الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

لوامع الأنوار البهية وسواطع الأسرار الأثرية

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
( تتمة ) ثبت بالسنة الصحيحة أن أهل الأرض يكفرون ويعبدون الأوثان .

[ ص: 152 ] وأنه لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ، فقد أخرج الإمام أحمد ، ومسلم من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تجيء بعد موت عيسى عليه السلام ريح باردة من قبل الشام فلا تبقي على وجه الأرض أحدا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلت عليه حتى تقبضه فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا فيتمثل لهم الشيطان فيقولون ما تأمرنا ؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان ، فيعبدونها وهم في ذلك دار رزقهم حسن عيشهم ثم ينفخ في الصور " .

فإن قلت أليس قد ذكرت أن الدابة تقتل إبليس ؟ فالجواب إنه ليس في الحديث أن الذي يظهر لهم إبليس بل يجوز أن يكون شيطانا آخر غير إبليس من ذريته .

وأخرج الإمام أحمد ، ومسلم أيضا ، والترمذي من حديث النواس بن سمعان " فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحا طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر - أي يتسافدون تسافد الحمر ، جمع حمار - فعليهم تقوم الساعة " .

وفي حديث أبي هريرة مرفوعا عند الحاكم " أن الله يبعث ريحا من اليمن ألين من الحرير فلا تدع أحدا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته " .

وقد جاءت رواية بأن الريح تأتي من قبل الشام وهنا أنها من قبل اليمن ؟ والجواب أنهما ريحان شامية ويمانية .

وأخرج الإمام أحمد بسند قوي عن أنس رضي الله عنه مرفوعا " لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض لا إله إلا الله " ورواه مسلم بلفظ " حتى لا يقال في الأرض الله الله " فإن قيل كيف هذا مع ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة حتى يأتي أمر الله " ؟ ( فالجواب ) هذا غير مصادم للحديث لأن معناه أنهم لا يزالون على الحق حتى تأتيهم هذه الريح اللينة قرب القيامة وعند تظاهر أشراطها ، فأطلق فيه بقاءهم إلى قيام الساعة مريدا أشراطها ودنوها المتناهي في القرب ، ومثله قول بعضهم أمر الله هو هبوب تلك الريح الآتي بعد وقوع الآيات العظام التي بعضها ( 1 ) قيام الساعة ولا يتخلف عنها إلا شيئا يسيرا [ ص: 153 ] وليس فيهم يعني من يبقى بعد هبوب الريح مؤمن وعليهم تقوم الساعة .

وعلى هذا فآخر الآيات المؤذنة بقيام الساعة هبوب تلك الريح كما في القناعة للحافظ السخاوي .

وفي المستدرك بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا " لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى ويبعث الله ريحا طيبة فتتوفى من كان في قلبه مثقال حبة خردل من خير فيبقى من لا خير فيه فيرجعون على دين آبائهم " .

وفي مرفوع ابن عمرو رضي الله عنهما " لا تقوم الساعة حتى يبعث الله ريحا لا تدع أحدا في قلبه مثقال ذرة من خير إلا قبضته ويلحق كل قوم بما كان يعبد آباؤهم في الجاهلية ويبقى عجاج من الناس لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر يتناكحون في الطرق فإذا كان ذلك اشتد غضب الله على أهل الأرض فأقام الساعة " .

وفي مستدرك الحاكم من مرفوع أبي هريرة " وحتى تؤخذ المرأة جهارا نهارا تنكح وسط الطريق لا ينكر ذلك أحد " . وفي لفظ " حتى ينكح أحدكم أمه فيكون أمثلهم يومئذ الذي يقول لو نحيتها عن الطريق قليلا ، فذلك فيهم مثل أبي بكر وعمر فيكم " .

قال القرطبي في تذكرته عن بعض العلماء : إذا أراد الله انقراض الدنيا وتمام لياليها وقربت النفخة خرجت نار من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر تبيت معهم وتقيل حتى يجتمع الخلق بالمحشر الإنس والجن والدواب والوحش والسباع والطير والهوام وخشاش الأرض وكل ذي روح . ثم ذكر النفخة .


( ( فكلها صحت بها الأخبار وسطرت آثارها الأخيار ) )



( ( فكلها ) ) أي أشراط الساعة المذكورة وعلاماتها المسطورة ( ( صحت بها الأخبار ) ) عن النبي المختار وأصحابه الأبرار صلوات الله وسلامه عليه وعليهم ما تعاقب الليل والنهار ، ( ( و ) ) كلها قد ( ( سطرت ) ) أي كتبت وأصل السطر الصف من الشيء والكتاب والشجر وغيره والجمع أسطر وسطور وأسطار وجمع الجمع أساطير ، ويطلق السطر أيضا على الخط والكتابة ويتحرك في الكل كما في القاموس ( ( آثارها ) ) مفعول سطرت أي الآثار الدالة عليها والمتضمنة لإثباتها ومجيئها في أوقاتها وعلاماتها المشيرة إلى اقترابها ( ( الأخيار ) ) فاعل سطرت وإنما أنث الفعل لأن الجمع مؤنث في [ ص: 154 ] المعنى إذ معناه الجماعة وهو جمع خير وخير ككيس والمؤنثة خيرة ، ويجمع خير أيضا على خيار من غير ألف قبل الخاء المعجمة ، وقيل إن المخففة مختصة بما في الجمال والميسم والمشددة في الدين والصلاح .

والخير ضد الشر والأخيار ضد الأشرار . والمراد بهم هنا علماء الأمة من التابعين وتابعيهم وأئمة السلف ومقلديهم .

وقد روى أبو نعيم في الحلية ، والخطيب في التاريخ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، والقضاعي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال " خيار أمتي علماؤها وخيار علمائها رحماؤها ، ألا وإن الله تعالى ليغفر للعالم أربعين ذنبا قبل أن يغفر للجاهل ذنبا واحدا ، ألا وإن العالم الرحيم يجيء يوم القيامة وإن نوره قد أضاء يمشي فيه ما بين المشرق والمغرب كما يضيء الكوكب الدري ) وإسناده ضعيف .

وقد عزونا كل قول لقائله وكل حديث لناقله غالبا لنخرج من تبعته . وليعلم من أنعم النظر وأمعن الفكر في ما حررته أنه زبدة ما مخضه المتقدمون وثمرة ما غرسه المحررون ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية