الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      وفي سنة 614 : كان الغرق . قال سبط الجوزي - بقلة ورع - : [ ص: 231 ] فانهدمت بغداد بأسرها ولم يبق أن يطفح الماء على رأس السور إلا قدر إصبعين . إلى أن قال : وبقيت بغداد من الجانبين تلولا لا أثر لها .

                                                                                      قلت : العجب من أبي شامة ينقل - أيضا - هذا ولا يبالي بما يقول .

                                                                                      وقال أبو المظفر نزل خوارزم شاه في أربعمائة ألف قاصدا بغداد فاستعد الناصر ، وفرق الأموال والعدد ، ونفذ إليه رسولا - السهروردي - فأهانه فاستوقفه ولم يجلسه ، وفي الخدمة ملوك العجم ، قال : وهو شاب على تخت ، وعليه قباء يساوي خمسة دراهم ، وعلى رأسه قبع جلد يساوي درهما ، فسلمت فما رد ، فخطبت وذكرت فضل بني العباس ، وعظمت الخليفة والترجمان يعيد عليه ، فقال للترجمان : قل هذا الذي يصفه : ما هو في بغداد ، بلى أنا أقيم خليفة كما تصف ، وردنا بلا جواب . ونزل ثلج عظيم فهلكت خيلهم وجاعوا ، وكان معه سبعون ألفا من الخطا ، فصرفه الله عن بغداد ، وقيل : إنه قال : أنا من آذيت أحدا من بني العباس ؟ بل في جيش الخليفة خلق منهم ، فأعد هذا على مسامع الخليفة ، ومنعه الله بثلوج لا توصف .

                                                                                      وفيها أقبلت جيوش الفرنج لقصد بيت المقدس والأخذ بالثأر ، ووصلوا إلى بيسان ، وتأخر العادل فتبعوه ، ونزل بمرج الصفر واستحث العساكر والملوك وضج الخلق بالدعاء وكانت هدنة فانفسخت ونهبت الفرنج بلاد [ ص: 232 ] الشام ووصلوا إلى الخربة وحاصروا قلعة الطور التي بناها المعظم مدة ، وعجزوا عنها ، ورجعوا فجاء المعظم ، وخلع على من بها ، ثم اتفق هو وأبوه على هدمها ، وأخذت خمسمائة من الفرنج جزين وفر رجالها في الجبل ، ثم بيتوا الفرنج ، فاستحر بهم القتل حتى ما نجا من الفرنج سوى ثلاثة . وبادرت الفرنج إلى قصد مصر لخلوها من العساكر ، وأشرف الناس على التلف وما جسر العادل على الملتقى لقلة من عنده من العساكر ، فتقهقر .

                                                                                      ودخلت سنة 615 : فنازلت الفرنج دمياط ، وأقبل الكامل ليكشف عنها فدام الحصار أربعة أشهر ، ومات العادل وخلص واستراح .

                                                                                      وفيها كسر الأشرف صاحب الروم ، ثم أقبل وأخذ معه عسكر حلب مغيرا على سواحل الفرنج .

                                                                                      وأخذت الفرنج برج السلسلة من دمياط ، وهو قفل على مصر ; برج عظيم في وسط النيل فدمياط بحذائه ، والجيزة من الحافة الغربية ، وفيه سلسلتان تمتد كل واحدة على وجه النيل إلى سور دمياط وإلى الجيزة يمنعان مركبا يدخل من البحر في النيل ، وعدت الفرنج إلى بر دمياط ، ففر العساكر من الخيام ، فطمع العدو ، ثم كر عليهم الكامل فطحنهم ، فعادوا إلى دمياط .

                                                                                      ومات كيكاوس صاحب الروم ، وكان جبارا ظلوما . ومات القاهر مسعود صاحب الموصل .

                                                                                      ورجع من بلاد بخارى خوارزم شاه إلى نيسابور ، وقد بلغه أن التتار [ ص: 233 ] قاصدوه ، وجاءه رسول جنكزخان يطلب الهدنة يقول : إن القان الأعظم يسلم عليك ويقول : ما يخفى علي عظم سلطانك وأنت كأعز أولادي وأنا بيدي ممالك الصين ، فاعقد بيننا المودة ، وتأذن للتجار وتنعمر البلاد ، فقال السلطان لمحمود الخوارزمي الرسول : أنت منا وإلينا ، وأعطاه جواهر وطلب أن يكون مناصحا له فأجابه ، فقال : اصدقني ، تملك جنكزخان طمغاج ؟ قال : نعم ، قال : فما المصلحة ؟ قال : الصلح . فأجاب . فأعجب ذلك جنكزخان ومشى الحال . ثم جاء من جهة التتار تجار فشرهت نفس خال السلطان متولي ما وراء النهر إلى أخذ أموالهم ، وقبض عليهم وظنهم جواسيس للتتار ، فجاء رسول جنكزخان يقول : إنك أمنت تجارنا والغدر قبيح ، فإن قلت : فعله خالي فسلمه إلينا وإلا سترى مني ما تعرفني به ، فحارت نفس خوارزم شاه ، وتجلد ، وأمر بقتل الرسل - فيا بئس ما صنع - وحصن سمرقند وشحنها بالمقاتلة فما نفع ، وقضي الأمر .

                                                                                      ودخلت سنة 616 : فتقهقر خوارزم شاه ، وأقبلت المغل كالليل المظلم ، وما زال أمر خوارزم شاه في إدبار ، وسعده في سفال ، وملكه في زوال ، وهو في تقهقر واندفاع إلى أن قارب همذان ، وتفرق عنه جمعه ، حتى بقي في عشرين ألفا ، فما بلع ريقه إلا وطلائع المغل قد أظلته ، وأحدقوا به ، فنجا بنفسه ، واستحر القتل بجنده ، وفر إلى الجبل ، ثم إلى مازندران ، ونزل بمسجد على حافة البحر يصلي بجماعة ويتلو ويبكي ، ثم بعد أيام كبسه العدو ، فهرب في مركب صغير ، فوصل إليه نشابهم وخاض وراءه طائفة ، فبقي في لجة ، ومرض بذات الجنب ، فقال : سبحان الله ما بقي لنا من مملكتنا قدر ذراعين ندفن فيها ، فوصل إلى جزيرة فأقام بها طريدا وحيدا مجهودا ، ومات ، فكفنه فراشه في عمامته سنة سبع عشرة وستمائة .

                                                                                      [ ص: 234 ] وفي أول سنة 616 : خرب أسوار القدس المعظم خوفا من تملك الفرنج ، وهج الناس منه على وجوههم ، وكان يومئذ أحصن ما يكون ، وأعمره ، وذاك لأنه كان في نجدة أخيه على دمياط ، وسمع أن الفرنج على قصده ، وكان به أخوه الملك العزيز وعز الدين أيبك صاحب صرخد ، فشرعوا في هدمه ، وتمزق أهله وتعثروا ونهبوا وبيع رطل النحاس بنصف والزيت عشرة أرطال بدرهم ، ونحو ذلك .

                                                                                      قال ابن الأثير لما أخذت الفرنج برج السلسلة عمل الكامل على النيل جسرا عظيما ، فالتحم القتال حتى قطعته الفرنج ، فعمد الكامل إلى عدة مراكب وملأها حجارة وغرقها في الماء ليمنع مركبا من سلوك ، فحفرت الفرنج خليجا وأخروه وأدخلوا مراكبهم منه حتى دخلوا بورة وحاذوا الكامل ، وقاتلوه مرات في الماء ولم يتغير عن أهل دمياط شيء ; لأن الميرة واصلة إليهم . ومات العادل فهم جماعة بتمليك الفائز بمصر ، فبادر الكامل وأصبح الجيش في خبطة وقد فقدوا الكامل ، فشدت الفرنج على دمياط وأخذوا برها بلا كلفة ولولا لطف الله وقدوم المعظم بعد يومين لراحت مصر ، ففرح به الكامل ، وبعثوا عماد الدين أحمد بن المشطوب الذي سعى للفائز إلى الشام ، وتمادى حصار الفرنج لدمياط وصبر أهلها صبرا عظيما ، وقتل منهم خلق ، وقلوا وجاعوا فسلموها بالأمان فحصنها العدو وأشرف الناس على خطة صعبة وهم أهل مصر بالجلاء ، وأخذت في شعبان سنة ست عشرة ، ودار الكامل مرابطا إلى سنة ثماني عشرة وأقبل الأشرف منجدا [ ص: 235 ] لأخيه وقوي المسلمون وحاربوا الفرنج مرات ، وترددت الرسل في هدنة وبذلوا للفرنج القدس وعسقلان وقلاعا سوى الكرك ، فأبوا ، وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار عوضا عن تخريب سور القدس ، فاضطر المسلمون إلى حربهم ، فقلت الميرة على الفرنج ففجر المسلمون النيل على منزلة الفرنج ، ولم يبق لهم مسلك غير جهة ضيقة ، فنصب الكامل الجسور على النيل ودخلت العساكر فملكوا المضيق وسقط في أيدي الفرنج وجاعوا ، فأحرقوا خيامهم وأثقالهم ومجانيقهم ، وعزموا على الزحف إلى المسلمين فعجزوا وذلوا وعز المسلمون عليهم ، فطلبوا من الكامل الأمان ، ويتركوا له دمياط ، فبينما هم في ذلك إذا رهج عظيم وضجة من جهة دمياط فظنوها نجدة للفرنج جاءت ، وإذا به الملك المعظم في جنده ، فخذلت الملاعين وسلموا دمياط في رجب سنة ثماني عشرة ودخلها المسلمون ، وقد بالغت الكلاب في تحصينها ، ولله الحمد .

                                                                                      أنبأني مسعود بن حمويه ، قال : لما تقرر الصلح جلس السلطان في مخيمه : عن يمينه المجاهد شيركوه ، ثم الأشرف ، ثم المعظم ، ثم صاحب حماة ، ثم الحافظ صاحب جعبر ، ومقدم عسكر حلب ، ومقدم المواصلة والماردانين ، ومقدم جند إربل وميافارقين ، وعن شماله نائب البابا ثم صاحب عكا ثم صاحب قبرص وصاحب طرابلس وصاحب صيدا ثم أرباب القلاع ومقدم الديوية ، ومقدم الإسبتار ، وكان يوما مشهودا ، فأذن السلطان بأن يباع عليهم المأكول فكان يدخل إليهم كل يوم خمسون ألف رغيف ، ومائتا [ ص: 236 ] أردب شعير ، وكانوا يبيعون سلاحهم بالخبز ، وكان السلطان قد أنشأ هناك مدينة سماها المنصورة ، نزلها بجيشه وسورها .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية