( الرابع )
زعم في كتاب الملل والنحل له أن أبو محمد بن حزم قال لأن الآيات تمنع من ذلك يعني قوله تعالى من ظن الميت يحيا في قبره قبل يوم القيامة فقد أخطأ ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين وقوله تعالى كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم قال ولو كان الميت يحيا في قبره لكان الله تعالى قد أماتنا ثلاثا وأحيانا ثلاثا ، قال وهذا باطل وخلاف القرآن إلا من أحياه الله تعالى آية لنبي من الأنبياء والذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم ، والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها ، من خصه نص ، وكذلك قوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى قال فصح بنص القرآن أن أرواح سائر من ذكرنا لا ترجع إلى أجسادهم إلا إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة ، وذكر من مثل هذه تخيلات وهي آيات محكمات حملها على غير محاملها ، ثم قال : ولم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر صحيح أن أرواح الموتى ترد إلى أجسادهم عند المسألة ولو صح ذلك لقلنا به . قال وإنما تفرد بهذه الزيادة من رد الأرواح إلى الأجساد في القبور وليس بالقوي تركه المنهال بن عمرو شعبة وغيره وقال فيه - وهو أحد الأئمة - : [ ص: 27 ] ما جازت المغيرة بن مقسم الضبي للمنهال بن عمرو قط شهادة في الإسلام - على ما قد نقل وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك ، قال وهذا الذي قلناه هو الذي صح أيضا عن الصحابة ، وذكر آثارا يزعم أنها تدل على ما قال .
قال الإمام المحقق ابن القيم : إن أراد بقوله من ظن أن الميت يحيا في قبره الحياة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن وتصرفه وتدبره ويحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس فهذا خطأ كما قال والحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص وإن أراد به حياة أخرى غير هذه الحياة بل تعاد إليه الروح إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا ليسأل ويمتحن في قبره فهذا حق ونفيه خطأ وقد دل عليه النص الصحيح الصريح وهو قوله : " ابن حزم " في حديث فتعاد روحه في جسده رضي الله عنهما قال : البراء بن عازب - الحديث - . كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله كأن على رءوسنا الطير وهو يلحد فقال : " أعوذ بالله من عذاب القبر " ثلاث مرات ثم قال : " إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال على الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه الملائكة كأن وجوههم الشمس فجلسوا منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ، قال فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض ، قال فيصعدون بها
وفيه : - الحديث - . فيقول الله تعالى اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى ، فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك ؟ فيقول ربي الله ، فيقولان له ما دينك ؟ فيقول ديني الإسلام ، فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقولان له وما علمك ؟ فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت
وكذلك في حق الكافر وفيه : فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه - الحديث - رواه الإمام أحمد وأبو داود وروى النسائي أوله ورواه وابن ماجه . أبو عوانة الإسفرائيني
[ ص: 28 ] قال ابن القيم : إن قوله " " لا يدل على حياة مستقرة وإنما يدل على إعادة لها في البدن وتعلق به ، والروح لم تزل متعلقة ببدنها وإن بلي وتمزق ، وسر ذلك أن الروح لها خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام ( أحدها ) تعلقها به في بطن أمه جنينا ( الثاني ) تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض ( الثالث ) تعلقها به في حال النوم فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه ( الرابع ) تعلقها به في البرزخ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى لها إليه التفات ألبتة ، وقد ذكرنا من الأحاديث ما يدل على ردها إليه . ثم تعاد روحه في جسده
وكذلك ثبت أنها ترد إليه عند سلام المسلم وهذا الرد إعادة خاصة لا توجب حياة البدن قبل يوم القيامة ( الخامس ) تعلقها به يوم بعث الأجساد وهو أكمل تعلقاتها بالبدن ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا . وقول في ابن حزم المنهال ما قال تحامل منه بارد فالمنهال بن عمرو أحد الثقات العدول ، قال : الإمام يحيى بن معين المنهال ثقة . وقال العجلي : كوفي ثقة . وأعظم ما قيل فيه أنه سمع في بيته صوت غناء ، وهذا لا يوجب القدح في روايته .
وتضعيف له غير معتبر فإنه لم يذكر موجبا لتضعيفه غير تفرده بقوله " ابن حزم " وقد استدرك عليه زعمه تفرده بها الإمام المحقق فتعاد روحه في جسده ابن القيم وبين أنه لم ينفرد بها بل رواها غيره ، وقد روي ما هو أبلغ منها ونظيرها كقوله " فترد إليه روحه " .
وقوله " فيستوي جالسا " وقوله " فيجلساه " وقوله : فيجلس في قبره " وكلها أحاديث صحاح لا مغمز فيها والأحاديث الصحيحة صريحة بخلاف ما زعم وأطال ابن حزم ابن القيم في ذلك بما يشفي ويكفي وبالله التوفيق .