكم [7] . وعلى ذلك فلا يقبل قولهم في الحساب. [ ص: 123 ]

تنبيه لابد منـه

عندما يحدد ولاة أمر المسلمين في ديار المشركين الجهة التي تثبت الهلال لديها، ويعلنون الأخذ برؤيتها، لا يحل للمسلمين هـناك أن يخالفوا، بحيث يصوم البعض على رؤية هـذا البلد، وآخرون على رؤية بلد غيره، وآخرون على رؤية بلد ثالث، وهكذا.. والجميع يقيم في إقليم واحد مما يجعلك ترى في البلدة الواحدة الصائم المتبع للهند، والمفطر المتبع للسعودية أو ما شابه ذلك.

فإن في ذلك من الاختلاف المذموم بما لا يخفى، وهو أمر يمقته الله تعالى، فلا يستقيم شرعا ولا عقلا أن ينقسم المسلمون في منطقة واحدة على الجهة التي يعتمدون عليها في الصيام والإفطار، كما هـي حالهم اليوم، فهذا ما يحرم ارتكابه وممارسته.

فإما أن يصوموا على رؤيتهم الخاصة، وإما أن يأخذوا برؤية أول بلد إسلامي، وإلا كان الاختلاف، وكان الشر.

المسألة الثانية: صيام أهل القطبين

تقدم أثناء الكلام عن صلاة هـؤلاء، أن الراجح في مواقيت الصلاة عندهم أنهم يعملون بالتقديـر، إمـا على أقـرب البـلاد اعتدالا إليهـم، [ ص: 124 ] وإما على مكة أو المدينة ، ولكن كيف يصومون والشمس لا تغيب عندهم إلا بعد ستة أشهر من طلوعها، ثم تغرب ستة أشهر وهكذا؟

الحكم في صيامهم كالحكم في صلاتهم، بمعنى أنهم يقدرون يومهم وليلهم بأقرب البلاد التي يشهد أهلها الشهر، ويعرفون وقت الإمساك والإفطار، والتي تتميز فيها الأوقـات، ويتسـع ليلهـا ونهارهـا لما فرض الله من صوم وقيام، على الوجه الذي يحقق حكمة التكليف دون مشقة أو إرهاق، أو بمكة بعد أن يأخذوا برؤية أول بلد قريب، أو بمن يثقون بها من البلدان الإسلامية، ويكون صومهم أداء. ولم يخالف أحد في وجوب الصيام عليهم أبدا.

المسألة الثالثة: صيام من يطول نهارهم جدا

يحدث في بعض الفصول أن يطول نهار بعض دول أوروبا [8] ، ويصل إلى عشرين ساعة أو يزيد. وقد يتفق أن يأتي رمضان في ذلك الوقت على أهل تلك البلاد، وغالبا ما يشكو المسلمون هـناك من جراء الصيام من الضيق والحرج.

فهل يرخص لهم بالفطر؟ أم يعملون بالتقدير على البلاد المعتدلة وقتئذ؟ [ ص: 125 ] ‎‎

لم تناقش هـذه القضية قديما، وإنما ناقشها فقهاء معاصرون يمكننا من خلال اجتهاداتهم أن نقول: إن هـناك فريقين إزاء هـذه القضية:

الفريق الأول: تمثله دار الإفتاء المصرية:

فقد أجازت لمسلمي النرويج، وغيرهم ممن شاكلهم في وضعهم، أن يصوموا على قدر الساعات التي يصومها أهل مكة أو المدينة في حال طول نهارهم وقصر ليلهم، أو أن يقدروا بأقرب البلاد المعتدلة إليهم، وأن يبدأوا بالصوم من طلوع الفجر، ويفطرون مع ميعاد البلاد التي يقدرون بها، من حيث عدد الساعات، ولا يتوقفون على غروب الشمس.

‎‎ وقال الشيخ شلتوت : (صيام ثلاث وعشرين ساعة من أصل أربع وعشرين ساعة، تكليف تأباه الحكمة من أحكم الحاكمين، والرحمة من أرحم الراحمين) [9] الفريق الآخر: تمثله لجنة الإفتاء في السعودية، والشيخ حسنين مخلوف .

فقد قالت اللجنة الدائمة للإفتاء بخصوص ذلك ما يلي:

(إذا تميز النهار والليل في مكان ما وجب على المكلفين من سكانه [ ص: 126 ] في رمضان أن يصوموا ويمسكوا عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب شمس ذلك اليوم طال النهار أم قصر) [10] وقال الشيخ حسنين مخلوف ما يلي:

(أما البلاد التي تطلع فيها الشمس وتغرب كل يوم إلا أن مدة طلوعها تبلغ نحو عشرين ساعة، فبالنسبة للصوم، يجب عليهم الصوم في رمضان من طلوع الفجر إلى غروب الشمس هـناك، إلا إذا أدى ذلك الصوم إلى الضرر بالصائم وخاف من طول مدة الصيام الهلاك، أو المرض الشديد فحينئذ يرخص له الفطر، ولا يعتبر في ذلك مجرد الوهم والخيال، وإنما المعتبر غلبة الظن بواسطة الأمارات، أو التجربة، أو إخبار الطبيب الحاذق بأن الصوم يفضي إلى الهلاك، أو المرض الشديد، أو زيادة المرض، أو بطء البرء، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فلكل شخص حالة خاصة، وعلى من أفطر في كل هـذه الأحوال قضاء ما أفطره بعد زوال العذر الذي رخص له من أجله الفطر [11] والذي يترجح عندي قول الفريق الآخر؛ لأنه يتفق مع النصوص الآمرة بالصيام على سبيل الإطلاق بمجرد شهود الشهر، وتميز الليل [ ص: 127 ] والنهار، فمن ذلك قوله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) (البقرة : 185) .

فهذا إيجاب حتم على من شهد استهلال الشهر، أي كـان مقيما في البلد حين دخل شهـر رمضـان، وهو الصحيـح في بدنـه، أن يصـوم لا محالة [12] وقوله أيضا : ( وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ) (البقرة : 187) .

وهؤلاء يتميز عندهم الليل والنهار، ويتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، أي ضياء الصباح من سواد الليل.

ويلاحظ أن هـذه الآيات جاءت على سبيل الإطلاق فشملت كل مسلم لا فرق بين إقليم وآخر، ولا بين من كان نهاره طويلا أم قصيرا.

ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إذا أقبل الليل من هـهنا، وأدبر النهار من هـهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم) [13] . وهؤلاء يتميز ليلهم ونهارهم بحيث يقبل ليلهم، ويدبر نهارهم، وتغرب شمسهم كل أربع وعشرين ساعة، والحكم منوط بذلك. [ ص: 128 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية