الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          . 168 - مسألة : وظهور دم الاستحاضة أو العرق السائل من الفرج إذا كان بعد انقطاع الحيض فإنه يوجب الوضوء ولا بد لكل صلاة تلي ظهور ذلك الدم سواء تميز دمها أو لم يتميز ، عرفت أيامها أو لم تعرف .

                                                                                                                                                                                          برهان ذلك ما حدثنا يونس بن عبد الله ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرنا يحيى بن حبيب بن عربي عن حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : { استحيضت فاطمة بنت أبي حبيش فسألت النبي صلى الله عليه وسلم : قالت يا رسول الله : إني أستحاض فلا أطهر ، فأدع الصلاة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما ذلك عرق وليست بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة فإذا أدبرت فاغسلي عنك أثر الدم وتوضئي وصلي فإنما ذلك عرق وليست بالحيضة } . حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أخبرنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن أبي عدي من كتابه عن محمد هو ابن عمرو بن علقمة بن وقاص - عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير { عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان الحيض فإنه دم أسود يعرف ، فأمسكي عن الصلاة ، وإذا كان الآخر فتوضئي فإنه عرق } . [ ص: 233 ] قال علي : فعم عليه السلام كل دم خرج من الفرج بعد دم الحيضة ولم يخص وأوجب الوضوء منه ، لأنه عرق .

                                                                                                                                                                                          وممن قال بإيجاب الوضوء لكل صلاة على التي يتمادى بها الدم من فرجها متصلا بدم المحيض : عائشة أم المؤمنين وعلي بن أبي طالب وابن عباس وفقهاء المدينة عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله ومحمد بن علي بن الحسين وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري ، وهو قول سفيان الثوري وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وغيرهم . قالت عائشة رضي الله عنها : تغتسل وتتوضأ لكل صلاة رويناه من طريق وكيع عن إسماعيل عن أبي خالد عن الشعبي عن امرأة مسروق عن عائشة ، ومن طريق عدي بن ثابت عن أبيه عن علي بن أبي طالب : المستحاضة تتوضأ لكل صلاة ، وعن شعبة عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس : المستحاضة تتوضأ لكل صلاة ، وعن قتادة عن الحسن وسعيد بن المسيب : المستحاضة تتوضأ لكل صلاة . وعن عبد الرزاق عن ابن جريج عن هشام بن عروة في التي يتمادى بها الدم إنها تتوضأ لكل صلاة ، وعن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن محمد بن علي بن الحسين : المستحاضة تتوضأ لكل صلاة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد : وقال أبو حنيفة في المتصلة الدم كما ذكرنا : إنها تتوضأ لدخول كل وقت صلاة ، فتكون طاهرا بذلك الوضوء ، حتى يدخل وقت صلاة أخرى فينتقض وضوءها ويلزمها أن تتوضأ لها . وروى عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في هذه : إذا توضأت إثر طلوع الشمس للصلاة أنها تكون طاهرا إلى خروج وقت الظهر ، وأنكر ذلك عليه أبو يوسف ، وحكى أنه لم يرو عن أبي حنيفة إلا أنها تكون طاهرا إلى دخول وقت الظهر . وغلب بعض أصحابه رواية محمد . قال أبو محمد : وليس كما قال . بل قول أبي يوسف أشبه بأقوال أبي حنيفة . وقال مالك : لا وضوء عليها من هذا الدم إلا استحبابا لا إيجابا ، وهي طاهر ما لم تحدث حدثا آخر . وقال الشافعي وأحمد : عليها فرضا أن تتوضأ لكل صلاة فرض وتصلي بين ذلك من النوافل ما أحبت ، قبل الفرض وبعده بذلك الوضوء . [ ص: 234 ] قال أبو محمد : أما قول مالك فخطأ ، لأنه خلاف للحديث الوارد في ذلك ، والعجب أنهم يقولون بالمنقطع من الخبر إذا وافقهم ، وههنا منقطع أحسن من كل ما أخذوا به ، وهو ما رويناه من طريق ابن أبي شيبة وموسى بن معاوية عن وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة قالت { جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى رسول الله عليه السلام فقالت : إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة ؟ قال لا ، إنما ذلك عرق وليس بالحيضة ، فاجتنبي الصلاة أيام محيضك ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة وصلي ، وإن قطر الدم على الحصير } .

                                                                                                                                                                                          قال : قالوا هذا على الندب ، قيل لهم : وكل ما أوجبتموه منا لاستطهار وغير ذلك لعله ندب ، ولا فرق ، وهذا قول يؤدي إلى إبطال الشرائع كلها مع خلافه لأمر الله تعالى في قوله : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } وما نعلم لهم متعلقا في قولهم هذا ، لا بقرآن ولا بسنة ولا بدليل ولا بقول صاحب ولا بقياس . وأما قول أبي حنيفة ففاسد أيضا لأنه مخالف للخبر الذي تعلق به ، ومخالف للمعقول وللقياس ، وما وجدنا قط طهارة تنتقض بخروج وقت وتصح بكون الوقت قائما ، وموه بعضهم في هذا بأن قالوا : قد وجدنا الماسح في السفر والحضر تنتقض طهارتهما بخروج الوقت المحدود لهما فنقيس عليهما المستحاضة . قال أبو محمد : القياس كله باطل ، ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل ; لأنه قياس خطأ وعلى خطإ ، وما انتقضت قط طهارة الماسح بانقضاء الأمد المذكور بل هو طاهر كما كان ، ويصلي ما لم ينتقض وضوءه بحدث من الأحداث ، وإنما جاءت السنة بمنعه من الابتداء للمسح فقط ، لا بانتقاض طهارته ، ثم لو صح لهم ما ذكروا في الماسح - وهو لا يصح - لكان قياسهم هذا باطلا لأنهم قاسوا خروج وقت كل صلاة في السفر والحضر على انقضاء يوم وليلة في الحضر ، وعلى انقضاء ثلاثة أيام بلياليهن في السفر . وهذا قياس سخيف جدا ، وإنما كانوا يكونون قائسين على ما ذكروا لو جعلوا المستحاضة تبقى بوضوئها يوما وليلة في الحضر ، وثلاثة في السفر ، ولو فعلوا هذا لوجدوا فيما يشبه بعض ذلك سلفا ، وهو سعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد ، فقد صح عنهم أنها تغتسل من الظهر إلى الظهر ، وأما قولهم هذا [ ص: 235 ] فعار من أن يكون لهم فيه سلف ، وما نعلم لقولهم حجة ، لا من قرآن ولا من سنة ولا من قول صاحب ولا من قياس ولا من معقول .

                                                                                                                                                                                          وأما المسألة التي اختلف فيها عن أبي حنيفة فإن قول أبي يوسف أشبه بأصولهم ; لأن أثر طلوع الشمس ليس هو وقت صلاة فرض مارا إلى وقت الظهر ، وهو وقت تطوع ، فالمتوضئة فيه للصلاة كالمتوضئة لصلاة العصر في وقت الظهر ، ولا يجزيها ذلك عندهم .

                                                                                                                                                                                          وأما قول الشافعي وأحمد فخطأ ومن المحال الممتنع في الدين الذي لم يأت به قط نص ولا دليل أن يكون إنسان طاهرا إن أراد أن يصلي تطوعا ومحدثا غير طاهر في ذلك الوقت بعينه إن أراد أن يصلي فريضة ، هذا ما لا خفاء به وليس إلا طاهرا أو محدثا ، فإن كانت طاهرا فإنها تصلي ما شاءت من الفرائض والنوافل ، وإن كانت محدثة فما يحل لها أن تصلي لا فرضا ولا نافلة .

                                                                                                                                                                                          وأقبح من هذا يدخل على المالكيين في قولهم : من تيمم لفريضة فله أن يصلي بذلك التيمم بعد أن يصلي الفريضة ما شاء من النوافل ، وليس له أن يصلي نافلة قبل تلك الفريضة بذلك التيمم ، ولا أن يصلي به صلاتي فرض ، فهذا هو نظرهم وقياسهم وأما تعلق بأثر ، فالآثار حاضرة وأقواله حاضرة .

                                                                                                                                                                                          قال أبو محمد ، وهم كلهم يشغبون بخلاف الصاحب الذي لا يعرف له مخالف منهم وجميع الحنفيين والمالكيين والشافعيين قد خالفوا في هذه المسألة عائشة وعليا وابن عباس رضي الله عنهم ، ولا مخالف لهم يعرف من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك وخالف المالكيون في ذلك فقهاء المدينة كما أوردنا ، فصارت أقوالهم مبتدأة ممن قالها بلا برهان أصلا . وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية