الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء


              حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا عبد الله بن أحمد ، قال : كتب إلي أبو نصر الفتح بن شخرف بخط يده ، قال : قال أبو حطيط - رجل قد سماه من أهل الفضل من أهل خراسان - قال : حبس أحمد بن حنبل وبعض أصحابه في المحنة قبل أن يضرب ، قال أحمد بن حنبل : " لما كان الليل نام من كان معي من أصحابي ، وأنا متفكر في أمري ، فإذا أنا برجل طويل يتخطى الناس حتى دنا مني " ، فقال : أنت أحمد بن حنبل ؟ فسكت ، فقالها ثانية فسكت ، فقال في الثالثة : أنت أبو عبد الله أحمد بن حنبل ؟ قلت : " نعم " ، قال : اصبر ولك الجنة ، قال أبو عبد الله : " فلما مسني حر السوط ذكرت قول الرجل " .

              حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا أحمد بن علي الأبار ، حدثني يعقوب أبو يوسف ابن أخي معروف الكرخي ، قال : " بينما أنا نائم في أيام المحنة إذ دخل رجل عليه جبة صوف بلا كمين ، فقلت له : من أنت ؟ قال : أنا موسى بن عمران ، فقلت : أنت موسى بن عمران الذي كلمك الله وما بينك وبينه ترجمان ؟ فبينما أنا كذلك إذ هبط علينا رجل من السقف عليه حلتان جعد الشعر فقلت : من هذا ؟ قال : هذا عيسى ابن مريم ، ثم قال موسى : أنا موسى بن عمران الذي كلمني الله وما بيني وبينه ترجمان ، وهذا عيسى ابن مريم ونبيكم صلى الله عليه وسلم وأحمد بن حنبل وحملة العرش وجميع الملائكة يشهدون أن القرآن كلام الله غير مخلوق " .

              حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا محمد بن عبدوس بن كامل ، ثنا محمد بن الفرج [ ص: 194 ] أبو جعفر - جار أحمد بن حنبل - قال : " لما نزل بأحمد بن حنبل ما نزل من الحبس والظلم والضرب ، دخلت علي من ذلك مصيبة ، فأتيت في منامي فقيل لي : أما ترضى أن يكون أحمد بن حنبل عند الله تعالى بمنزلة أبي السواد العدوي ، أولست تروي خبر أبي السواد ؟ قلت : بلى ، قال : فإنه عند الله بتلك المنزلة " .

              قال أبو جعفر محمد بن الفرج : وحدثنا علي بن أبي عاصم ، عن بسطام بن مسلم ، عن الحسن بن أبي الحسن ، قال : دعا بعض مترفي هذه الأمة أبا السواد العدوي فسأله عن شيء من أمر دينه فأجابه بما يعلم ، فلم يوافقه على ذلك ، فقال : وإلا فأنت بريء من الإسلام ، قال : " فإلى أي دين أفر ؟ " قال : وإلا فامرأته طالق ، قال : " فإلى من آوي بالليل " ؟ فضربه أربعين سوطا ، فقال : " والله لا تذهب أسواطه عند الله " ، قال أبو جعفر محمد بن الفرج فأتيت أبا عبد الله فأخبرته بذلك فسر به .

              حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبو معمر القطيعي قال : " لما حضرنا في دار السلطان أيام المحنة ، وكان أبو عبد الله أحمد بن حنبل قد أحضر ، فلما رأى الناس يجيئون انتفخت أوداجه واحمرت عيناه ، وذهب ذلك اللين الذي كان فيه ، قلت : إنه قد غضب لله " . قال أبو معمر : " فلما رأيت ما به قلت : يا أبا عبد الله أبشر " .

              وقد حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان ، عن الوليد بن عبد الله بن جميع ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، قال : " كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من إذا أريد على شيء من دينه رأيت حماليق عينيه في رأسه تدور كأنه مجنون " .

              حدثنا الحسين بن محمد ، ثنا محمد بن إسماعيل بن أحمد بن صالح بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبو عبد الله السلال قال : سمعت أبا عبد الله محمد بن نوح ، قال : قلت لأبي عبد الله : إن رأيتني ضعفت أو خذلت فلا تضعف . فلست أنت كأنا ، فقال لي : أبشر فإنك على إحدى ثلاث : إما أن لا تراه ولا يراك ، وإما رأيته فكذبته فقتلك فكنت من أفضل الشهداء ، وإما رأيته فصدقته فحال الله بينك وبينه .

              أخبرنا عبد الله بن جعفر ، وحدثني عنه الحسين بن محمد ، ثنا أبي ، ثنا أحمد [ ص: 195 ] بن عبد الله ، قال : قال أحمد بن غسان : حملت أنا وأحمد بن حنبل في محمل على جمل يراد بنا المأمون ، فلما صرنا قريب عانة قال لي أحمد : قلبي يحس أن رجاء الحصار يأتي في هذه الليلة ، فإن أتى وأنا نائم فأيقظني ، وإن أتى وأنت نائم أيقظتك . فبينما نحن نسير إذ قرع المحمل قارع فأشرف أحمد ، فإذا برجل يعرفه بالصفة وكان لا يأوي المدائن والقرى ، وعليه عباءة قد شدها على عنقه ، فقال : يا أبا عبد الله ، إن الله قد رضيك له وافدا ، فانظر لا يكون وفودك على المسلمين وفودا مشئوما ، واعلم أن الناس إنما ينتظرونك لأن تقول فيقولوا ، واعلم أنما هو الموت والجنة . فلما أشرفنا على البذيذون قال لي : يا أحمد بن غسان إني موصيك بوصية فاحفظها عني ، راقب الله في السراء والضراء ، واشكره على الشدة والرخاء ، وإن دعانا هذا الرجل أن نقول : القرآن مخلوق فلا تقل ، وإن أنا قلت فلا تركن إلي ، وتأول قول الله تعالى : ( ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار ) فتعجبت من حداثة سنه وثبات قلبه . فلم يكن بأسرع أن خرج خادم وهو يمسح عن وجهه بكمه وهو يقول : عز علي يا أبا عبد الله أن جرد أمير المؤمنين سيفا لم يجرده قط وبسط نطعا لم يبسطه قط ، ثم قال : وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا رفعت عن أحمد وصاحبه حتى يقولا : القرآن مخلوق قال : فنظرت إلى أحمد وقد برك على ركبتيه ولحظ السماء بعينيه ثم قال : سيدي ، غر هذا الفاجر حلمك حتى يتجرأ على أوليائك بالقتل والضرب ، اللهم فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته .

              قال : فوالله ما مضى الثلث الأول من الليل إلا ونحن بصيحة وضجة ، وإذا رجاء الحصار قد أقبل علينا فقال : صدقت يا أبا عبد الله القرآن كلام الله غير مخلوق . قد مات والله أمير المؤمنين .

              حدثنا الحسين بن محمد بن إبراهيم القاضي الإيذجي - بها - حدثني أبو عبد الله الجوهري ، ثنا يوسف بن يعقوب بن الفرج ، قال : سمعت علي بن محمد القرشي قال : لما قدم أحمد بن حنبل ليضرب بالسياط أيام المحنة وجرد وبقي في سراويله ، فبينما هو يضرب إذ انحل السراويل فجعل يحرك شفتيه بشيء فرأيت [ ص: 196 ] يدين خرجا من تحته وهو يضرب فشدا السراويل ، قال : فلما فرغوا من الضرب قلنا له : ما كنت تقول حين انحل السراويل ؟ قال : قلت : " يا من لا يعلم العرش منه أين هو إلا هو ، إن كنت أنا على الحق فلا تبد عورتي ، فهذا الذي قلت " .

              حدثنا محمد بن جعفر ، وعلي بن أحمد ، قالا : ثنا محمد بن إسماعيل بن أحمد ، ثنا أبو الفضل صالح بن أحمد بن حنبل ، قال : سمعت أبي يقول : " لما دخلنا على إسحاق بن إبراهيم قرئ علينا كتابه الذي كان صار إلى طرسوس فكان فيما قرئ علينا : ( ليس كمثله شيء ) وهو خالق كل شيء ، فقلت : ( وهو السميع البصير ) فقال بعض من حضر : سله ما أراد بقوله : ( وهو السميع البصير ) ؟ " فقال أبي رحمه الله : فقلت : " كما قال الله تعالى " . قال صالح : ثم امتحن القوم فوجه بمن امتنع إلى الحبس ، فأجاب القوم جميعا غير أربعة : أبي ، ومحمد بن نوح ، وعبيد الله بن عمر القواريري ، والحسن بن حماد سجادة ، ثم أجاب عبيد الله بن عمر والحسن بن حماد ، وبقي أبي ومحمد بن نوح في الحبس ، فمكثا أياما في الحبس ، ثم ورد الكتاب من طرسوس بحملنا فحمل أبي ومحمد بن نوح مقيدين زميلين ، وأخرجا من بغداد ، فسرنا معهما إلى الأنبار ، فسأل أبو بكر الأحول أبي فقال : يا أبا عبد الله إن عرضت على السيف تجيب ؟ فقال : " لا " ، قال أبي : فانطلق بنا حتى نزلنا الرحبة ، فلما رحلنا منها - وذلك في جوف الليل - وخرجنا من الرحبة عرض لنا رجل فقال : أيكم أحمد بن حنبل ؟ فقيل له : هذا ، فسلم على أبي ثم قال له : يا هذا ما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة هاهنا ، ثم سلم وانصرف . فقلت : من هذا ؟ فقالوا : " هذا رجل من العرب من ربيعة يعمل الشعر في البادية ، يقال له : جابر بن عامر ، فلما صرنا إلى أذنة ورحلنا منها - وذلك في جوف الليل - فتح لنا بابها فلقينا رجل ونحن خارجون من الباب وهو داخل ، فقال : البشرى ، قد مات الرجل " ، قال أبي : " وكنت أدعو الله أن لا أراه " ، قال أبو الفضل صالح : فصار أبي ومحمد بن نوح إلى طرسوس وجاء - يعني المأمون - من البذيذون ووفدوا في أقيادهما إلى الرقة في سفينة مع قوم محتبسين ، فلما صارا بعمان [ ص: 197 ] توفي محمد بن نوح رحمه الله ، فتقدم أبي فصلى عليه ، ثم صار إلى بغداد وهو مقيد فمكث بالياسرية أياما ، ثم صير إلى الحبس في دار اكتريت له عند دار عمارة ، ثم نقل بعد ذلك إلى حبس العامة في درب الموصلية ، فمكث في السجن منذ أخذ وحمل إلى أن ضرب ، وخلي عنه ثمانية وعشرين شهرا ، قال أبي : " فكنت أصلي بهم وأنا مقيد ، وكنت أرى بوران يحمل له في زورق ماء باردا فيذهب به إلى السجن " .

              حدثنا محمد بن جعفر ، وعلي بن أحمد ، والحسين بن محمد ، قالوا : ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا أبو الفضل صالح بن أحمد بن حنبل ، قال أبي : لما كان في شهر رمضان لليلة سبع عشرة خلت منه حولت من السجن إلى دار إسحاق بن إبراهيم ، وأنا مقيد بقيد واحد ، يوجه إلي في كل يوم رجلان سماهما أبي ، قال أبو الفضل : وهما أحمد بن رباح وأبو شعيب الحجاج ، يكلماني ويناظراني ، فإذا أرادا الانصراف دعوا بقيد فقيدت به ، فمكثت على هذه الحال ثلاثة أيام ، فصار في رجلي أربعة أقياد ، فقال لي أحدهما في بعض الأيام في كلام دار بيننا ، وسألته عن علم الله فقال : علم الله مخلوق ، فقلت له : يا كافر كفرت ، فقال لي الرسول الذي كان يحضر معهم من قبل إسحاق : هذا رسول أمير المؤمنين . قال : فقلت له : إن هذا زعم أن علم الله مخلوق ، فنظر إليه كالمنكر عليه ما قال ، ثم انصرفا . قال أبي : وأسماء الله في القرآن ، والقرآن من علم الله ، فمن زعم أن القرآن مخلوق فهو كافر ، ومن زعم أن أسماء الله مخلوقة فقد كفر . قال أبي رحمه الله : فلما كانت ليلة الرابعة بعد العشاء الآخرة وجه المعتصم بنا إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي يأمره بحملي ، فأدخلت على إسحاق فقال لي : يا أحمد ، إنها والله نفسك ، إنه حلف أن لا يقتلك بالسيف وأن يضربك ضربا بعد ضرب ، وأن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشمس ، أليس قد قال الله عز وجل : ( إنا جعلناه قرآنا عربيا ) فيكون مجعولا إلا مخلوقا ؟ قال أبي : فقلت له : قد قال : ( فجعلهم كعصف مأكول ) أفخلقهم ؟ ، فقال : اذهبوا به ، قال أبي : فأنزلت إلى شاطئ دجلة فأحدرت إلى الموضع المعروف بباب البستان ومعي بغا الكبير ورسول من قبل إسحاق . قال : فقال [ ص: 198 ] بغا لمحمد المحاربي بالفارسية : ما تريدون من هذا الرجل ؟ قال : يريدون منه أن يقول : القرآن مخلوق ، فقال : ما أعرف شيئا من هذه الأقوال ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وقرابة أمير المؤمنين من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال أبي : فلما صرنا إلى الشط أخرجت من الزورق فجعلت أكاد أخر على وجهي حتى انتهي بي إلى الدار فأدخلت ، ثم عرج بي إلى الحجرة فصيرت في بيت منها وأغلق علي الباب وأقعد عليه رجل ، وذلك في جوف الليل ، وليس في البيت سراج ، فاحتجت إلى الوضوء فمددت يدي أطلب شيئا ، فإذا أنا بإناء فيه ماء وطشت ، فتهيأت للصلاة وقمت أصلي ، فلما أصبحت جاءني الرسول فأخذ بيدي فأدخلني الدار ، وإذا هو جالس وابن أبي دؤاد حاضر قد جمع أصحابه ، والدار غاصة بأهلها ، فلما دنوت سلمت ، فقال لي : ادنه ، فلم يزل يدنيني حتى قربت منه ، ثم قال لي : اجلس ، فجلست وقد أثقلتني الأقياد ، فلما مكثت هنيهة قلت : تأذن في الكلام ؟ فقال : تكلم ، فقلت : إلام دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، قال : قلت : أنا أشهد أن لا إله إلا الله . ثم قلت له : إن جدك ابن عباس يحكي أن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان بالله ، قال : " أتدرون ما الإيمان بالله ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وأن تعطوا الخمس من الغنم " .

              قال أبو الفضل : حدثناه أبي ، ثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة قال : حدثني أبو حمزة قال : قال : سمعت ابن عباس قال : " إن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان بالله فذكر الحديث . قال أبو الفضل : قال أبي : فقال لي عند ذلك : لولا أن وجدتك في يد من كان قبلي ما تعرضت لك ، ثم التفت إلى عبد الرحمن بن إسحاق ، فقال له : يا عبد الرحمن ، ألم آمرك أن ترفع المحنة ؟ قال أبي : فقلت في نفسي : الله أكبر ، إن في هذا فرجا للمسلمين . قال : ثم قال : ناظروه وكلموه ، ثم قال : يا عبد الرحمن كلمه ، فقال لي عبد الرحمن : ما تقول في القرآن ؟ قال : قلت : ما تقول في علم الله ؟ فسكت . قال أبي : فجعل [ ص: 199 ] يكلمني هذا وهذا فأرد على هذا وأكلم هذا ، ثم أقول : يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله عليه الصلاة والسلام أقول به ، أراه قال : فيقول ابن أبي دؤاد : فأنت ما تقول إلا ما في كتاب الله أو سنة رسوله . قال : فقلت : تأولت تأويلا فأنت أعلم وما تأولت تحبس عليه وتقيد عليه ، قال : فقال ابن أبي دؤاد : هو والله يا أمير المؤمنين ضال مضل مبتدع وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسلهم ، فيقول : ما تقولون فيه ؟ فيقولون : يا أمير المؤمنين هو ضال مضل مبتدع . قال : ولا يزالون يكلموني ، قال : وجعل صوتي يعلو أصواتهم ، وقال إنسان منهم : قال الله تعالى : ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث ) أفيكون محدثا إلا مخلوقا ؟ قال : فقلت له : قال الله تعالى : ( ص والقرآن ذي الذكر ) فالقرآن هو الذكر ، والذكر هو القرآن ، ويلك ليس فيها ألف ولام ، قال : فجعل ابن سماعة لا يفهم ما أقول ، قال : فجعل يقول لهم : ما يقول ؟ قال : فقالوا : إنه يقول كذا وكذا ، قال : فقال لي إنسان منهم : حديث خباب " تقرب إلى الله بما استطعت فإنك لن تتقرب إليه بشيء هو أحب إليه من كلامه " ، قال : أبي : فقلت لهم : نعم ، هكذا هو ، فجعل ابن أبي دؤاد ينظر إليه ويلحظه متغيظا عليه ، قال أبي : وقال بعضهم : أليس قال : ( خالق كل شيء ) قلت : قد قال : ( تدمر كل شيء ) فدمرت إلا ما أراد الله . قال : فقال بعضهم : فما تقول وذكر حديث عمران بن حصين : " إن الله كتب الذكر " ، فقال : إن الله خلق الذكر ، فقلت : هذا خطأ ، حدثناه غير واحد " إن الله كتب الذكر " قال أبي : فكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فتكلم . فلما قارب الزوال ، قال لهم : قوموا ثم حبس عبد الرحمن بن إسحاق ، فخلا بي وبعبد الرحمن فجعل يقول : أما تعرف صالحا الرشيدي كان مؤدبي ، وكان في هذا الموضع جالسا - وأشار إلى ناحية من الدار - قال : فتكلم وذكر القرآن فخالفني ، فأمرت به فسحب ووطئ ، ثم جعل يقول لي : ما أعرفك ، ألم تكن تأتينا ؟ فقال له عبد الرحمن : يا أمير المؤمنين أعرفه منذ ثلاثين سنة يرى طاعتك والحج والجهاد معك ، وهو ملازم لمنزله ، قال : فجعل يقول : والله إنه لفقيه وإنه لعالم وما يسوءني أن يكون معي يرد على أهل الملك ، [ ص: 200 ] ولئن أجابني إلى شيء له فيه أدنى فرج لأطلقن عنه بيدي ، ولأطأن عقبه ، ولأركبن إليه بجندي ، قال : ثم يلتفت إلي فيقول : ويحك يا أحمد ما تقول ؟ قال : فأقول : يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما طال بنا المجلس ضجر فقام ، فرددت إلى الموضع الذي كنت فيه ، ثم وجه إلي برجلين سماهما وهما : صاحب الشافعي وغسان من أصحاب ابن أبي دؤاد يناظراني فيقيمان معي حتى إذا حضر الإفطار وجه إلينا بمائدة عليها طعام فجعلا يأكلان ، وجعلت أتعلل حتى ترفع المائدة ، وأقاما إلى غدو ، في خلال ذلك يجيء ابن أبي دؤاد فيقول لي : يا أحمد يقول لك أمير المؤمنين : ما تقول ؟ فأقول له : أعطوني شيئا من كتاب الله عز وجل أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقول به ، فقال لي ابن أبي دؤاد : والله لقد كتب اسمك في السبعة فمحوته ، ولقد ساءني أخذهم إياك ، وإنه والله ليس السيف إنه ضرب بعد ضرب ، ثم يقول لي : ما تقول ؟ فأرد عليه نحوا مما رددت عليه ، ثم يأتيني رسوله فيقول : أين أحمد بن عمار أجب الرجل الذي أنزلت في حجرته ، فيذهب ثم يعود ، فيقول : يقول لك أمير المؤمنين : ما تقول ؟ فأرد عليه نحوا مما رددت على ابن أبي دؤاد ، فلا تزال رسله تأتي أحمد بن عمار وهو يختلف فيما بيني وبينه ويقول : يقول لك أمير المؤمنين : أجبني حتى أجيء فأطلق عنك بيدي .

              قال : فلما كان في اليوم الثاني أدخلت عليه ، فقال : ناظروه وكلموه ، قال : فجعلوا يتكلمون هذا من هاهنا وهذا من هاهنا فأرد على هذا وهذا ، فإذا جاءوا بشيء من الكلام مما ليس في كتاب الله عز وجل ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا فيه خبر ولا أثر ، قلت : ما أدري ما هذا ، قال : فيقولون : يا أمير المؤمنين إذا توجهت له الحجة علينا وثب ، وإذا كلمناه بشيء يقول : لا أدري ما هذا ؟ قال : فيقول : ناظروه ، ثم يقول : يا أحمد إني عليك شفيق ، فقال رجل منهم : أراك تذكر الحديث وتنتحله ، فقال له : ما تقول في قول الله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) فقال : خص الله بها المؤمنين ، قال : فقلت له : ما تقول إن كان قاتلا أو عبدا أو يهوديا أو نصرانيا ؟ فسكت ، قال أبي : وإنما احتججت عليهم [ ص: 201 ] بهذا لأنهم كانوا يحتجون علي بظاهر القرآن ولقوله أراك تنتحل الحديث ، وكان إذا انقطع الرجل منهم اعترض ابن أبي دؤاد فيقول : يا أمير المؤمنين والله لئن أجابك لهو أحب إلي من مائة ألف دينار ومائة ألف دينار فيعدد ما شاء الله من ذلك . ثم أمرهم بعد ذلك بالقيام ، وخلا بي وبعبد الرحمن فيدور بيننا كلام كثير وفي خلال ذلك يقول : ندعو أحمد بن أبي دؤاد ؟ فأقول ذلك إليك ، فيوجه إليه فيجيء فيتكلم ، فلما طال بنا المجلس قام ورددت إلى الموضع الذي كنت فيه ، وجاءني الرجلان اللذان كانا عندي بالأمس فجعلا يتكلمان ، فدار بيننا كلام كثير ، فلما كان وقت الإفطار جيء بطعام على نحو مما أتي به في أول ليلة فأفطروا فتعللت ، وجعلت رسله تأتي أحمد بن عمار فيمضي إليه فيأتيني برسالة على نحو مما كان في أول ليلة .

              وجاء ابن أبي دؤاد ، فقال : إنه قد حلف أن يضربك ضربا وأن يحبسك في موضع لا ترى فيه الشمس ، فقلت له : فما أصنع ؟ حتى إذا كدت أن أصبح قلت : لخليق أن يحدث في هذا اليوم من أمري شيء ، وقد كنت خرجت تكتي من سراويلي فشددت بها الأقياد أحملها بها إذا توجهت إليه ، فقلت لبعض من كان معي الموكل بي : أريد لي خيطا ، فجاءني بخيط فشددت به الأقياد وأعدت التكة في سراويلي ولبستها كراهية أن يحدث شيء من أمري فأتعرى ، فلما كان في اليوم الثالث أدخلت عليه والقوم حضور ، فجعلت أدخل من دار إلى دار ، وقوم معهم السيوف ، وقوم معهم السياط وغير ذلك من الزي والسلاح ، وقد حشيت الدار بالجند ، ولم يكن في اليومين الماضيين كبير أحد من هؤلاء حتى إذا صرت إليه قال : ناظروه وكلموه ، فعادوا لمثل مناظرتهم ، فدار بيننا وبينهم كلام كثير حتى إذا كان في الوقت الذي كان يخلو بي فيه فجاءني ثم اجتمعوا فشاورهم ثم نحاهم ، ودعاني فخلا بي وبعبد الرحمن ، فقال لي : ويحك يا أحمد أنا والله عليك شفيق ، وإني لأشفق عليك مثل شفقتي على هارون ابني فأجبني ، فقلت : يا أمير المؤمنين أعطوني شيئا من كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلما ضجر وطال المجلس ، قال : عليك لعنة الله ، لقد طمعت فيك ، خذوه ، اخلعوه ، اسحبوه ، قال : فأخذت فسحبت ، ثم خلعت ، ثم [ ص: 202 ] قال : العقابين والسياط فجيء بعقابين والسياط ، قال أبي : وقد كان صار إلي شعرتان من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فصررتهما في كم قميصي فنظر إسحاق بن إبراهيم إلى الصرة في كم قميصي فوجه إلي : ما هذا المصرور في كمك ؟ فقلت : شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم ، فسعى بعض القوم إلى القميص ليحرقه في وقت ما أقمت بين العقابين ، فقال لهم : لا تحرقوه وانزعوه عنه ، قال أبي : فظننت أنه بسبب الشعر الذي كان فيه ، ثم صيرت بين العقابين وشدت يدي ، وجيء بكرسي فوضع له وابن أبي دؤاد قائم على رأسه ، والناس اجتمعوا وهم قيام ممن حضر ، فقال لي إنسان ممن شدني : خذ أي الخشبتين بيدك وشد عليها ، فلم أفهم ما قال ، قال : فتخلعت يدي لما شدت ولم أمسك الخشبتين ، قال أبو الفضل : ولم يزل أبي رحمه الله يتوجع منها من الرسغ إلى أن توفي ، ثم قال للجلادين : تقدموا فنظر إلى السياط ، فقال : ائتوا بغيرها ، ثم قال لهم : تقدموا ، فقال لأحدهم : أدنه أوجع قطع الله يدك ، فتقدم فضربني سوطين ثم تنحى ، فلم يزل يدعو واحدا بعد واحد فيضربني سوطين ويتنحى ، ثم قام حتى جاءني وهم محدقون به ، فقال : ويحك يا أحمد تقتل نفسك ، ويحك أجبني حتى أطلق عنك بيدي .

              قال فجعل بعضهم يقول لي : ويحك إمامك على رأسك قائم ، قال : وجعل يعجب وينخسني بقائم سيفه ويقول : تريد أن تغلب هؤلاء كلهم ، وجعل إسحاق بن إبراهيم يقول : ويلك ، الخليفة على رأسك قائم ، قال : ثم يقول بعضهم : يا أمير المؤمنين دمه في عنقي ، قال : ثم رجع فجلس على الكرسي ثم قال للجلاد : أدنه ، شد قطع الله يدك ، ثم لم يزل يدعو بجلاد بعد جلاد فيضربني سوطين ويتنحى وهو يقول له : شد قطع الله يدك ، ثم قام لي الثانية فجعل يقول : يا أحمد أجبني وجعل عبد الرحمن بن إسحاق يقول لي : من صنع بنفسه من أصحابك في هذا الأمر ما صنعت ؟ هذا يحيى بن معين وهذا أبو خيثمة وابن أبي (؟) وجعل يعدد علي من أجاب ، وجعل هو يقول : ويحك أجبني ، قال : فجعلت أقول نحوا مما كنت أقول لهم ، قال : فرجع فجلس ثم جعل يقول للجلاد : شد - قطع الله يدك - قال أبي : فذهب عقلي وما عقلت إلا وأنا في حجرة طلق عني الأقياد ، [ ص: 203 ] فقال إنسان ممن حضر : إنا كببناك على وجهك وطرحنا على ظهرك سارية ودسناك ، قال أبي : فقلت : ما شعرت بذلك ، قال : فجاءوني بسويق فقالوا لي : اشرب وتقيأ ، فقلت : لا أفطر ، ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم ، قال أبي : فنودي بصلاة الظهر فصلينا الظهر ، قال ابن سماعة : صليت والدم يسيل من ضربك ؟ فقلت : قد صلى عمر وجرحه يثعب دما فسكت ، ثم خلى عنه ووجه إليه برجل ممن يبصر الضرب والجراحات ليعالج فيها ، فنظر إليه ، فقال لنا : والله لقد رأيت من ضرب ألف سوط ما رأيت ضربا أشد من هذا ، لقد جر عليه من خلفه ومن قدامه ، ثم أدخل ميلا في بعض تلك الجراحات ، وقال : لم يثعب ، فجعل يأتيه ويعالجه ، وقد كان أصاب وجهه غير ضربة ، ثم مكث يعالجه ما شاء الله ، ثم قال : إن هاهنا شيئا أريد أن أقطعه ، فجاء بحديدة فجعل يعلق اللحم بها ويقطعه بسكين معه ، وهو صابر لذلك يحمد الله في ذلك ، فيراه منه ولم يزل يتوجع من مواضع منه ، وكان أثر الضرب بينا في ظهره إلى أن توفي رحمه الله .

              قال أبو الفضل : سمعت أبي يقول : " والله لقد أعطيت المجهود من نفسي ، ولوددت أن أنجو من هذا الأمر كفافا لا علي ولا لي " .

              قال أبو الفضل : فأخبرني أحد الرجلين اللذين كانا معه ، وقد كان هذا الرجل - يعني صاحب الشافعي - صاحب حديث قد سمع ونظر ، ثم جاءني بعد فقال لي : يا ابن أخي رحمة الله على أبي عبد الله ، والله ما رأيت أحدا يشبهه ، قد جعلت أقول له في وقت ما يوجه إلينا بالطعام : يا أبا عبد الله أنت صائم وأنت في موضع مسغبة ، ولقد عطش فقال لصاحب الشراب : ناولني فناوله قدحا فيه ماء وثلج فأخذه فنظر إليه هنيهة ثم رده عليه ، قال : فجعلت أعجب إليه من صبره على الجوع والعطش وما هو فيه من الهول ، قال أبو الفضل : وكنت ألتمس وأحتال أن أوصل إليه طعاما أو رغيفا أو رغيفين في هذه الأيام ، فلم أقدر على ذلك ، وأخبرني رجل حضره ، قال : تفقدته في هذه الأيام وهم يناظرونه ويكلمونه ، فما لحن في كلمة وما ظننت أن أحدا يكون في مثل شجاعته وشدة قلبه .

              قال أبو الفضل : " دخلت على أبي يوما فقلت له : بلغني أن رجلا جاء إلى فضل الأنماطي فقال له : اجعلني في حل إذ لم أقم بنصرتك ، فقال فضل : لا جعلت أحدا [ ص: 204 ] في حل ، فتبسم أبي وسكت ، فلما كان بعد أيام قال : مررت بهذه الآية : ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) فنظرت في تفسيرها فإذا هو ما حدثني به هاشم بن القاسم ، ثنا المبارك ، قال : حدثني من سمع الحسن ، يقول : إذا جاءت الأمم بين يدي رب العالمين يوم القيامة نودوا ليقم من أجره على الله ، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا ، قال أبي : فجعلت الميت في حل من ضربه إياي ، ثم جعل يقول : وما على رجل أن لا يعذب الله بسببه أحدا " .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية