البحث الخامس : في تعارض الأفعال
اعلم أنه لا يجوز ، بحيث يكون البعض منها ناسخا لبعض أو مخصصا له ، لجواز أن يكون الفعل في ذلك الوقت واجبا ، وفي مثل ذلك الوقت بخلافه ; لأن الفعل لا عموم له ، فلا يشمل جميع الأوقات المستقبلة ، ولا يدل على التكرار . هكذا قال جمهور أهل الأصول ، على اختلاف طبقاتهم ، وحكى التعارض بين الأفعال ابن العربي في [ ص: 148 ] كتاب المحصول ثلاثة أقوال :
الأول : التخيير .
الثاني : تقديم المتأخر ، كالأقوال إذا تأخر بعضها .
الثالث : حصول التعارض ، وطلب الترجيح من خارج . قال : كما اتفق في صلاة الخوف صليت على أربع وعشرين صفة . قال مالك إنه يرجح من هذه الصفات ما هو أقرب إلى هيئة الصلاة . وقدم بعضهم الأخير منها إذا علم . انتهى . والشافعي :
وحكي عن ابن رشد أن الحكم في الأفعال كالحكم في الأقوال ، وقال القرطبي يجوز التعارض بين الفعلين عند من قال بأن الفعل يدل على الوجوب ، فإن علم التاريخ فالمتأخر ناسخ ، وإن جهل فالترجيح ، وإلا فهما متعارضان كالقولين .
وأما على القول بأنه يدل على الندب أو الإباحة فلا تعارض ، وقال في المنخول : إذا نقل فعل وحمل على الوجوب ، ثم نقل فعل يناقضه ، فقال الغزالي القاضي : لا يقطع بأنه ناسخ لاحتمال أنه انتهى لمدة الفعل الأول . قال : وذهب ابن مجاهد إلى أنه نسخ ، وتردد في القول الطارئ على الفعل ، وجزم إلكيا بعدم تصور تعارض الفعلين ، ثم [ ص: 149 ] استثنى من ذلك ما إذا علم بدليل أنه أريد به إدامته في المستقبل ، بأنه يكون ما بعده ناسخا له ، قال : وعلى مثله بنى مذهبه في سجود السهو قبل السلام وبعده . الشافعي
والحق أنه لا يتصور تعارض الأفعال ، فإنه لا صيغ لها يمكن النظر فيها ، والحكم عليها ، بل هي مجرد أكوان متغايرة واقعة في أوقات مختلفة ، وهذا إذا لم تقع بيانات للأقوال ، أما إذا وقعت بيانات للأقوال فقد تتعارض في الصورة ، ولكن التعارض في الحقيقة راجع إلى المبينات من الأقوال ، لا إلى بيانها من الأفعال وذلك كقوله صلى الله عليه وآله وسلم فإن آخر الفعلين ينسخ الأول كآخر القولين ; لأن هذا الفعل بمثابة القول . صلوا كما رأيتموني أصلي
قال الجويني وذهب كثير من الأئمة فيما أن الواجب التمسك بآخرهما ، واعتقاد كونه ناسخا للأول ، قال : وقد ظهر ميل إذا نقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعلان مؤرخان مختلفان إلى هذا ، ثم ذكر ترجيحه للمتأخر من صفات صلاة الخوف . الشافعي
وينبغي حمل هذا على الأفعال التي وقعت بيانا كما ذكرنا ، فإن صلاة الخوف على اختلاف صفاتها واقعة بيانا ، وهكذا ينبغي حمل ما نقله المازري عن الجمهور من أن المتأخر من الأفعال ناسخ عن ما ذكرنا .