الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فإن الرجل إذا حلف بالطلاق ليقتلن النفس أو ليقطعن رحمه أو ليمنعن الواجب عليه من أداء أمانة ونحوها : فإنه يجعل الطلاق عرضة ليمينه أن يبر ويتقي ويصلح بين الناس أكثر مما يجعل الله عرضة ليمينه ; ثم إن وفى بيمينه كان عليه من ضرر الدنيا والدين ما قد أجمع المسلمون على تحريم الدخول فيه وإن طلق امرأته ففي الطلاق أيضا من ضرر الدين والدنيا ما لا خفاء فيه .

                أما الدين فإنه مكروه باتفاق الأمة مع استقامة حال الزوجين : [ ص: 269 ] إما كراهة تنزيه أو كراهة تحريم فكيف إذا كانا في غاية الاتصال وبينهما من الأولاد والعشرة ما يكون في طلاقهما من ضرر الدين أمر عظيم وكذلك ضرر الدنيا كما يشهد به الواقع ; بحيث لو خير أحدهما بين أن يخرج من ماله ووطنه وبين الطلاق لاختار فراق ماله ووطنه على الطلاق وقد قرن الله فراق الوطن بقتل النفس ; ولهذا قال الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه متابعة لعطاء : إنها إذا أحرمت بالحج فحلف عليها زوجها بالطلاق أنها لا تحج صارت محصرة وجاز لها التحلل ; لما عليها في ذلك من الضرر الزائد على ضرر الإحصار بالعدو أو القريب منه وهذا ظاهر فيما إذا قال : إن فعلت كذا فعلي أن أطلقك أو أعتق عبيدي ; فإن هذا في نذر اللجاج والغضب بالاتفاق كما لو قال : والله لأطلقنك أو لأعتقن عبيدي ; وإنما الفرق بين وجود العتق ووجوبه هو الذي اعتمده المفرقون . وسنتكلم عليه إن شاء الله تعالى . وأيضا فإن الله قال : { لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم }

                وذلك يقتضي أنه ما من تحريم لما أحل الله إلا والله غفور لفاعله رحيم به وأنه لا علة تقتضي ثبوت ذلك التحريم لأن قوله [ لم ] لأي شيء . استفهام في معنى النفي والإنكار والتقدير لا سبب لتحريمك ما أحل الله لك والله غفور رحيم فلو كان الحالف بالنذر والعتاق والطلاق على أنه لا يفعل شيئا لا رخصة له لكان هنا سبب يقتضي تحريم الحلال ولا يبقى موجب المغفرة والرحمة على هذا الفاعل . [ ص: 270 ] وأيضا قوله سبحانه وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } إلى قوله : { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم } والحجة منها كالحجة من الأولى وأقوى ; فإنه قال : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } وهذا عام لتحريمها بالأيمان من الطلاق وغيرها ; ثم بين وجه المخرج من ذلك بقوله : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته } أي فكفارة تعقيدكم أو عقدكم الأيمان وهذا عام ;

                ثم قال : { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وهذا عام كعموم قوله : { واحفظوا أيمانكم } . ومما يوضح " عمومه " أنهم قد أدخلوا الحلف بالطلاق في عموم قوله صلى الله عليه وسلم { من حلف فقال : إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك } فأدخلوا فيه الحلف بالطلاق والعتاق والنذر والحلف بالله . وإنما لم يدخل مالك وأحمد وغيرهما تنجيز الطلاق موافقة لابن عباس لأن إيقاع الطلاق ليس بحلف ; وإنما الحلف المنعقد ما تضمن محلوفا به ومحلوفا عليه : إما بصيغة القسم وإما بصيغة الجزاء وما كان في معنى ذلك ; كما سنذكره إن شاء الله تعالى .

                وهذه الدلالة تنبيه على أصول الشافعي وأحمد ومن وافقهم في مسألة " نذر اللجاج والغضب " فإنهم احتجوا على التكفير فيه بهذه الآية وجعلوا قوله : { تحلة أيمانكم } { كفارة أيمانكم } عاما في اليمين بالله واليمين بالنذر ومعلوم أن شمول اللفظ لنذر اللجاج والغضب في الحج والعتق ونحوهما سواء . [ ص: 271 ] فإن قيل : المراد في الآية اليمين بالله فقط فإن هذا هو المفهوم من مطلق اليمين ويجوز أن يكون التعريف بالألف واللام والإضافة في قوله { عقدتم الأيمان } { تحلة أيمانكم } منصرفا إلى اليمين المعهودة عندهم وهي اليمين بالله وحينئذ فلا يعم اللفظ إلا المعروف عندهم .

                والحلف بالطلاق ونحوه لم يكن معروفا عندهم ولو كان اللفظ عاما فقد علمنا أنه لم يدخل فيه اليمين التي ليست مشروعة كاليمين بالمخلوقات فلا يدخل فيه الحلف بالطلاق ونحوه ; لأنه ليس من اليمين المشروعة ; لقوله : { من كان حالفا فليحلف بالله أو فليصمت } وهذا سؤال من يقول كل يمين غير مشروعة فلا كفارة لها ولا حنث . فيقال : لفظ " اليمين " شمل هذا كله بدليل استعمال النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والعلماء اسم اليمين في هذا كله كقوله صلى الله عليه وسلم " النذر حلف " وقول الصحابة لمن حلف بالهدي والعتق : كفر يمينك . وكذلك فهمه الصحابة من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما سنذكره .

                ولإدخال العلماء لذلك في قوله صلى الله عليه وسلم { من حلف فقال إن شاء الله فإن شاء فعل وإن شاء ترك } ويدل على عمومه في الآية أنه سبحانه قال : { لم تحرم ما أحل الله لك } ثم قال : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } فاقتضى هذا أن نفس تحريم الحلال يمين كما استدل به ابن عباس وغيره . وسبب نزول الآية : إما تحريمه العسل وإما تحريمه مارية [ ص: 272 ] القبطية . وعلى التقديرين فتحريم الحلال يمين على ظاهر الآية ; وليس يمينا بالله ; ولهذا أفتى جمهور الصحابة - كعمر وعثمان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وغيرهم - أن تحريم الحلال يمين مكفرة : إما " كفارة كبرى " كالظهار وإما " كفارة صغرى " كاليمين بالله .

                وما زال السلف يسمون الظهار ونحوه يمينا . " وأيضا " فإن قوله : { لم تحرم ما أحل الله لك } إما أن يراد به : لم تحرم بلفظ الحرام ؟ وإما : لم تحرمه باليمين بالله تعالى ونحوها ؟ وإما : لم تحرمه مطلقا ؟ فإن أريد الأول والثالث فقد ثبت أن تحريمه بغير الحلف بالله يمين فيعم . وإن أريد به تحريمه بالحلف بالله فقد سمى الله الحلف بالله تحريما للحلال ومعلوم أن اليمين بالله لم توجب الحرمة الشرعية ; لكن لما أوجبت امتناع الحالف من الفعل فقد حرمت عليه الفعل تحريما شرطيا لا شرعيا فكل يمين توجب امتناعه من الفعل فقد حرمت عليه الفعل فيدخل في عموم قوله : { لم تحرم ما أحل الله لك } وحينئذ فقوله : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } لا بد أن يعم كل يمين حرمت الحلال لأن هذا حكم ذلك الفعل فلا بد أن يطابق صوره ; لأن تحريم الحلال هو سبب قوله : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } وسبب الجواب إذا كان عاما كان الجواب عاما لئلا يكون جوابا عن البعض مع قيام السبب المقتضي للتعميم وهذا التقدير في قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } إلى قوله : { ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم } . [ ص: 273 ] وأيضا فإن الصحابة فهمت العموم وكذلك العلماء عامتهم حملوا الآية على اليمين بالله وغيرها .

                وأيضا فنقول : على الرأس . سلمنا أن اليمين المذكورة في الآية المراد بها اليمين بالله تعالى وأن ما سوى اليمين بالله تعالى لا يلزم بها حكم فمعلوم أن الحلف بصفاته كالحلف به كما لو قال : وعزة الله تعالى أو لعمر الله أو : والقرآن العظيم فإنه قد ثبت جواز الحلف بهذه الصفات ونحوها عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ; ولأن الحلف بصفاته كالاستعاذة بها - وإن كانت الاستعاذة لا تكون إلا بالله في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم { أعوذ بوجهك } { وأعوذ بكلمات الله التامات } { وأعوذ برضاك من سخطك } ونحو ذلك - وهذا أمر متقرر عند العلماء . وإذا كان كذلك فالحلف بالنذر والطلاق ونحوهما هو حلف بصفات الله ; فإنه إذا قال : إن فعلت كذا فعلي الحج . فقد حلف بإيجاب الحج عليه وإيجاب الحج عليه حكم من أحكام الله تعالى وهو من صفاته . وكذلك لو قال : فعلي تحرير رقبة .

                وإذا قال : فامرأتي طالق وعبدي حر . فقد حلف بإزالة ملكه الذي هو تحريمه عليه والتحريم من صفات الله كما أن الإيجاب من صفات الله وقد جعل الله ذلك من آياته في قوله : { ولا تتخذوا آيات الله هزوا } فجعل صدوره في النكاح والطلاق والخلع من آياته ; لكنه إذا حلف بالإيجاب والتحريم فقد عقد اليمين لله كما يعقد النذر لله فإن قوله : علي الحج والصوم . عقد [ ص: 274 ] لله ; ولكن إذا كان حالفا فهو لم يقصد العقد لله بل قصد الحلف به فإذا حنث ولم يوف به فقد ترك ما عقد لله كما أنه إذا فعل المحلوف فقد ترك ما عقده لله .

                " يوضح ذلك " أنه إذا حلف بالله أو بغير الله مما يعظمه بالحلف فإنما حلف به ليعقد به المحلوف عليه ويربطه به لأنه يعظمه في قلبه إذا ربط به شيئا لم يحله ; فإذا حل ما ربطه به فقد انتقصت عظمته من قلبه وقطع السبب الذي بينه وبينه . وكما قال بعضهم : اليمين العقد على نفسه لحق من له حق

                ولهذا . إذا كانت اليمين غموسا كانت من الكبائر الموجبة للنار كما قال تعالى : { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم } وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في عد الكبائر ; وذلك أنه إذا تعمد أن يعقد بالله ما ليس منعقدا به فقد نقص الصلة التي بينه وبين ربه بمنزلة من أخبر عن الله بما هو منزه عنه أو تبرأ من الله ; بخلاف ما إذا حلف على المستقبل فإنه عقد بالله فعلا قاصدا لعقده على وجه التعظيم لله ; لكن الله أباح له حل هذا العقد الذي عقده ; كما يبيح له ترك بعض الواجبات لحاجة أو يزيل عنه وجوبها .

                ولهذا قال أكثر أهل العلم : إذا قال : هو يهودي . أو نصراني إن لم يفعل ذلك . فهي يمين بمنزلة قوله : والله لأفعلن ; لأنه ربط عدم [ ص: 275 ] الفعل بكفره الذي هو براءته من الله فيكون قد ربط الفعل بإيمانه بالله وهذا هو حقيقة الحلف بالله . فربط الفعل بأحكام الله من الإيجاب أو التحريم أدنى حالا من ربطه بالله . " يوضح ذلك " أنه إذا عقد اليمين بالله فهو عقد لها بإيمانه بالله وهو ما في قلبه من جلال الله وإكرامه الذي هو جد الله ومثله الأعلى في السموات والأرض كما أنه إذا سبح الله وذكره فهو مسبح لله وذاكر له بقدر ما في قلبه من معرفته وعبادته ; ولذلك جاء التسبيح تارة لاسم الله كما في قوله { واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا } مع قوله : { اذكروا الله ذكرا كثيرا } فحيث عظم العبد ربه بتسبيح اسمه أو الحلف به أو الاستعاذة به فهو مسبح له بتوسط المثل الأعلى الذي في قلبه من معرفته وعبادته وعظمته ومحبته علما وفضلا وإجلالا وإكراما وحكم الإيمان والكفر إنما يعود إلى ما كسبه قلبه من ذلك كما قال سبحانه : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } وكما في موضع آخر : { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان } .

                فلو اعتبر الشارع ما في لفظ القسم من انعقاده بالأيمان وارتباطه به دون قصد الحلف لكان موجبه أنه إذا حنث بغير أيمانه تزول حقيقته كما قال { لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن } وكما أنه إذا حلف على ذلك يمينا [ ص: 276 ] فاجرة كانت من الكبائر وإذا اشترى بها مالا معصوما فلا خلاق له في الآخرة ولا يكلمه الله يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب أليم ; لكن الشارع علم أن الحالف بها ليفعلن أو لا يفعل ليس غرضه الاستخفاف بحرمة اسم الله والتعلق به لغرض الحالف باليمين الغموس فشرع له الكفارة وحل هذا العقد وأسقطها عن لغو اليمين لأنه لم يعقد قلبه شيئا من الجناية على إيمانه فلا حاجة إلى الكفارة .

                وإذا ظهر أن موجب لفظ اليمين انعقاد الفعل بهذا اليمين الذي هو إيمانه بالله فإذا عدم الفعل كان مقتضى لفظه عدم إيمانه . هذا لولا ما شرع الله من الكفارة كما أن مقتضى قوله : إن فعلت كذا أوجب علي كذا . أنه عند الفعل يجب ذلك الفعل لولا ما شرع الله من الكفارة . " يوضح ذلك " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من حلف بغير ملة الإسلام فهو كما قال } أخرجاه في الصحيحين فجعل اليمين الغموس في قوله : هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا كالغموس في قوله : والله ما فعلت كذا ; إذ هو في كلا الأمرين قد قطع عهده من الله حيث علق الإيمان بأمر معدوم والكفر بأمر موجود بخلاف اليمين على المستقبل . وطرد هذا المعنى أن اليمين الغموس إذا كانت في النذر أو الطلاق أو العتاق وقع المعلق به ولم ترفعه الكفارة كما يقع الكفر بذلك في أحد قولي العلماء .

                وبهذا يحصل الجواب عن قولهم : المراد به اليمين المشروعة . [ ص: 277 ] و " أيضا " قوله سبحانه وتعالى : { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم } فإن السلف مجمعون أو كالمجمعين على أن معناها أنكم لا تجعلوا الله مانعا لكم إذا حلفتم به من البر والتقوى والإصلاح بين الناس ; بأن يحلف الرجل أن لا يفعل معروفا مستحبا أو واجبا أو ليفعلن مكروها أو حراما ونحوه فإذا قيل له : افعل ذلك أو لا تفعل هذا . قال : قد حلفت بالله : فيجعل الله عرضة ليمينه . فإذا كان قد نهى عباده أن يجعلوا نفسه مانعا لهم في الحلف من البر والتقوى . والحلف بهذه الأيمان إن كان داخلا في عموم الحلف به وجب أن لا يكون مانعا من باب التنبيه بالأعلى على الأدنى فإنه إذا نهى أن يكون هو سبحانه عرضة لأيماننا أن نبر ونتقي فغيره أولى أن نكون منهيين عن جعله عرضة لأيماننا وإذا تبين أننا منهيون عن أن نجعل شيئا من الأشياء عرضة لأيماننا أن نبر ونتقي ونصلح بين الناس فمعلوم أن ذلك إنما هو لما في البر والتقوى والإصلاح مما يحبه الله ويأمر به فإذا حلف الرجل بالنذر أو بالطلاق أو بالعتاق أن لا يبر ولا يتقي ولا يصلح فهو بين أمرين :

                إن وفى بذلك فقد جعل هذه الأشياء عرضة ليمينه أن يبر ويتقي ويصلح بين الناس وإن حنث فيها وقع عليه الطلاق ووجب عليه فعل المنذور ; فقد يكون خروج أهله منه أبعد عن البر والتقوى من الأمر المحلوف عليه فإن أقام على يمينه ترك البر والتقوى وإن خرج عن أهله وماله ترك البر والتقوى فصارت عرضة ليمينه أن يبر ويتقي فلا يخرج عن ذلك إلا بالكفارة .

                [ ص: 278 ] وهذا المعنى هو الذي دلت عليه السنة : ففي الصحيحين من حديث همام عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه } ورواه البخاري أيضا من حديث عكرمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم { من استلج في أهله بيمين فهو أعظم إثما } فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن اللجاج باليمين في أهل الحالف أعظم من التكفير .

                " واللجاج " التمادي في الخصومة ; ومنه قيل رجل لجوج إذا تمادى في الخصومة ولهذا تسمي العلماء هذا " نذر اللجاج والغضب " فإنه يلج حتى يعقده ثم يلج في الامتناع من الحنث . فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن اللجاج باليمين أعظم إثما من الكفارة وهذا عام في جميع الأيمان . وأيضا { فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة : إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك } أخرجاه في الصحيحين وفي رواية في الصحيحين { فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير } وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير } وفي رواية { فليأت الذي هو خير . وليكفر عن يمينه } وهذا نكرة في [ ص: 279 ] سياق الشرط فيعم كل حلف على يمين كائنا ما كان الحلف ; فإذا رأى غير اليمين المحلوف عليها خيرا منها وهو أن يكون اليمين المحلوف عليها تركا لخير فيرى فعله خيرا من تركه أو يكون فعلا لشر فيرى تركه خيرا من فعله فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه .

                وقوله هنا " على يمين " هو والله أعلم من باب تسمية المفعول باسم المصدر سمي الأمر المحلوف عليه يمينا كما يسمى المخلوق خلقا والمضروب ضربا والمبيع بيعا ونحو ذلك وكذلك أخرجاه في الصحيحين { عن أبي موسى الأشعري في قصته وقصة أصحابه ; لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستحملوه فقال : والله ما أحملكم وما عندي ما أحملكم عليه ثم قال : إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها } وفي رواية في الصحيحين { إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير } وروى مسلم في صحيحه عن عدي بن حاتم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا حلف أحدكم على اليمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير } وفي رواية لمسلم أيضا { من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير } وقد رويت هذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير هذه الوجوه من حديث عبد الله بن عمر وعوف بن مالك الجشمي .

                [ ص: 280 ] فهذه نصوص رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة أنه أمر من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها أن يكفر يمينه ويأتي الذي هو خير ولم يفرق بين الحلف بالله أو النذر ونحوه . وروى النسائي عن أبي موسى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما على الأرض يمين أحلف عليها فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيته } وهذا صريح بأنه قصد تعميم كل يمين في الأرض وكذلك الصحابة فهموا منه دخول الحلف بالنذر في هذا الكلام فروى أبو داود في سننه حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع حدثنا خبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب : أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة . فقال له عمر : إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم وفيما لا يملك } فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أمر هذا الذي حلف بصيغة الشرط ونذر نذر اللجاج والغضب بأن يكفر يمينه وأن لا يفعل ذلك المنذور واحتج بما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم وفيما لا يملك } ففهم من هذا أن من حلف بيمين أو نذر على معصية أو قطيعة فإنه لا وفاء عليه في ذلك النذر وإنما عليه الكفارة ; كما أفتاه عمر . ولولا أن هذا النذر [ ص: 281 ] كان عنده يمينا لم يقل له كفر عن يمينك .

                وإنما قال صلى الله عليه وسلم { لا يمين ولا نذر } لأن اليمين ما قصد بها الحض أو المنع والنذر ما قصد به التقرب وكلاهما لا يوفى به في المعصية والقطيعة . وفي هذا الحديث دلالة أخرى وهو أن قول النبي صلى الله عليه وسلم { لا يمين ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة رحم } يعم جميع ما يسمى يمينا أو نذرا سواء كانت اليمين بالله أو كانت بوجوب ما ليس بواجب من الصدقة أو الصيام أو الحج أو الهدي أو كانت بتحريم الحلال كالظهار والطلاق والعتاق .

                ومقصود النبي صلى الله عليه وسلم إما أن يكون نهيه عن المحلوف عليه من المعصية والقطيعة فقط أو يكون مقصوده مع ذلك لا يلزمه ما في اليمين والنذر من الإيجاب والتحريم وهذا الثاني هو الظاهر ; لاستدلال عمر بن الخطاب به ; فإنه لولا أن الحديث يدل على هذا لم يصح استدلال عمر بن الخطاب رضي الله عنه على ما أجاب به السائل من الكفارة دون إخراج المال في كسوة الكعبة ; ولأن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم يعم ذلك كله . وأيضا فمما يبين دخول الحلف بالنذر والطلاق والعتاق في اليمين والحلف في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ما روى ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه } رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وقال : حديث حسن [ ص: 282 ] وأبو داود ولفظه حدثنا أحمد بن حنبل ثنا سفيان ; عن أيوب عن نافع عن ابن عمر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من حلف على يمين فقال إن شاء الله فقد استثنى } ورواه أيضا من طريق عبد الرزاق عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من حلف فاستثنى فإن شاء رجع وإن شاء ترك غير حنث } وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث } رواه أحمد والترمذي وابن ماجه ولفظه " فله ثنياه " والنسائي وقال : " فقد استثنى " ثم عامة الفقهاء أدخلوا الحلف بالنذر وبالطلاق وبالعتاق في هذا الحديث وقالوا : ينفع فيه الاستثناء بالمشيئة ; بل كثير من أصحاب أحمد يجعل الحلف بالطلاق لا خلاف فيه في مذهبه وإنما الخلاف فيما إذا كان بصيغة الجزاء .

                وإنما الذي لا يدخل عند أكثرهم هو نفس إيقاع الطلاق والعتاق والفرق بين إيقاعهما والحلف بهما ظاهر . وسنذكر إن شاء الله " قاعدة الاستثناء " فإذا كانوا قد أدخلوا الحلف بهذه الأشياء في قوله : { من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه } فكذلك يدخل في قوله { من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه } فإن كلا اللفظين سواء وهذا واضح لمن تأمله ; فإن قوله صلى الله عليه وسلم { من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه } العموم فيه مثله في قوله : [ ص: 283 ] { من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي خير وليكفر عن يمينه } وإذا كان لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم الاستثناء هو لفظه في حكم الكفارة وجب أن يكون كل ما ينفع فيه الاستثناء ينفع فيه التكفير وكل ما ينفع فيه التكفير ينفع فيه الاستثناء كما نص عليه أحمد في غير موضع .

                ومن قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصد بقوله : { من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه } جميع الأيمان التي يحلف بها من اليمين بالله وبالنذر وبالطلاق وبالعتاق وبقوله : { من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها } إنما قصد به اليمين بالله أو اليمين بالله والنذر . فقوله ضعيف فإن حضور موجب أحد اللفظين بقلب النبي صلى الله عليه وسلم مثل حضور موجب اللفظ الآخر إذ كلاهما لفظ واحد ; والحكم فيهما من جنس واحد وهو رفع اليمين . إما بالاستثناء وإما بالتكفير .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية