الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        معلومات الكتاب

                        إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

                        الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                        صفحة جزء
                        المسألة الثانية والعشرون : التخصيص بالكتاب العزيز وبالسنة المطهرة ، والتخصيص لهما

                        ذهب الجمهور إلى جواز تخصيص الكتاب بالكتاب .

                        وذهب بعض الظاهرية إلى عدم جوازه ، وتمسكوا بأن التخصيص بيان للمراد باللفظ ، ولا يكون إلا بالسنة ، لقوله تعالى : لتبين للناس ما نزل إليهم .

                        يجاب عنه : بأن كونه صلى الله عليه وآله وسلم مبينا ، لا يستلزم أن لا يحصل بيان الكتاب بالكتاب ، وقد وقع ذلك ، والوقوع دليل الجواز ، فإن قوله سبحانه : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء يعم الحوامل وغيرهن ، فخص أولات الأحمال بقوله وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ، وخص منه أيضا المطلقة قبل الدخول بقوله فما لكم عليهن من عدة تعتدونها وهكذا قد خصص عموم قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا بقوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومثل هذا كثير في الكتاب العزيز .

                        وأيضا ذلك الدليل الذي ذكروه معارض بما هو أوضح منه دلالة ، وهو قوله تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ، وقد جعل ابن الحاجب في مختصر [ ص: 448 ] المنتهى الخلاف في هذه المسألة لأبي حنيفة ، والقاضي أبي بكر الباقلاني ، وإمام الحرمين الجويني ، وحكى عنهم أن الخاص إن كان متأخرا ، وإلا فالعام ناسخ ، وهذه مسألة أخرى سيأتي الكلام فيها ، ولا اختصاص لها بتخصيص الكتاب بالكتاب .

                        تخصيص الكتاب بالسنة

                        وكما يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب ، فكذلك يجوز تخصيص السنة المتواترة بالكتاب ، عند جمهور أهل العلم .

                        وعن أحمد بن حنبل روايتان .

                        وعن بعض أصحاب الشافعي المنع ، قال ابن برهان : وهو قول بعض المتكلمين .

                        قال مكحول ، ويحيى بن كثير : السنة تقضي على الكتاب ، والكتاب لا يقضي على السنة .

                        ولا وجه للمنع ، فإن استدلوا بقوله تعالى : لتبين للناس ما نزل إليهم فقد عرفت عدم دلالته على المطلوب مع كونه معارضا بما هو أوضح دلالة منه كما تقدم .

                        تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة

                        ويجوز تخصيص عموم الكتاب بالسنة المتواترة إجماعا ، كذا قال : الأستاذ أبو منصور ، وقال الآمدي : لا أعرف فيه خلافا ، وقال الشيخ أبو حامد الإسفراييني : لا خلاف في ذلك ، إلا ما يحكى عن داود في إحدى الروايتين قال ابن كج : لا شك في الجواز ; لأن الخبر المتواتر يوجب العلم ، كما أن ظاهر الكتاب يوجبه .

                        وألحق الأستاذ أبو منصور بالمتواتر الأخبار التي يقطع بصحتها .

                        [ ص: 449 ] تخصيص السنة المتواترة بالمتواترة

                        ويجوز تخصيص السنة المتواترة بالسنة المتواترة ، وهو مجمع عليه ، إلا أنه حكى الشيخ أبو حامد الإسفراييني عن داود أنهما يتعارضان ، ولا يبنى أحدهما على الآخر ، ولا وجه لذلك .

                        تخصيص الكتاب بخبر الواحد

                        واختلفوا في جواز تخصيص الكتاب العزيز بخبر الواحد .

                        فذهب الجمهور إلى جوازه مطلقا ، وذهب بعض الحنابلة إلى المنع مطلقا ، وحكاه الغزالي في المنخول عن المعتزلة ، ونقله ابن برهان عن طائفة من المتكلمين ، والفقهاء ، ونقله أبو الحسين بن القطان عن طائفة من أهل العراق .

                        وذهب عيسى بن أبان إلى الجواز إذا كان العام قد خص من قبل بدليل قطعي ، متصلا كان أو منفصلا ، كذا حكاه صاحب المحصول ، وابن الحاجب في مختصر المنتهى عنه .

                        وقد سبق إلى حكاية ذلك عنه إمام الحرمين الجويني في التلخيص ، وحكى غير هؤلاء عنه أنه يجوز تخصيص العام بالخبر الأحادي إذا كان قد دخله التخصيص ، من غير تقييد لذلك بكون المخصص الأول قطعيا .

                        وذهب الكرخي إلى الجواز إذا كان العام قد خص من قبل بدليل منفصل ، سواء كان قطعيا أو ظنيا ، وإن خص بدليل متصل أو لم يخص أصلا لم يجز .

                        وذهب القاضي أبو بكر إلى الوقف ، وحكي عنه أنه قال : يجوز التعبد بوروده ، ويجوز أن يرد ، لكنه لم يقع .

                        وحكي عنه أيضا أنه لم يرد ، بل ورد المنع ، ولكن الذي اختاره لنفسه هو الوقف ، كما حكى ذلك عنه الرازي في المحصول .

                        واستدل في المحصول على ما ذهب إليه الجمهور بأن العموم وخبر الواحد دليلان متعارضان ، وخبر الواحد أخص من العموم ، فوجب تقديمه على العموم .

                        [ ص: 450 ] واحتج ابن السمعاني على الجواز بإجماع الصحابة فإنهم خصوا قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم إنا معشر الأنبياء لا نورث ، وخصوا التوارث بالمسلمين عملا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم لا يرث المسلم الكافر ، وخصوا قوله اقتلوا المشركين بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس ، وغير ذلك كثير .

                        وأيضا يدل على جواز التخصيص ، دلالة بينة واضحة ما وقع من أوامر الله عز وجل باتباع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من غير تقييد ، فإذا جاء عنه الدليل كان اتباعه واجبا ، وإذا عارضه عموم قرآني كان سلوك طريقة الجمع ببناء العام على الخاص متحتما ، ودلالة العام على أفراده ظنية لا قطعية ، فلا وجه لمنع تخصيصه بالأخبار الصحيحة الآحادية .

                        وقد استدل المانعون مطلقا بما ثبت عن عمر رضي الله عنه في قصة فاطمة بنت قيس حيث لم يجعل لها سكنى ولا نفقة ، كما في حديثها الصحيح ، فقال عمر [ ص: 451 ] " كيف نترك كتاب ربنا لقول امرأة ؟ " يعني قوله أسكنوهن .

                        وأجيب عن ذلك : بأنه إنما قال هذه المقالة لتردده في صحة الحديث ، لا لرده تخصيص عموم الكتاب بالسنة الآحادية ، فإنه لم يقل كيف نخصص عموم كتاب ربنا بخبر آحادي ، بل قال : كيف نترك كتاب ربنا لقول امرأة ؟

                        ويؤيد ذلك ما في صحيح مسلم وغيره بلفظ ( قال عمر : لا نترك كتاب الله وسنة نبينا لقول امرأة ، لعلها حفظت أو نسيت ) .

                        فأفاد هذا أن عمر رضي الله عنه إنما تردد في كونها حفظت أو نسيت ، ولو علم بأنها حفظت ذلك ، وأدته كما سمعته لم يتردد في العمل بما روته .

                        قال ابن السمعاني : إن محل الخلاف في أخبار الآحاد التي لم تجمع الأمة على العمل بها .

                        أما ما أجمعوا عليه كقوله : لا ميراث لقاتل ، و لا وصية لوارث فيجوز تخصيص العموم به قطعا ، ويصير ذلك كالتخصيص بالمتواتر ; لانعقاد الإجماع على حكمها ، ولا يضر عدم انعقاده على روايتها .

                        [ ص: 452 ] تخصيص القرآن بالقراءة الشاذة

                        تخصيص المتواتر من السنة بالآحاد

                        وكما يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الآحاد ، كذلك يجوز تخصيص العموم المتواتر من السنة بأخبار الآحاد ، ويجري فيه الخلاف السابق في تخصيص عموم القرآن السابق ، كما صرح القاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين الجويني وغيرهما ، وكما يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الآحاد كذلك يجوز تخصيصه بالقراءة الشاذة عند من نزلها منزلة الخبر الآحادي .

                        وقد سبق الكلام في القراءات في مباحث الكتاب .

                        وهكذا يجوز التخصيص لعموم الكتاب وعموم المتواتر من السنة ، بما ثبت من فعله صلى الله عليه وآله وسلم ، إذا لم يدل دليل على اختصاصه به ، كما يجوز بالقول .

                        تخصيص الكتاب والسنة المتواترة بفعل النبي وبتقريره

                        وهكذا يجوز التخصيص بتقريره صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد تقدم البحث في فعله صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي تقريره في مقصد السنة ، بما يغني عن الإعادة .

                        [ ص: 453 ] التخصيص بموافق العام وبعطف الخاص على العام

                        وأما التخصيص بموافق العام ، فقد سبق الكلام عليه في باب العموم ، وكذلك سبق الكلام على العام إذا عطف عليه ما يقتضي الخصوص ، وعلى العام الوارد على سبب خاص ، فهذه المباحث لها تعلق بالعام ، وتعلق بالخاص .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية