الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيف أبر والدي وهو يرفض الحديث معي؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أبي مع الوقت صار يكرهنا، مرة أرسل رسالة لكل من يعرفه يقول فيها إنه يخطط لقتلنا، فهو نفسيًا غير سوي، ومع الوقت تصالح معي، وأصبحت علاقتنا إلى حد ما جيدة.

ومرة طلب مني أن أعمل له توكيل قضايا، لكني رفضت؛ لأن عليه قضايا، ومعروف عنه أكل أموال الناس بالباطل والتزوير، وغير ذلك، رفضت خوفًا من أن يورطني؛ لأنه ليس لديه عزيز.

بعد رفضي قرر أن يقاطعني، علماً أنه لا يقيم معي، بل يقيم خارج البلاد، اعتذرت له عندما جاء إلى بيتنا، وقبلته، وكنت أسأله إن كان محتاجًا إلى شيء، قبل أن يسافر قلت له أن يرد على رسائلي، فقال: "أنت تعلم أنك سبب في حزني" اعتذرت له مرة أخرى قبل السفر وقبلته.

طوال فترة سفره كنت أرسل له رسائل، وهو لا يرد عمدًا، رغم أنه يراها، وفي النهاية قام بعمل حظر لي (block) كي لا يستقبل رسائلي، لكن لديه رقم قديم ما زال يستخدمه، ويمكنني أن أرسل عليه رسائل، فهل أرسل له مرة أخرى أم أكتفي؟ عندما يعود من السفر يتحدث معي إذا بدأت الحديث، ويرد بقدر السؤال، يقيم معنا شهرًا أو شهرين في السنة، فهل إذا قام بعمل حظر مرة أخرى أكتفي بأن أسأل عنه عندما يأتي من سفره؟ ماذا أفعل؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أخي الكريم: أسأل الله أن يربط على قلبك، وأن يعوّضك خيرًا عن كل وجعٍ رأيته، وأن يداوي جرح الأبوة الذي أثقل عليك، وأن يصلح حال والدك، ويهديه سواء السبيل.

ما ذكرته مؤلم بحقٍّ، ويكشف حجم المعاناة التي تحملها في صمتٍ، ومع ذلك بقيت حريصًا على البر والرحمة، وهذا والله خلقٌ يرفع لصاحبه قدرًا وأجرًا.

ما فعله والدك من تهديدات، ورسائل قاسية، وقطيعة، واستخدام الحظر، ليس طبيعيًا ولا مناسبًا من أبٍ، ويبدو أن أصل المشكلة مرتبط باضطراب نفسي وسلوكي قديم، إضافةً إلى تاريخ من التعامل المالي غير المنضبط.

هذه الخلفية تجعل ردود فعله غير متوقعة، وهذا يفسّر تقلبه بين القرب والهجر، ومع هذا، دعني أقترح لك أمرًا تجمع به بين البرّ المشروع، وحماية نفسك، والحكمة في التعامل.

أولًا: تثبيت الجانب الشرعي والقلبي: برّ الوالدين واجب، حتى لو كانا مؤذيَيْن، لكن الشرع لا يلزمك ببرّ يؤذيك أو يوقعك في الحرام، أو الضرر، قال الله تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي ما ليس لك به علمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾، أي: صاحبه بالمعروف دون تضييع نفسك، أما أعمال التوكيل والقضايا التي قد تورطك، فامتناعك عنها لا يُعدّ عقوقًا؛ لأن الشرع يمنع الإعانة على باطل، والنبي ﷺ قال: «لا ضرر ولا ضرار».

ثانيًا: فهم طبيعة حالة والدك: شخص له تاريخ من التهديد، وأكل أموال الناس، وتقلب المزاج، وقطع العلاقات فجأة، هذا ليس خلافًا عابرًا، بل نمط نفسي مضطرب، وأصحاب هذه الصفات يتقلبون بسرعة، يتخذون القرارات بدافع الغضب، يستخدمون الهجر والحظر كأداة للضغط، وحين تهدأ نفوسهم يعودون وكأن شيئًا لم يكن، لذا لا تأخذ كل خطوة منه بمقاييس منطقية، بل بمقاييس اضطراب نفسي وسلوكي، مع صور البرِّ المعهودة والتي أوصاك بها الشارع الكريم.

ثالثًا: كيف تتعامل معه الآن؟
أما بخصوص الرسائل والحظر: فأنت قمت بالواجب، اعتذرت، قبّلت رأسه، سألت عنه، أرسلت له رسائل، ثم قام هو بالحظر من طرف واحد، هنا تأتي القاعدة: افعل ما يثبت البر، دون ملاحقة مُرهِقة أو إذلالٍ للنفس، فإن كان له رقم قديم ويصل إليه: يمكنك إرسال رسالة مختصرة ولطيفة مثل: (أبي الغالي، أحب أن أطمئن عليك، وأسأل الله تعالى أن يحفظك أينما كنت) ثم تتوقف عن إرسال أي رسالة أخرى لفترةٍ حتى يعود من سفره، إنَّ الإلحاح الزائد مع الشخصيات المتقلبة يزيد المشكلة لا يصلحها.

وعند حضوره من السفر: افعل الآتي: سلّم عليه بحرارة، واسأل عن صحته فقط، دون مبالغة، ثم قدّم معروفًا بسيطًا إن استطعت، لا تفتح موضوع القطيعة ولا الحظر؛ لأن هذه الشخصيات ترى النقاش اعتداءً جديدًا، وإن بادر هو بالكلام فأنصت، وإن لم يبادر، فمجرد السلام والسؤال كافٍ شرعًا، بهذا تجمع برًّا بلا ضرر، وقربًا بلا تعلق مؤذٍ، واحترامًا لنفسك دون قطع رحم.

رابعًا: حماية نفسك ضرورة:
كونك استوثقت من حالته ووضعه فلا تقم بعمل توكيلات قانونية له، أو تدخل في أي معاملات مالية معه، وهذا ليس عقوقًا، بل صيانة للنفس، خاصة إن خشيت عودتها عليك بالضرر، أو التعدي على حقوق الآخرين وأموالهم، فإنَّ إعانته على ظلم الناس قد يدخل في باب الإثم، وأنت أحسنتَ حين امتنعتَ.

اللهم أصلح شأن والد السائل، واشرح صدره، واهدِ قلبه، وألّف بينهم على خير، واجعل برّه به سببًا للرحمة، وأبعد عنهم الفتن والضرر، واجعل لهم مخرجًا من كل ضيق، وارزق أخانا السائل الحكمة والصبر.

أخي الكريم: الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن، ويعلم صدق نيتك، ويرى تعبك، وسيجعل لك من أمرِك يُسرًا.

أسأل الله أن يصلح والدك، وأن يبرد قلبك، وأن يرزقك من السكينة ما ينساب على روحك نورًا ورحمة.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً