الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد

المعنى: قد قدمت بالوعيد أني أعذب الكفار في ناري فلا يبدل القول لدي ولا ينقص ما أبرمه كلامي، ثم أزال موضع الاعتراض بقوله: وما أنا بظلام للعبيد ، أي: هذا عدل فيهم; لأني أعذرت وأمهلت وأنعمت بالإدراكات وهديت السبيل والنجدين وبعثت الرسل. وقال الفراء : معنى قوله تعالى: ما يبدل القول لدي أي: ما يكذب لدي لعلمي بجميع الأمور، فتكون الإشارة -على هذا- إلى كذب الذي قال: "مآأطغيته". قوله تعالى: يوم نقول لجهنم ، يجوز أن يعمل في الظرف قوله تعالى: "بظلام للعبيد"، ويجوز أن يعمل فيه فعل مضمر، وقرأ الجمهور من القراء وحفص عن عاصم : "نقول" بالنون، وهي قراءة الحسن، وأبي رجاء ، وأبي جعفر ، والأعمش ، [ ص: 49 ] ورجحها أبو علي بما تقدم من قوله تعالى: "قدمت" وقوله سبحانه: "وما أنا"، وقرأ نافع ، وعاصم -في رواية أبي بكر - "يقول"، على معنى: يقول الله، وهي قراءة الأعرج ، وشيبة ، وأهل المدينة، وقرأ الحسن، وابن مسعود ، والأعمش أيضا: "يقال" على بناء الفعل للمفعول.

وقوله: "هل امتلأت" تقرير وتوقيف، واختلف الناس هل وقع هذا التقرير فامتلأت أو هي لم تمتلئ؟ فقال بكل وجه جماعة من المتأولين، وبحسب ذلك تأولوا قولها: "هل من مزيد"، فمن قال إنها امتلأت جعل قولها: هل من مزيد على معنى التقرير ونفي المزيد، أي: وهل عندي موضع يزاد فيه شيء؟ ونحو هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وهل ترك لنا عقيل منزلا"، وهو تأويل الحسن، وعمرو، وواصل. ومن قال إنها كانت غير ملأى جعل قولها: "هل من مزيد" على معنى السؤال والرغبة في الزيادة، قال الرماني : وقيل: المعنى وتقول خزنتها، والقول إنها القائلة أظهر.

واختلف الناس في قول جهنم، هل هو حقيقة أو مجاز؟ أي: حالها حال من لو نطق لقال كذا وكذا، فيجري هذا مجرى:


شكا إلي جملي طول السرى



[ ص: 50 ] ومجرى قول ذي الرمة :


. . . . . . . . . . . . .     تكلمني أحجاره وملاعبه.



والذي يترجح في قول جهنم: هل من مزيد أنها حقيقة، وأنها قالت ذلك وهي غير ملأى، وهو قول أنس بن مالك رضي الله عنه، ويبين ذلك الحديث الصحيح المتواتر، قول النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله لجهنم: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط، قط، وينزوي بعضها إلى بعض"، و قد اضطرب الناس في معنى هذا الحديث، وذهبت جماعة من المتكلمين إلى أن "الجبار" اسم جنس، وأنه يريد المتجبرين من بني آدم، وروي أن الله تعالى يعد من الجبابرة طائفة يملأ بهم جهنم آخرا، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جلدة الكافر يصير غلظها أربعين ذراعا، ويعظم بدنه على هذه النسبة، وهذا كله من ملء جهنم، وذهب الجمهور إلى أن الجبار اسم الله تبارك وتعالى، وهذا هو الصحيح، فإن في الحديث الصحيح "فيضع رب العالمين فيها قدمه"، وتأويل هذا أن "القدم" ما قدم لها من خلقه وجعلهم في [ ص: 51 ] علمه من ساكنيها، ومنه قوله تعالى: وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ، فالقدم ما قدم من شيء، ومنه قول الشاعر :


صل لربك واتخذ قدما     ينجيك يوم العثار والزلل



ومنه قول العجاج :


. . . . . . . . . . . . .. . . . .. . . .     وينشئ الملك لملك ذي قدم



أي: ذي شرف متقدم، وهذا التأويل مروي عن ابن المبارك ، وعن النضر بن شميل ، وهو قول الأصوليين، وفي كتاب مسلم بن الحجاج : "فيضع الجبار فيها رجله"، ومعناه الجمع الذي أعد لها، يقال للجمع الكثير من الناس: "رجل" تشبيها برجل الجراد، قال الشاعر:


فمر بها رجل من الناس وانزوى     إليهم من الحي اليماني أرجل.



[ ص: 52 ] وملاك النظر في هذا الحديث أن الجارحة والتشبيه وما جرى مجراه منتف كل ذلك، فلم يبق إلا إخراج ألفاظ على هذه الوجوه السائغة في كلام العرب.

و "أزلفت" معناه: قربت، وقوله تعالى: "غير بعيد" تأكيد وبيان أن هذا التقريب هو في المسافة، لأن "قربت" كان يحتمل أن يكون المعنى بالوعد والإخبار، فرفع الاحتمال بقوله: "غير بعيد".

وقوله تعالى: "هذا ما توعدون" الآية. يحتمل أن يكون معناه: يقال لهم في الآخرة عند إزلاف الجنة: هذا هو الذي كنتم توعدون في الدنيا، ويحتمل أن يكون المعنى خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، أي: هذا هو الذي توعدون به أيها الناس لكل أواب حفيظ، و"الأواب": الرجاع إلى الطاعة وإلى مراشد نفسه، وقال ابن عباس ، وعطاء : الأواب المسبح، من قوله تعالى: يا جبال أوبي معه ، وقال الشعبي ، ومجاهد ، هو الذي يذكر ذنوبه فيستغفر، وقال المحاسبي: هو الراجح بقلبه إلى الله تعالى، وقال عبيد بن عمير : كنا نتحدث أنه الذي إذا قام من مجلسه استغفر الله تعالى مما جرى في ذلك المجلس، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل. و"الحفيظ" معناه: لأوامر الله تعالى فيمتثلها، ولنواهيه فيتركها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: حفيظ لذنوبه حتى يرجع عنها.

وقوله تعالى: من خشي الرحمن بالغيب يحتمل أن يكون من نعت "الأواب" أو بدلا من "كل"، ويحتمل أن يكون رفعا بالابتداء، والخبر: يقال لهم: "ادخلوها بسلام"، ويحتمل أن تكون شرطية فيكون الجواب: يقال لهم: "ادخلوها بسلام"، وقوله تعالى: "بالغيب" معناه: غير مشاهد له، إنما يصدق رسوله ويسمع كتابه، وجاء معناه: يوم [ ص: 53 ] القيامة، و"المنيب" الراجع إلى الخير والمائل إليه، وقوله تعالى: "ادخلوها" تقدير يقال لهم، أو فيقال لهم، على ما تقدم. و"سلام" معناه: بأمن وسلامة من جميع الآفات، وقوله تعالى: ذلك يوم الخلود مقابل لقوله تعالى قبل في أمر الكفار: ذلك يوم الوعيد .

وقوله تعالى: لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد خبر بأنهم يعطون آمالهم أجمع، ثم أبهم تعالى الزيادة التي عنده للمؤمنين المنعمين، وكذلك هي مبهمة في قوله تعالى: فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ، وقد فسر ذلك الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بل ما أطلعتهم عليه"، وقد ذكر الطبري وغيره في تعيين هذا المزيد أحاديث مطولة وأشياء ضعيفة; لأن الله تبارك وتعالى يقول: فلا تعلم نفس وهم يعينونها تكلفا وتعشقا، وروي عن جابر بن عبد الله ، وأنس رضي الله عنهما أن المزيد: النظر إلى وجه الله تعالى بلا كيف.

التالي السابق


الخدمات العلمية