الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        6523 حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا سفيان عن منصور والأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رجل يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية قال من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( سفيان ) هو الثوري .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( قال رجل ) لم أقف على اسمه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر ) قال الخطابي : ظاهره خلاف ما أجمعت عليه الأمة أن الإسلام يجب ما قبله ، وقال تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ، قال : ووجه هذا الحديث أن الكافر إذا أسلم لم يؤاخذ بما مضى ، فإن أساء في الإسلام غاية الإساءة وركب أشد المعاصي وهو مستمر الإسلام فإنه إنما يؤاخذ بما جناه من المعصية في الإسلام ويبكت بما كان منه في الكفر كأن يقال له : ألست فعلت كذا وأنت كافر فهلا منعك إسلامك عن معاودة مثله؟ انتهى ملخصا .

                                                                                                                                                                                                        وحاصله أنه أول المؤاخذة في الأول بالتبكيت وفي الآخر بالعقوبة ، والأولى قول غيره : إن المراد بالإساءة الكفر لأنه غاية الإساءة وأشد المعاصي فإذا ارتد ومات على كفره كان كمن لم يسلم فيعاقب على جميع ما قدمه ، وإلى ذلك أشار البخاري بإيراد هذا الحديث بعد حديث " أكبر الكبائر الشرك " وأورد كلا في أبواب المرتدين .

                                                                                                                                                                                                        ونقل ابن بطال عن المهلب قال : معنى حديث الباب من أحسن في الإسلام بالتمادي على محافظته والقيام بشرائطه لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ، ومن أساء في الإسلام أي في عقده بترك التوحيد أخذ بكل ما أسلفه .

                                                                                                                                                                                                        قال ابن بطال : فعرضته على جماعة من العلماء فقالوا : لا معنى لهذا الحديث غير هذا ، ولا تكون الإساءة هنا إلا الكفر للإجماع على أن المسلم لا يؤاخذ بما عمل في الجاهلية .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وبه جزم المحب الطبري . ونقل ابن التين عن الداودي معنى من أحسن مات على الإسلام ، ومن أساء مات على غير الإسلام .

                                                                                                                                                                                                        وعن أبي عبد الملك البوني : معنى من أحسن في الإسلام أي أسلم إسلاما صحيحا لا نفاق فيه ولا شك ، ومن أساء في الإسلام أي أسلم رياء وسمعة وبهذا جزم القرطبي ، ولغيره معنى الإحسان الإخلاص حين دخل فيه ودوامه عليه إلى موته ، والإساءة بضد ذلك فإنه إن لم يخلص إسلامه كان منافقا فلا ينهدم عنه ما عمل في الجاهلية فيضاف نفاقه المتأخر إلى كفره الماضي فيعاقب على جميع ذلك .

                                                                                                                                                                                                        قلت : وحاصله أن الخطابي حمل قوله : " في الإسلام " على صفة خارجة عن ماهية الإسلام ، وحمله غيره على صفة في نفس الإسلام وهو أوجه .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 279 ] ( تنبيه ) :

                                                                                                                                                                                                        حديث ابن مسعود هذا يقابل حديث أبي سعيد الماضي في كتاب الإيمان معلقا عن مالك ، فإن ظاهر هذا أن من ارتكب المعاصي بعد أن أسلم يكتب عليه ما عمله من المعاصي قبل أن يسلم ، وظاهر ذلك أن من عمل الحسنات بعد أن أسلم يكتب له ما عمله من الخيرات قبل أن يسلم ، وقد مضى القول في توجيه الثاني عند شرحه ، ويحتمل أن يجيء هنا بعض ما ذكر هناك كقول من قال إن معنى كتابة ما عمله من الخير في الكفر أنه كان سببا لعمله الخير في الإسلام .

                                                                                                                                                                                                        ثم وجدت في " كتاب السنة " لعبد العزيز بن جعفر وهو من رءوس الحنابلة ما يدفع دعوة الخطابي وابن بطال الإجماع الذي نقلاه ، وهو ما نقل عن الميموني عن أحمد أنه قال : بلغني أن أبا حنيفة يقول : إن من أسلم لا يؤاخذ بما كان في الجاهلية ، ثم رد عليه بحديث ابن مسعود ففيه أن الذنوب التي كان الكافر يفعلها في جاهليته إذا أصر عليها في الإسلام فإنه يؤاخذ بها لأنه بإصراره لا يكون تاب منها وإنما تاب من الكفر فلا يسقط عنه ذنب تلك المعصية لإصراره عليها ، وإلى هذا ذهب الحليمي من الشافعية ، وتأول بعض الحنابلة قوله : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف على أن المراد ما سلف مما انتهوا عنه .

                                                                                                                                                                                                        قال : والاختلاف في هذه المسألة مبني على أن التوبة هي الندم على الذنب مع الإقلاع عنه والعزم على عدم العود إليه ، والكافر إذا تاب من الكفر ولا يعزم على عدم العود إلى الفاحشة لا يكون تائبا منها فلا تسقط عنه المطالبة بها ، والجواب عن الجمهور أن هذا خاص بالمسلم وأما الكافر فإنه يكون بإسلامه كيوم ولدته أمه والأخبار دالة على ذلك كحديث أسامة لما أنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل الذي قال لا إله إلا الله حتى قال في آخره : " حتى تمنيت أنني كنت أسلمت يومئذ " .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية