الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون إنا كذلك نجزي المحسنين ويل يومئذ للمكذبين كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون ويل يومئذ للمكذبين وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين فبأي حديث بعده يؤمنون

ذكر تعالى حالة المتقين بعقب ذكر حالة أهل النار ليبين الفرق، و"الظلال" في الجنة عبارة عن تكاثف الأشجار وجودة المباني، وإلا فلا شمس تؤذي هنالك حتى يكون ظل يجير من حرها، وقرأ الجمهور: "في ظلال"، وقرأ الأعرج ، والأعمش : "في ظلل" بضم الظاء، و"العيون" الماء النابع، وقوله تعالى: "مما يشتهون" إعلام بأن المأكل والمشرب هنالك إنما يكون برسم شهواتهم، بخلاف ما هي الدنيا عليه، فإن ذلك فيه شاذ نادر، والعرف أن المرء يرد شهوته إلى ما يقتضيه وجده، وهنا محذوف يدل عليه اللفظ تقديره: يقال لهم: كلوا. و"هنيئا" نصب على الحال، ويجوز أن يكون نصبه على جهة الدعاء. والكاف في قوله تعالى: إنا كذلك كاف تشبيه، والإشارة بذلك إلى ما ذكره من نعيم أهل الجنة.

وقوله تعالى: "كلوا وتمتعوا" مخاطبة لقريش، على معنى: قل لهم يا محمد، وهذه صيغة أمر معناها التهديد والوعيد، وقد بين ذلك قوله "قليلا"، ثم بين تعالى قرر لهم الإجرام الموجب لتعذيبهم، وقال من جعل السورة كلها مكية: إن هذه الآية في كفار قريش، وقال من جعل هذه الآية منها مدنية: إن نزلت في المنافقين، وقال مقاتل : نزلت في ثقيف لأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: حط عنا الصلاة فإنا لا ننحني فإنها مسبة، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لا خير في دين لا صلاة فيه .

قوله تعالى: وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ، قيل: هي حكاية عن حال المنافقين في الآخرة إذا سجد الناس فأرادوا هم السجود فانصرفت أصلابهم إلى الأرض وصارت فقاراتهم كصياصي البقر، قاله ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، وقال قتادة في

[ ص: 511 ] آخرين هذه حال كفار قريش في الدنيا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم وهم لا يجيبون، وذكر الركوع عبارة عن جميع الصلاة، هذا قول الجمهور، وقال بعض المتأولين: عنى بالركوع التواضع، كما قال الشاعر:


. . . . . . . . . . . . . . . . ترى الأكم فيها سجدا للحوافر



أي متذللة، وتأول قتادة الآية قاصدة الركوع نفسه، وقال: عليكم بحسن الركوع، والذي أقول: إن ذكر الركوع هنا وتخصيصه من بين سائر أحوال العبادة إنما كان لأن كثيرا من العرب كان يأنف من الركوع والسجود، ويراها هيئة منكرة، لما كان في أخلاقهم من العجرفة، ألا ترى أن بعضهم قد سئل فقيل له: كيف تقول: استخذأت أو استخذيت؟ فقال: كل لا أقول، قيل له: لم؟ قال: لأن العرب لا تستخذي، فظن أنه سئل عن المعنى، ولم يفهم أنه سئل عن اللفظة، وفي كتاب السير عن بعض العرب أنه استعفى متكلما عن قومه ونفسه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة، فلم يجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل له لا بد من الصلاة ، فقال عند ذلك: سنؤتيكها وإن كانت دناءة.

وقوله تعالى: فبأي حديث بعده يؤمنون يؤيد أن الآية كلها في قريش، والحديث الذي يقتضيه الضمير في "بعده" هو القرآن، وهذا توقيف وتوبيخ، وروي عن يعقوب أنه قرأ "تؤمنون" بالتاء من فوق، على المواجهة ورويت عن ابن عامر .

كمل تفسير سورة [المرسلات] والحمد لله رب العالمين.

التالي السابق


الخدمات العلمية