في ذكر الأرواح والكلام عليها وقد أشار إلى قطرة من بحر لجي من متعلقاتها فقال :
( ( وإن أرواح الورى لم تعدم مع كونها مخلوقة فاستفهم ) )
( ( و ) ) مما ينبغي العلم به ( ( إن أرواح ) ) بني آدم جمع روح ، قد اختلف في حقيقتها وهل هي النفس أو غيرها ؟ وهل هي جزء من البدن [ ص: 29 ] أو عرض من أعراضه أو جسم مساكن له مودع فيه أو جوهر مجرد ؟ قد تكلم الناس في هذه المسائل من سائر الطوائف واضطربت فيها أقوالهم وكثر فيها خطأهم ، ومن الناس من أمسك عن الكلام والخوض فيها لقوله تعالى ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي الآية وهدى الله أتباع الرسول وسلف الأمة وأهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
قال الإمام ابن القيم بعد ما ساق أقوال الناس في على اختلاف مذاهبهم وتباين آرائهم وذكر عدة مذاهب وزيفها ثم قال : والصحيح أن الروح جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء ويسري فيها سريان الماء في الورد وسريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم ، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي هذا الجسم اللطيف متشابكا بهذه الأعضاء وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة والإرادة ، وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن وانفصل إلى عالم الأرواح . حقيقة الروح
قال وهذا القول هو الصواب في المسألة وهو الذي لا يصح غيره وكل الأقوال سواه باطلة وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة . وذكر له مائة دليل وخمسة عشر دليلا وأجاد وأفاد وزيف كلام ابن سينا وأمثالهما ونحوهما . وابن حزم
( فائدة )
ذكر بعض المتكلمين أن واستدل له بحديث محل الروح القلب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ابن عساكر أما النفس ففي القلب والقلب بالنياط والنياط يسقي العروق فإذا هلك القلب انقطع العرق " . وهذا حديث مرسل ، وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة : فيه غريب كثير وأسانيده ضعيفة جدا والله أعلم .
وأما فمن الناس من قال هما اسمان لمسمى واحد ، وهذا قول الجمهور ، وقيل بل هما متغايران ، قال الإمام المحقق اختلاف الناس في الروح وهل هي النفس أو غيرها ؟ ابن القيم في كتاب الروح : النفس [ ص: 30 ] تطلق على أمور ( أحدها ) الروح قال الجوهري النفس الروح يقال خرجت نفسه قال أبو خراش :
نجا سالما والنفس منه بشدقه ولم ينج إلا جفن سيف ومئزر
أي بجفن سيف ومئزر والنفس الدم يقال : سالت نفسه ، وفي الحديث : " ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه " . والنفس الجسد قال الشاعر :
نبئت أن بني تميم أدخلوا أبياتهم تامور نفس المنذر
وأما الروح فلا تطلق على البدن لا بانفراده ولا مع النفس ، وتطلق الروح على القرآن كقوله تعالى يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق وقال ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون وإنما سمى ذلك روحا لما يحصل به من الحياة النافعة فإن الحياة بدونه لا تنفع صاحبها ألبتة بل حياة الحيوان البهيم خير منها وأسلم عاقبة .
وسميت الروح روحا لأن بها حياة البدن وكذلك سميت الريح ريحا لما يحصل بها من الحياة وهي من ذوات الواو ولهذا تجمع على أرواح قال الشاعر :
إذا هبت الأرواح من نحو أرضكم وجدت لمسراها على كبدي بردا
ومنها الروح والريحان والاستراحة ، فسميت النفس روحا لحصول الحياة بها وسميت نفسا ، إما من الشيء النفيس لنفاستها وشرفها ، وإما من تنفس الشيء إذا خرج فلكثرة خروجها ودخولها في البدن سميت نفسا ، ومنه النفس [ ص: 31 ] بالتحريك ، فإن العبد كلما نام خرجت منه فإذا استيقظ رجعت إليه فإذا مات خرجت خروجا كليا فإذا دفن عادت إليه فإذا سئل خرجت منه فإذا بعث عادت إليه أي رجعت له .
قال الإمام المحقق ابن القيم فرق بالصفات لا فرق بالذات وإنما سمي الدم نفسا لأن خروجه الذي يكون مع الموت يلازم خروج النفس وأن الحياة لا تتم إلا به كما لا تتم إلا بالنفس فلهذا المعنى قال فالفرق بين النفس والروح السموأل :
تسيل على حد الظبات نفوسنا وليست على غير الظبات تسيل
ويقال : فاضت نفسه وخرجت نفسه وفارقت كما يقال خرجت روحه وفارقت ولكن الفيض الاندفاع بكثرة وسرعة يقال : أفاض إذا دفع باختياره وإرادته وفاض إذا دفع قهرا وقسرا فالله سبحانه هو الذي يفيضها عند الموت فتفيض هي . وقالت فرقة من أهل الحديث والفقه والتصوف : الروح غير النفس ، قال : للإنسان حياة وروح ونفس فإذا نام خرجت نفسه التي يعقل بها الأشياء ولم تفارق الجسد بل تخرج كحبل ممتد له شعاع فيرى الرؤيا بالنفس التي خرجت منه وتبقى الحياة والروح في الجسد فيه ينقلب ويتنفس فإذا حرك رجعت إليه الروح ( ؟ ) أسرع من طرفة عين فإذا أراد الله تعالى أن يميته في المنام أمسك تلك النفس التي خرجت . مقاتل بن سليمان
وقال أيضا : إذا نام خرجت نفسه وصعدت إلى فوق فإذا رأت الرؤيا رجعت فأخبرت الروح وتخبر الروح القلب فيصبح ويعلن أنه قد رأى كيت وكيت .
وقال أبو عبد الله بن منده من علمائنا : ثم اختلفوا في معرفة الروح والنفس فالنفس طينية نارية والروح نورية روحانية . وزعم بعضهم أن الروح لاهوتية والنفس ناسوتية وأن الخلق بها ابتلي .
وقال طائفة من أهل الأثر إن الروح غير النفس والنفس غير الروح وقوام النفس بالروح ، والنفس صورة العبد والهوى والشهوة والبلاء معجون فيها ولا عدو أعدى لابن آدم منها ، فالنفس لا تريد إلا الدنيا ولا تحب إلا إياها ، والروح تدعو إلى الآخرة وتؤثرها ، وجعل الهوى تبعا للنفس والشيطان مع النفس والهوى ، وجعل الملك مع العقل والروح والله سبحانه وتعالى يمدهما بإلهامه وتوفيقه .
وقال بعضهم الأرواح من أمر الله أخفى حقيقتها وعلمها عن [ ص: 32 ] الخلق . وقال بعضهم الأرواح نور من نور الله وحياة من حياة الله . وقالت طائفة للمؤمن ثلاثة أرواح وللكافر والمنافق روح واحدة . وقال بعضهم للأنبياء والصديقين خمسة أرواح . وقال بعضهم الأرواح روحانية خلقت من الملكوت فإن صفت رجعت إلى الملكوت .
ذكر هذا كله الإمام ابن القيم في كتابه الروح ثم قال قلت الروح التي تتوفى وتفيض روح واحدة وهي النفس وأما ما يؤيد الله به أولياءه من الروح فهو روح أخرى غير هذه الروح كما قال تعالى أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه وكذا التي أيد بها عيسى ابن مريم عليه السلام في قوله تعالى اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس وكذلك الروح التي يلقيها على من يشاء من عباده هي غير الروح التي في البدن ، وأما القوى التي في البدن وإن أطلق عليها أرواحا كما يقال الروح الباصرة والروح السامعة والروح الشامة فهي قوى مودعة في الأبدان تموت بموت الأبدان وهي غير الروح التي لا تموت بموت البدن ولا تبلى كما يبلى ، قال وتطلق الروح على أخص من هذا كله وهو قوة المعرفة بالله تعالى والإنابة إليه ومحبته وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته ونسبة هذا إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن فإذا فقدتها الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحه وهي الروح التي يؤيد بها أهل ولايته ، ولهذا يقال فلان فيه روح وفلان ما فيه روح ، وللمحبة روح ، وللإنابة روح ، وللتوكل والصدق روح ، والناس متفاوتون في هذه الأرواح أعظم تفاوت فمنهم من تغلب عليه هذه الأرواح فيصير روحانيا ومنهم من يفقدها فيصير أرضيا بهيميا والله المستعان .
( ( الورى ) ) محله جر بالإضافة إلى الأرواح أي أرواح الورى ، قال في القاموس : الورى كفتي الخلق . والمراد بنو آدم ومثلهم الجن فيما يظن لأن التكليف والمعاد والحساب يشملهم ( ( لم تعدم ) ) بموت الأبدان التي كانت فيها ولا تموت هي ولا تفنى ، وزعمت طائفة أنها تموت وتذوق الموت لأنها نفس وكل نفس ذائقة الموت ، قالوا : ودلت الأدلة على أنه لا يبقى إلا الله [ ص: 33 ] تعالى وحده كما قال تعالى كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وقال تعالى كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون قالوا : وإذا كانت الملائكة تموت فالنفوس البشرية أولى والدليل على عدمها عدم قدمها ولهذا قال الصواب عدم عدمها ( ( مع كونها ) ) أي الأرواح ( ( مخلوقة ) ) لله تعالى ومحدثة ومربوبة أوجدها بعد أن لم تكن ( ( فاستفهم ) ) أي اطلب علم ذلك من مظانه واستكشفه من مكامنه ، يقال فهم كفرح فهما ويحرك وهي أفصح وفهامة وفهامية علم الشيء وعرفه بالقلب وهو فهم ككتف سريع الفهم واستفهمني طلب مني فهم المطلوب فأفهمته وفهمته ، فالفهم قوة من شأنها أن تعد النفس لاكتساب الآراء ، والذكاء جودة تلك القوة ، والذهن قيل يرادف الفهم وقدمه في القاموس فقال : الذهن بالكسر الفهم والعقل وحفظ القلب والفطنة .
وقال غيره الذهن هو نفس القوة والفهم استعمالها . وإنما حث على طلب الفهم في ذلك وإمعان التدقيق لإدراك تلك المدارك لاختلاف مقالات الناس في هذا المقام ولأنه مزلة أقدام ومظنة أوهام . وحاصل ذلك أنه ذكر مسألتين عظيمتين الأولى أن الروح مخلوقة محدثة والثانية أن العدم لا يدركها والفناء لا يلحقها ، ولنذكر أدلة كل مسألة وحكمها وما فيها من الخطأ والصواب على حدتها ، ولنقدم أولا ما أخره في النظم نظرا للواقع فنقول :