البحث الحادي عشر : في الإجماع السكوتي
وهو أن يقول بعض أهل الاجتهاد بقول ، وينتشر ذلك في المجتهدين من أهل ذلك العصر فيسكتون ، ولا يظهر منهم اعتراف ولا إنكار ، وفيه مذاهب :
الأول : أنه ليس بإجماع ولا حجة ، قاله وابنه داود الظاهري والمرتضى ، وعزاه القاضي إلى ، واختاره ، وقال : إنه آخر أقوال الشافعي . الشافعي
[ ص: 265 ] وقال الغزالي والرازي إنه نص والآمدي في الجديد ، وقال الشافعي الجويني إنه ظاهر مذهبه .
والقول الثاني : أنه إجماع وحجة ، وبه قال جماعة من الشافعية ، وجماعة من أهل الأصول ، وروي نحوه عن . الشافعي
قال الأستاذ أبو إسحاق : اختلف أصحابنا في تسميته إجماعا ، مع اتفاقهم على وجوب العلم به .
وقال : هو حجة مقطوع بها وفي تسميته إجماعا وجهان : أحدهما المنع ، وإنما هو حجة كالخبر ، والثاني يسمى إجماعا ، وهو قولنا . انتهى . أبو حامد الإسفرائيني
واستدل القائلون بهذا القول ، بأن سكوتهم ظاهر في الموافقة ، إذ يبعد سكوت الكل مع اعتقاد المخالفة عادة ، فكان ذلك محصلا للظن بالاتفاق .
وأجيب : باحتمال أن يكون سكوت من سكت على الإنكار لتعارض الأدلة عنده ، أو لعدم حصول ما يفيده الاجتهاد في تلك الحادثة إثباتا ، أو نفيا ، أو للخوف على نفسه ، أو ذلك من الاحتمالات .
القول الثالث : أنه حجة ، وليس بإجماع ، قاله أبو هاشم وهو أحد الوجهين عند كما سلف ، وبه قال الشافعي الصيرفي ، واختاره . قال الآمدي الصفي الهندي : ولم يصر أحد إلى عكس هذا القول ، يعني أنه إجماع لا حجة ، ويمكن القول به كالإجماع المروي بالأحاديث عند من لم يقل بحجيته .
القول الرابع : أنه إجماع بشرط انقراض العصر ; لأنه يبعد مع ذلك أن يكون السكوت لا عن رضا ، وبه قال أبو علي الجبائي وأحمد في رواية عنه ، ونقله في كتاب عن أكثر أصحاب ابن فورك ، ونقله الأستاذ الشافعي أبو طاهر البغدادي عن الحذاق منهم ، واختاره ابن القطان . قال والروياني الرافعي : إنه أصح الأوجه عند أصحاب ، وقال الشيخ الشافعي في اللمع إنه المذهب ، قال : فأما قبل [ ص: 266 ] الانقراض ففيه طريقان ، إحداهما : أنه ليس بحجة قطعا ، والثانية : على وجهين . أبو إسحاق الشيرازي
القول الخامس : أنه إجماع إن كان فتيا لا حكما ، وبه قال ، كما حكاه عنه الشيخ ابن أبي هريرة أبو إسحاق والماوردي ، والرافعي ، وابن السمعاني ، ، والآمدي وابن الحاجب .
ووجه هذا القول : أنه لا يلزم من صدوره عن الحاكم أن يكون قاله على وجه الحكم .
وقيل : وجهه أن الحاكم لا يعترض عليه في حكمه ، فلا يكون السكوت دليل الرضا ، ونقل ابن السمعاني عن أنه احتج لقوله هذا بقوله : إنا نحضر مجلس بعض الحكام ، ونراهم يقضون بخلاف مذهبنا ، ولا ننكر ذلك عليهم ، فلا يكون سكوتنا رضا منا بذلك . ابن أبي هريرة
القول السادس : أنه إجماع إن كان صادرا عن حكم ، لا كان صادرا عن فتيا ، قاله ، وعلل ذلك بأن الأغلب أن الصادر من الحاكم يكون عن مشاورة ، وحكاه أبو إسحاق المروزي عن ابن القطان الصيرفي .
القول السابع : أنه إن وقع في شيء يفوت استدراكه من إراقة دم أو استباحة فرج ، كان إجماعا ، وإلا فهو حجة ، وفي كونه إجماعا وجهان ، حكاه الزركشي ولم ينسبه إلى قائل .
القول الثامن : إن كان الساكتون أقل كان إجماعا ، وإلا فلا ، قاله أبو بكر الرازي وحكاه شمس الأئمة السرخسي عن . قال الشافعي الزركشي وهو غريب ، لا يعرفه أصحابه .
القول التاسع : إن كان في عصر الصحابة كان إجماعا ، وإلا فلا ، قال الماوردي في الحاوي في البحر إن كان عصر الصحابة فإذا قال الواحد منهم قولا ، أو حكم به فأمسك الباقون ، فهذا ضربان : والروياني
أحدهما : مما يفوت استدراكه كإراقة دم واستباحة فرج ، فيكون إجماعا ; لأنهم لو اعتقدوا خلافه لأنكروه ، إذ لا يصح منهم أن يتفقوا على ترك إنكار منكر ، وإن كان مما لا يفوت استدراكه كان حجة ; لأن الحق لا يخرج عن غيرهم ، وفي كونه إجماعا يمنع الاجتهاد وجهان لأصحابنا : أحدهما يكون إجماعا لا يسوغ معه الاجتهاد ، والثاني لا يكون إجماعا سواء كان القول فتيا أو حكما على الصحيح .
القول العاشر : أن ذلك إن كان مما يدوم ويتكرر وقوعه والخوض فيه ، فإنه يكون السكوت إجماعا ، وبه قال إمام الحرمين الجويني [ ص: 267 ] قال في المنخول : المختار أنه لا يكون حجة إلا في صورتين : الغزالي
أحدهما : سكوتهم ، وقد قطع بين أيديهم قاطع لا في مظنة القطع ، والدواعي تتوفر على الرد عليه .
الثاني : ما يسكتون عليه على استمرار العصر ، وتكون الواقعة بحيث لا يبدي أحد خلافا ، فأما إذا حضروا مجلسا ، فأفتى واحد وسكت آخرون ، فذلك اعتراض لكون المسألة مظنونة ، والأدب يقتضي أن لا يعترض على القضاة والمفتين .
القول الحادي عشر : أنه إجماع بشرط إفادة القرائن العلم بالرضا ، وذلك بأن يوجد من قرائن الأحوال ما يدل على رضا الساكتين بذلك القول ، واختار هذا في المستصفى وقال بعض المتأخرين : إنه أحق الأقوال ; لأن إفادة القرائن العلم بالرضا كإفادة النطق له ، فيصير كالإجماع القطعي . الغزالي
القول الثاني عشر : أنه يكون حجة قبل استقرار المذاهب ، لا بعدها ، فإنه لا أثر للسكوت لما تقرر عند أهل المذاهب من عدم إنكار بعضهم على بعض إذا أفتى أو حكم بمذهبه ، مع مخالفته لمذاهب غيره ، وهذا التفصيل لا بد منه على جميع المذاهب السابقة . هذا في الإجماع السكوتي إذا كان سكوتا عن قول .
مطلب
وأما لو اتفق أهل الحل والعقد على عمل ، ولم يصدر منهم قول ، واختلفوا في ذلك ، فقيل : إنه كفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ; لأن العصمة ثابتة لإجماعهم كثبوبتها للشارع ، فكانت أفعالهم كأفعاله ، وبه قطع الشيخ الاتفاق على عمل من دون صدور قول وغيره ، وقال أبو إسحاق الشيرازي في المنخول : إنه المختار ، وقيل بالمنع ، ونقله الغزالي الجويني ، عن القاضي ، إذ لا يتصور تواطؤ قوم لا يحصون عددا على فعل واحد من غير أرب ، فالتواطؤ عليه غير ممكن ، وقيل : إنه ممكن ، ولكنه محمول على الإباحة ، حتى يقوم دليل على الندب ، أو الوجوب ، وبه قال الجويني .
[ ص: 268 ] قال القرافي : وهذا تفصيل حسن ، وقيل : إن كل فعل خرج مخرج البيان ، أو مخرج الحكم لا ينعقد به الإجماع ، وبه قال ابن السمعاني .