( ( وجنة النعيم للأبرار مصونة عن سائر الكفار ) )
( ( وجنة النعيم ) ) : اعلم أن باعتبار صفاتها ، ومسماها واحد باعتبار الذات ، فهي مترادفة من هذا الوجه ، وهكذا أسماء الرب تعالى ، وأسماء كتابه ، وأسماء رسله ، وأسماء اليوم الآخر ، وأسماء النار ، للجنة عدة أسماء المتناول لتلك الدار وما اشتملت عليه من أنواع النعيم واللذة والبهجة والسرور وقرة العين ، وأصل اشتقاقها من الستر والتغطية ، ومنه الجنين لاستتاره في البطن ، والجان لاستتارهم عن العيون ، والمجن لستره ووقايته الوجه ، والمجنون لاستتار عقله وتواريه ، والجان وهي الحية الصغيرة الدقيقة ، ومنه تسمية البستان جنة لأنه يستر داخله بالأشجار ويغطيه ، فلا يستحق هذا الاسم إلا موضع كثير الشجر مختلف الأنواع ، والجنة بالضم ما يستجن به من ترس أو غيره ، ومنه قوله تعالى ( فالاسم العام الجنة اتخذوا أيمانهم جنة ) يتترسون بها من إنكار المؤمنين عليهم ، ومنه الجنة بالكسر ، وهم الجن كما تقدم ، ومنه قوله [ ص: 226 ] تعالى ( من الجنة والناس ) وذهبت طائفة من المفسرين إلى أن الملائكة يسمون جنة ، واحتجوا بقوله تعالى ( وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا ) وقالوا هذا النسب قولهم : الملائكة بنات الله ، ورجحوه بوجهين : أحدهما أن النسب الذي جعلوه إنما زعموا أنه بين الملائكة وبينه لا بين الجن وبينه ، الثاني قوله تعالى ( ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون ) أي : علمت الملائكة أن الذين قالوا هذا القول محضرون العذاب .قال الإمام المحقق شمس الدين بن القيم في كتابه ( حادي الأرواح إلى منازل الأفراح ) : والصحيح أن الجنة هم الجن أنفسهم كما قال تعالى : ( من الجنة والناس ) وعلى هذا ففي الآية الكريمة قولان ، أحدهما قول مجاهد قال : قالت كفار قريش : الملائكة بنات الله ، فقال لهم - رضي الله عنهم : فمن أمهاتهم ؟ قالوا : سروات الجن ، وقال أبو بكر الصديق الكلبي : تزوج من الجن فخرج من بينهم الملائكة ، وقال قتادة : قالوا صاهر الجن ، والقول الثاني قول الحسن ، قال : أشركوا الشياطين في عبادة الله فهو النسب الذي جعلوه .
قال ابن القيم : والصحيح قول مجاهد ، وأما قوله تعالى : ( ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون ) فالضمير يرجع إلى الجنة ، أي : قد علمت الجنة أنهم محضرون للحساب ، قاله مجاهد ، أي : لو كان بينه وبينهم نسب لم يحضرهم الحساب كما قال تعالى : ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم ) ، فجعل سبحانه عقوبتهم بذنوبهم وإحضارهم للعذاب مبطلا لدعواهم الكاذبة ، وهذا التقدير في الآية أبلغ في إبطال قولهم من التقدير الأول . انتهى .
، قال تعالى ( ومن أسماء الجنة جنات النعيم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم ) قال في حادي الأرواح : وهذا أيضا اسم جامع لجميع الجنان لما تضمنته من الأنواع التي يتنعم بها من المأكول والمشروب والملبوس والصور والرائحة والمنظر البهيج والمساكن الواسعة ، وغير ذلك من النعيم الظاهر والباطن . وقوله في النظم ( ( للأبرار ) ) إشارة إلى أن هذه اللام لام الاختصاص والاستحقاق ، فلا يدخلها ويسكنها غيرهم ، والأبرار جمع بار ، وهو كثير البر ، والبر اسم جامع للخير ، وقيل في قوله تعالى ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) إن البر الجنة ، [ ص: 227 ] وفي القاموس : البر الصلة الحسنة والخير والصدق والطاعة كالتبرر ، وضده العقوق كالمبرة . والبر بالفتح من أسماء الله الحسنى ، والصادق والكثير البر ، ويجمع البار أيضا على بررة ، وقد ذكر الله في كتابه عدة آيات يخص الجنة بأهل الإيمان والتقوى كقوله تعالى في الجنة ( أعدت للمتقين ) ، وقال تعالى : ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) وقال تعالى : ( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) وقال : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير ) ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم ) وهذا في القرآن كثير ومداره على ثلاث قواعد إيمان وتقوى وعمل خالص لله - عز وجل - على موافقة السنة ، فأهل هذه الثلاثة هم الأبرار ، وهم أهل البشرى دون من عاداهم من سائر الخلق ، وعلى هذه الثلاثة أشياء دارت بشارات القرآن والسنة جميعها ، وهي تجتمع في أصلين ، إخلاص في طاعة الله ، وإحسان إلى خلقه ، وترجع إلى خصلة واحدة ، وهي موافقة الرب تعالى في محابه ، ولا طريق إلى ذلك إلا بتحقيق القدوة ظاهرا وباطنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم .
وأما الأعمال التي هي تفاصيل هذا الأصل فهي بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، وبين هاتين الشعبتين سائر الشعب التي مرجعها إلى تصديق الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل ما أخبر به ، وطاعته في جميع ما أمر به إيجابا واستحبابا ، واجتناب ما نهى عنه تحريما وكراهة ، وفي حديث - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أبي هريرة
فاقرءوا إن شئتم ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين ) رواه قال الله - عز وجل : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . البخاري ومسلم وغيرهما .
وفي حديث أيضا - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أبي هريرة " أخرجه حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره البخاري ومسلم . وفي رواية لمسلم : حفت بدل حجبت . وفي حديث - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم : " أنس بن مالك " . حفت الجنة بالمكاره ، وحفت النار بالشهوات
[ ص: 228 ] رواه مسلم . والترمذي
وقد ثبت أن كلمة الإخلاص ، وهي شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن مفتاح الجنة محمدا عبده ورسوله ، فقد أخرج عن الإمام أحمد - رضي الله عنه - مرفوعا : " معاذ بن جبل مفتاح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله " . قال الحافظ ابن رجب في كتابه ( التوحيد ) : في سنده انقطاع ، وفي صحيح عن البخاري أنه قيل له : أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله ؟ قال : بلى ، ولكن ليس مفتاح إلا وله أسنان ، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك ، وإلا لم يفتح . وهب بن منبه
وفي صحيح عن البخاري جابر - رضي الله عنه - قال : محمد ، فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله ، ومن عصى محمدا فقد عصى الله ، ومحمد فرق بين الناس . جاءت ملائكة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم : إنه نائم ، وقال بعضهم : العين نائمة والقلب يقظان ، فقالوا : إن لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له مثلا ، فقالوا : مثله مثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة وبعث داعيا ، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة ، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة ، فقالوا : أولوها يفقهها ، فقال بعضهم : العين نائمة والقلب يقظان ، الدار الجنة ، والداعي
ورواه الترمذي عنه بلفظ : جبريل على رأسي ، وميكائيل على رجلي " . فذكر نحو ما تقدم ، وفيه : " فالله هو الملك ، والدار الإسلام ، والبيت الجنة ، وأنت يا محمد رسول الله ، فمن أجابك دخل الإسلام ، ومن دخل الإسلام دخل الجنة وأكل مما فيها " ، ( ( مصونة ) ) أي : جنة النعيم محفوظة ومحمية ( ( عن سائر ) ) أي : جميع ( ( الكفار ) ) سواء كان كفرهم بالشرك أو الجحود أو إنكار النبوات أو إنكار أحد من الأنبياء ، أو استحلال ما علم تحريمه أو تحريم ما علم حله من الدين بالضرورة ، أو جحود ما علم مجيء النبي - صلى الله عليه وسلم - به بالضرورة ، أو إنكار المعاد الجسماني ، أو جحود الكتاب المنزل أو شيء منه ، أو ملك من الملائكة ، أو إنقاص ملك أو نبي ونحو ذلك ، فالجنة لا تدخلها إلا نفس مؤمنة بإجماع أهل الحق ، وأما خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " إني رأيت في المنام كأن كلما مر عليهم زمن أولد لهم الخلود فلا يفتر عنهم العذاب ولا ينقطع ، ولا إن بكى أحدهم واستغاث ينتفع ، فعذابهم متواصل في دار الهوان بما كانوا يكفرون . أهل الكفر والجحود فهم في نار جهنم
[ ص: 229 ] كما قال تعالى : ( إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون ) وقال تعالى : ( والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها ) وقال : ( فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ) والآيات في مثل هذا كثيرة ، وسأل الحسن البصري أبا برزة عن أشد آية في كتاب الله تعالى على أهل النار ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ ( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) فقال : " هلك القوم بمعاصيهم لله - عز وجل " . أخرجه ، وفيه ضعف ، وكذا ابن أبي حاتم البيهقي وقال : لم أعرفه .
وفي القرآن العظيم ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) . . . إلى قوله تعالى ( وذلك هو الفوز العظيم ) فأشعرت الآية الكريمة بخطر النفس الإنسانية وعظم مقدارها عند ربها ، فإن السلعة إذا خفي عليك قدرها فانظر المشتري لها من هو ، وانظر إلى الثمن المبذول فيها ما هو ، وانظر إلى من جرى على يده عقد التبايع ، فالسلعة النفس ، والله تعالى المشتري لها ، والثمن جنات النعيم ، والسفير في هذا العقد خير خلقه من الملائكة وأكرمهم عليه وخيرهم من البشر وأكرمهم عليه .
وفي جامع الترمذي من حديث - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أبي هريرة " . قال من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل ، ألا إن سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة الترمذي : حديث حسن غريب ، وفي الصحيحين عن - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبي هريرة . أمر بلالا ينادي في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة ، وفي لفظ : مؤمنة
وفي مسلم عن عن ) ابن ( عباس - رضي الله عنهما - وذكر الحديث ، وفيه " عمر بن الخطاب ابن الخطاب اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون " وفي يا معناه . البخاري
وفي كتاب صفة الجنة لأبي نعيم من حديث أبان عن أنس - رضي الله عنه - قال : جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : ما ؟ قال : " لا إله إلا الله ثمن الجنة " .
قال الإمام المحقق ابن القيم في كتابه ( حادي الأرواح ) : وشواهد هذا الحديث كثيرة جدا .
وفي الصحيحين من حديث - رضي الله عنه - أبي هريرة " وفي أن أعرابيا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة ، قال : " تعبد الله [ ص: 230 ] لا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة المكتوبة ، وتؤتي الزكاة المفروضة ، وتصوم رمضان " قال : والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا شيئا أبدا ولا أنقص منه ، فلما ولى قال - صلى الله عليه وسلم : " من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا مسلم عن جابر - رضي الله عنه - قال : النعمان بن قوقل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله أرأيت إذا صليت المكتوبة وحرمت الحرام وأحللت الحلال أدخل الجنة ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : نعم . أتى
وفي صحيح مسلم أيضا عن - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " عثمان بن عفان " . وفي مسند من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة وسنن الإمام أحمد أبي داود عن - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " معاذ بن جبل " . من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة
وفي الصحيحين عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " " . وفي الصحيحين أيضا عن آتاني آت من ربي فأخبرني - أو قال : فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة . قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : وإن زنى وإن سرق عتبان بن مالك الأنصاري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " " وفي هذا عدة أحاديث تزيد على حد التواتر . إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي وجه الله