الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان فبأي آلاء ربكما تكذبان يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان فبأي آلاء ربكما تكذبان وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام فبأي آلاء ربكما تكذبان كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام فبأي آلاء ربكما تكذبان

[ ص: 166 ] "مرج البحرين" معناه: أرسلهما إرسالا غير منحاز بعضهما من بعض، ومنه: مرجت الدابة، ومنه: الأمر المريج، أي: المختلط الذي لم يتحصل منه شيء، ومنه من مارج من نار . واختلف الناس في البحرين - فقال الحسن، وقتادة : بحر فارس وبحر الروم، وقال الحسن أيضا: بحر القلزم واليمن وبحر الشام، وقال ابن عباس ، وابن جبير : بحر في السماء وبحر في الأرض، وقال ابن عباس رضي الله عنهما أيضا هو مطر السماء -سماه بحرا- وبحر الأرض، والظاهر عندي أن قوله تعالى: مرج البحرين يريد بهما نوعي الماء العذب والأجاج، أي: خلطهما في الأرض وأرسلهما متداخلين في وضعهما في الأرض قريب بعضهما من بعض، والعبرة في هذا التأويل منيرة، وأنشد منذر بن سعيد :


وممزوجة الأمواه لا العذب غالب على الملح طيبا لا ولا الملح يعذب



أما قوله تعالى: "يلتقيان" فعلى التأويلين الأولين معناهما: معدان للالتقاء وحقهما أن يلتقيا لولا البرزخ، وعلى القول الثالث أنهما يلتقيان كل سنة مرة، فمن ذهب إلى أنه بحر يجتمع في السماء فهو قول ضعيف، وإنما يتوجه اللقاء فيه وفي القول الرابع بنزول المطر، وفي القول الخامس بالأنهار في البحر وبالعيون قرب البحر.

و"البرزخ": الحاجز في كل شيء، فهو في بعض هذه الأقوال أجرام الأرض، قاله قتادة ، وفي بعضها القدرة، والبرزخ أيضا المدة التي بين الدنيا والآخرة للموتى، فهو حاجز، وقال بعض الناس: إن ماء الأنهار لا يختلط بالماء الملح بل هو بذاته باق فيه، وهذا يحتاج إلى دليل أو حديث صحيح وإلا فالعيان لا يقتضيه، وذكر الثعلبي في "مرج البحرين" ألغازا وأقوالا باطنة لا يجب أن يلتفت إلى شيء منها.

واختلف الناس في قوله تعالى: "لا يبغيان" - فقال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : معناه: لا يبغي واحد منهما على الآخر، وقال قتادة أيضا والحسن : لا يبغيان على الناس والعمران، وهذان القولان على أن اللفظ من البغي، وقال بعض المتأولين: هي من قولك: بغي إذا طلب، فمعناه: لا يبغيان حالا من الأحوال غير حاليهما اللتين خلقا وسخرا لهما. وقال [ ص: 167 ] ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك : اللؤلؤ: كبار الجوهر والمرجان: صغاره، وقال ابن عباس رضي الله عنهما أيضا، ومرة الهمداني عكس هذا، والوصف بالصغر هو الصواب في اللؤلؤ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه وغيره: المرجان حجر أحمر، وهذا هو الصواب في المرجان، واللؤلؤ بناء غريب لا يحفظ منه في كلام العرب أكثر من خمسة: اللؤلؤ، والجؤجؤ، والدؤدؤ، واليؤيؤ -وهو طائر والبؤبؤ، وهو الأصل.

واختلف الناس في قوله تعالى: "منهما" - فقال أبو الحسن الأخفش في كتاب "الحجة": وزعم قوم أنه قد يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح ومن العذب، ورد الناس على الشاعر في قوله:


فجاء بها ما شئت من لطمية     على وجهها ماء الفرات يموج



[ ص: 168 ] وقال جمهور من المتأولين: إنما يخرج ذلك من الأجاج في المواضع التي تقع فيها الأنهار والمياه العذبة، فلذلك قال تعالى: "منهما"، وهذا مشهور عند الغواصين، وقال ابن عباس ، وعكرمة : إنما تتكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر لأن الصدف وغيرها تفتح أجوافها للمطر، فلذلك قال تعالى: "منهما"، وقال أبو عبيدة ما معناه: إن خروج هذه الأشياء إنما هي من الملح لكنه تعالى قال: "منهما" تجوزا، كما قال الشاعر:


. . . . . . . . . . . . . .     متقلدا سيفا ورمحا



وكما قال الآخر:


. . . . . . . . . . .     علفتها تبنا وماء باردا



[ ص: 169 ] فمن حيث هما نوع واحد فخروج هذه الأشياء إنما هي منهما وإن كانت تختص عند التفصيل المبالغ بأحدهما، وهذا كما قال تعالى: سبع سماوات طباقا وجعل القمر فيهن نورا ، وإنما هو في إحداهن وهي الدنيا إلى الأرض، وقال الرماني : العذب فيهما كاللقاح للملح، فهو كما يقال: الولد يخرج من الذكر والأنثى. وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وأهل المدينة: "يخرج" بضم الياء وفتح الراء "اللؤلؤ" رفعا. وقرأ ابن كثر، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : "يخرج" بفتح الياء وضم الراء على بناء الفعل للفاعل، وهي قراءة الحسن، وأبي جعفر . وقرأ أبو عمرو - في رواية حسين الجعفي عنه:- "يخرج" بضم الياء وكسر الراء على إسناده إلى الله تعالى، أي: بتمكينه وقدرته "اللؤلؤ" نصبا، ورواها أيضا بالنون مضمومة وكسر الراء.

و"الجوار" جمع جارية، وهي السفن، وقرأ الحسن، والنخعي : "الجواري" بإثبات الياء، وقرأ أبو جعفر ، وشيبة بحذفها، وقرأ ابن كثر، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، والكسائي : "المنشآت" بفتح الشين، أي: أنشأها الله تعالى أو الناس، وقرأ حمزة ، وأبو بكر بخلاف عنه-: "المنشئات" بكسر الشين، أي: تنشئ هي السير إقبالا وإدبارا، و "الأعلام" الجبال وما جرى مجراها من الظراب والآكام، وقال مجاهد : ما له شراع فهو من المنشآت وما لم يرفع له شراع فليس من المنشآت.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

قوله تعالى: "كالأعلام" هو الذي يقتضي هذا الفرق، وأما لفظة "المنشآت" فتعم الكبير والصغير.

والضمير في قوله تعالى: كل من عليها فان للأرض، وكنى تعالى عنها ولم يتقدم لها [ ص: 170 ] ذكر لوضوح المعنى، كما قال تعالى: حتى توارت بالحجاب إلى غير ذلك من الشواهد، والإشارة بالفناء إلى جميع الموجودات على الأرض من حيوان وغيره، فغلبت عبارة من يعقل فلذلك قال: "من".

و"الوجه" عبارة عن الذات لأن الجارحة منفية في حق الله تعالى، وهذا كما تقول: هذا وجه القول والأمر، أي: حقيقته وذاته، وقرأ جمهور الناس: "ذو الجلال" على صفة لفظة الوجه، وقرأ عبد الله بن مسعود ، وأبي رضي الله عنهما: "ذي الجلال" على صفة الرب تبارك وتعالى.

التالي السابق


الخدمات العلمية