الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        المسألة الموفية عشرين : التخصيص بالعقل

                        فقد فرغنا بمعونة الله من ذكر المخصصات المتصلة ، وهذا شروع في المخصصات المنفصلة .

                        [ ص: 444 ] وقد حصروها في ثلاثة أقسام : العقل ، والحس ، والدليل السمعي .

                        قال القرافي : والحصر غير ثابت ، فقد يقع التخصيص بالعوائد ، كقولك : رأيت الناس ، فما رأيت أفضل من زيد ، فإن العادة تقضي أنك لم تر كل الناس ، وكذا التخصيص بقرائن الأحوال ، كقولك لغلامك ائتني بمن يخدمني ، فإن المراد الإتيان بمن يصلح لذلك ، ولعل القائل بانحصار المخصصات المنفصلة في الثلاثة المذكورة ، يجعل التخصيص بالقياس مندرجا تحت الدليل السمعي .

                        وقد اختلف في جواز التخصيص بالعقل :

                        فذهب الجمهور إلى التخصيص به ، وذهب شذوذ من أهل العلم إلى عدم جواز التخصيص به .

                        قال الشيخ أبو حامد الإسفراييني : ولا خلاف بين أهل العلم في جواز التخصيص بالعقل ، ولعله لم يعتبر بخلاف من شذ .

                        قال الفخر الرازي في المحصول : إن التخصيص بالعقل قد يكون بضرورته ، كقوله تعالى : الله خالق كل شيء فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس خالقا لنفسه ، وبنظره ، كقوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا فإن تخصيص الصبي والمجنون لعدم الفهم في حقهما ، ومنهم من نازع في تخصيص العموم بدليل العقل .

                        والأشبه عندي : أنه لا خلاف في المعنى بل في اللفظ ، أما أنه لا خلاف في المعنى فلأن اللفظ لما دل على ثبوت الحكم في جميع الصور ، والعقل منع من ثبوته في بعض الصور ، فإما أن يحكم بصحة مقتضى العقل والنقل ، فيلزم من ذلك صدق النقيضين ، وهو محال ، أو يرجح النقل على العقل ، وهو محال ; لأن العقل أصل للنقل فالقدح في العقل قدح في أصل النقل ، والقدح في الأصل لتصحيح الفرع يوجب القدح فيهما معا ، وإما أن يرجح حكم العقل على مقتضى العموم ، وهذا هو مرادنا من تخصيص العموم بالعقل .

                        وأما البحث اللفظي : فهو أن العقل هل يسمى مخصصا أم لا ؟ فنقول : إن أردنا [ ص: 445 ] بالمخصص : الأمر الذي يؤثر في اختصاص اللفظ العام ببعض مسمياته فالعقل غير مخصص ; لأن المقتضي لذلك الاختصاص هو الإرادة القائمة بالمتكلم ، والنقل يكون دليلا على تحقق تلك الإرادة ، فالعقل يكون دليل المخصص ، لا نفس المخصص ، ولكن على هذا التفسير وجب أن لا يكون الكتاب مخصصا للكتاب ، ولا السنة مخصصة للسنة ; لأن المؤثر في ذلك التخصيص هو الإرادة لا تلك الألفاظ . انتهى .

                        قال القاضي أبو بكر الباقلاني : وصورة المسألة أن صيغة العام إذا وردت ، واقتضى العقل عدم تعميمها فيعلم من جهة العقل أن المراد به ما قدمناه ، أنا نعلم بالعقل أن مطلق الصيغة لم يرد تعميمها .

                        وفصل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع بين ما يجوز ورود الشرع بخلافه ، وهو ما يقتضيه العقل من براءة الذمة فيمتنع التخصيص به ، فإن ذلك إنما يستدل به لعدم الشرع فإذا ورد الشرع سقط الاستدلال به ، وصار الحكم للشرع ، فأما ما لا يجوز ورود الشرع بخلافه ، كالذي دل العقل على نفيه ، فيجوز التخصيص به نحو الله خالق كل شيء فقلنا المراد ما خلا الصفات لدلالة العقل على ذلك . انتهى .

                        ولا يخفاك أن هذا التفصيل لا طائل تحته ، فإنه لم يرد بتخصيص العقل إلا الصورة الثانية ، أما الصورة الأولى ، فلا خلاف أن الشرع ناقل عما يقتضيه العقل من البراءة .

                        قال القاضي أبو بكر الباقلاني ، وإمام الحرمين الجويني ، وابن القشيري ، والغزالي ، وإلكيا الطبري ، وغيرهم : إن النزاع لفظي ، إذ مقتضى ما يدل عليه العقل ثابت إجماعا ، لكن الخلاف في تسميته تخصيصا ، فالخصم لا يسميه ; لأن المخصص هو المؤثر في التخصيص ، وهو الإرادة لا العقل ، وكذا قال الأستاذ أبو منصور : إنهم أجمعوا على صحة دلالة العقل على خروج شيء عن حكم العموم ، واختلفوا في تسميته تخصيصا .

                        وقيل : الخلاف راجع إلى مسألة التحسين والتقبيح العقليين فمن منع من تخصيص العقل ، فهو رجوع منه إلى أن العقل لا يحسن ، ولا يقبح ، وأن الشرع يرد بما لا يقتضيه العقل .

                        [ ص: 446 ] وقد أنكر هذا الأصفهاني ، وهو حقيق بأن يكون منكرا ، فالكلام في تلك المسألة غير الكلام في هذه المسألة ، كما سبق تقريره .

                        وقد جاء المانعون من تخصيص العقل بشبه مدفوعة كلها ، راجعة إلى اللفظ ، لا إلى المعنى ، وقد عرفت أن الخلاف لفظي ، فلا نطيل بذكرها .

                        قال الرازي في المحصول : فإن قيل : لو جاز التخصيص بالعقل ، فهل يجوز النسخ به ؟ قلنا : نعم ; لأن من سقطت رجلاه عنه ، سقط عنه فرض غسل الرجلين ، وذلك إنما عرف بالعقل . انتهى .

                        وأجاب غيره : بأن النسخ إما بيان مدة الحكم ، وإما رفع الحكم على التفسيرين ، وكلاهما محجوب عن نظر العقل ، بخلاف التخصيص ، فإن خروج البعض عن الخطاب قد يدركه العقل ، فلا ملازمة .

                        وليس التخصيص بالعقل من الترجيح لدليل العقل على دليل الشرع بل من الجمع بينهما لعدم إمكان استعمال الدليل الشرعي على عمومه لمانع قطعي ، وهو دليل العقل .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية