الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ الشرط ] الثالث : البلوغ : فالصبي ليس مكلفا أصلا لقصور فهمه عن إدراك معاني الخطاب .

                                                      قال الإمام في الرسالة النظامية " : ومدرك شرطه الشرع ، ولو رددنا إلى العقل لم يستحل تكليف العاقل المميز من الصبيان . [ ص: 57 ]

                                                      وقال في باب الحجر من النهاية " : كأن الشرع لم يلزم الصبي قضايا التكليف لأمرين :

                                                      أحدهما : أنه من مظنة الغباوة وضعف العقل فلا يستقل بأعباء التكليف .

                                                      وثانيهما : أنه عرى عن البلية العظمى ، وهي الشهوة فربط الشرع التزام التكليف بأمد وتركيب الشهوة ، أما الأمد فيشير إلى التهذيب بالتجارب ، وأما تركيب الشهوة فإنه يعرض للبلايا العظام ، فرأى الشرع تثبيت التكليف معه زاجرا .

                                                      وقول الفقهاء : تجب الزكاة في مال الصبي مرادهم وجوب الأخذ من ماله لا خطاب الأداء .

                                                      ونقل ابن برهان أن الصبي مخاطب عند الفقهاء منا ومن الحنفية ، ولعل مراده خطاب الوضع .

                                                      وقال صاحب البيان " في الفقه من أصحابنا في باب كفارة القتل : الصبي والمجنون لا يدخلان في خطاب المواجهة ، كقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } ويدخلان في خطاب الإلزام ، كقوله : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية } وقوله صلى الله عليه وسلم : { في كل أربعين شاة شاة } وذكر ابن كج نحوه . [ ص: 58 ]

                                                      وقال القاضي عبد الوهاب والطرطوشي : الصبي لا يدخل في الخطاب المقصود منه التكليف إلا أن يكون عاما بالإخبار لا وجوب لا ينافيه الصغر لحقوق الآدميين من الزكاة وأرش الجناية فيتعلق الوجوب بماله ، ويخاطب بذلك وليه . وكذلك العدة تدخل في حق الأطفال من النساء في قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا } الآية .

                                                      وعن أبي العباس بن سريج أن الصلاة تجب على ابن العشر وجوب مثله وإن لم يأثم بتركها ، إذ لو لم تجب عليه لما ضرب عليها

                                                      وقال القاضي الروياني في البحر " قبيل باب اختلاف نية الإمام والمأموم : وأومأ الشافعي في الأم " إلى أنها تجب قبل بلوغه ، ولكن لا يعاقب على تركها عقوبة البالغ . ورأيت كثيرا من المشايخ مرتكبين هذا القول في المناظرة ، وليس بمذهب ، لأنه غير مكلف أصلا ، وإنما هذا قول أحمد في رواية أنها تجب عليه إذا بلغ عشرا . ا هـ .

                                                      وقد صرح في الرسالة " بأن الصلاة والصوم لا يجبان على الصبي والمجنون ، واستصوب الإمام في الأساليب " قول ابن سريج . قال : ومعناه أنه محمول عليها وملوم على تركها ، وما حكاه عن النص يمكن تأويله [ ص: 59 ] على أنه يجب عليه من جهة وليه ، لأنه يأمره بها والأمر للوجوب ، والذي يستدعي التكليف إنما هو أمر الله .

                                                      وأما أفهمية العقاب فهو الضرب على تركها .

                                                      وهذا كله في الوجوب . أما الإيجاب ودخوله في خطاب ما أوجبه الله تعالى فالذي يقتضيه كلام الأصوليين وغيرهم أن الصبي لا يدخل فيه ، وذكر الإمام أبو الحسين السبكي أن الصبي داخل في عموم نحو قوله : { وأقيموا الصلاة } فإن الخطاب لجميع المؤمنين والناس وهو منهم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لصبي { يا بني سم الله وكل مما يليك } قال : وعد الأصوليين ذلك في أمر التأديب لا يضرنا .

                                                      قال : والصبي مأمور بالصلاة أمر إيجاب ، والمراد بالإيجاب الأمر الجازم ، وهو موجود في الصبي لكن الوجوب تخلف عنه ، لعدم قبول المحل إن لم يكن مميزا بالأدلة . على أن الفهم شرط التكليف ، ولرفع القلم إن كان مميزا .

                                                      وإذا فسرنا الإيجاب بالأمر الجازم لم يمتنع تخلف الوجوب لمعنى التكليف عن الإيجاب بمعنى الجزم ، ولا نعني بالجازم المنع من هذه إنما الجزم صفة للطلب من حيث هو بالنسبة إلى رتبة ذلك الفعل ، فرتبة الفرض هي [ ص: 60 ] العليا ، لأنه لا رخصة فيها ، والمندوب فيه رخصة منحطة عن رتبة الواجب ، وكلاهما سواء بالنسبة إلى البالغ والصبي : والشخص الذي يتعلق به ذلك الأمر يعتبر فيه أمور إن وجدت ترتب مقتضاه كالوجوب المترتب على الإيجاب وإلا فلا . ومن تأمل هذا المعنى لم يستبعده في حق الصبي المميز الذي اقتضت رخصة الله رفع القلم عنه . انتهى .

                                                      وذكر البيهقي في المعرفة " في باب حج الصبي : قال الشافعي في القديم : وقد أوجب الله بعض الفرض على من لم يبلغ ، وذكر العدة وذكر ما يلزمه فيما استهلك من أمتعة الناس .

                                                      قال : وإنما معنى قول علي رضي الله عنه : رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم أو يبلغ المأثم فأما غيره فلا . ألا ترى أن عليا هو أعلم بمعنى ما روى ؟ كان يؤدي الزكاة عن أموال اليتامى الصغار .

                                                      قال البيهقي : وإنما نسب هذا الكلام إلى علي ، لأنه عنه يصح ، وقد رفعه بعض أهل الرواية من حديث علي ، ووقفه عليه أكثرهم . ا هـ .

                                                      وسلك القفال طريقا آخر في الإيجاب ، فقال : إن الصبي مأمور بالصلاة أمر إيجاب ، لأنه آكد بالعقوبة على تركها . [ ص: 61 ]

                                                      قال القاضي الحسين في الأسرار " : فقلت له : لم يأمر الله الصبي بالصلاة . قال : أمر الأولياء ليأمروه فهو كأمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما يلزم أمته . وفيما قاله القفال نظر ، فإن المخاطب الولي ، وفي أمر الأولياء بالضرب عند ترك الصلاة ما يصرح بنفي التكليف عنهم ، إذ لو كانوا مكلفين لم يختص ذلك بالولي كما بعد البلوغ ، وإنما هو ضرب استصلاح كالبهيمة .

                                                      وزعم الحليمي والبيهقي : أنه كان في صدر الإسلام الصبي مكلفا ، وهو من يمكن أن يولد له ، ثم اعتبر البلوغ بالسن ، وحملا عليه حديث : { رفع القلم عن الصبي } فإن الرفع يقتضي الوضع .

                                                      واختلف في البلوغ هل هو شرط عقلي للتكليف ، لأن الصبي مظنة العبادة أو شرعي ؟ على قولين . تنبيهان : التنبيه الأول : لا يخاطب الصبي بالإيجاب والتحريم

                                                      على المشهور في الصبي فلا يخاطب من الأحكام بالإيجاب والتحريم ، [ ص: 62 ] وهل انتفاء ذلك في حقه لعدم الحكم كما قبل الشرع أو حكم من الله تخفيفا عنه ؟ لم يتعرضوا لذلك ، وعليه ينبي ما سبق في معنى رفع القلم . وهل يخاطب بالندب والكراهة ؟ الجمهور على المنع خلافا للغزالي ، وهو مقتضى كلام أصحابنا في الفروع حيث قالوا : إنه مأمور من جهة الشرع بالندب ، ولهذا جعلوا له إنكار المنكر ويثاب عليه . التنبيه الثاني : إذا علقنا التكليف بالبلوغ ، فهل يصير مكلفا بمجرده أم لا بد من أن يمضي بعد البلوغ من الزمان ما يمكنه فيه التعريف والقبول ؟ فيه وجهان .

                                                      حكاهما الحارث المحاسبي في كتاب " فهم السنن " .

                                                      قال : وقولنا : إنه يصير مكلفا في الوقت إذا لم يكن فيه مانع ، فإذا انقضى وقت أدائه ولم يعلمه كان عاصيا بتركه العلم والعمل به .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية