( ( وخصه بذاك كالمقام وبعثه لسائر الأنام ) )
( ( ومعجز القرآن والمعراج حقا بلا مين ولا اعوجاج ) )
( ( وخصه ) ) أي : خص الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - دون سائر الأنبياء ( ( بذاك ) ) أي : بكونه ختم به النبوة والرسالة ، فلا نبي بعده لقوله تعالى ( وخاتم النبيين ) وذلك يستلزم ختم المرسلين ، لأن ختم الأعم يستلزم ختم الأخص بلا عكس ، ومعنى أنه لا تبتدأ نبوة ولا تشرع شريعة بعد نبوته وشريعته ، وأما نزول ختم النبوة بنبوته عليه الصلاة والسلام عيسى عليه السلام وكونه متصفا بنبوته السابقة ، فلا ينافي ذلك على أن عيسى عليه السلام إذا نزل إنما يتعبد بشريعة نبينا - صلى الله عليه وسلم - دون شريعته المتقدمة لأنها منسوخة ، فلا يتعبد إلا بهذه الشريعة أصولا وفروعا فيكون خليفة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - وحاكما من حكام ملته بين أمته بما علمه الله تعالى في السماء قبل نزوله ، وبنظره في كتاب الله الذي هو القرآن ، وسنة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يقصر عن رتبة الاجتهاد المؤدي إلى استنباط ما يحتاج إليه أيام مكثه في الأرض من الأحكام وكسر الصلبان وقتل الخنزير ، ووضع الجزية وعدم قبولها مما علم من شريعتنا ، لا يقال هذا نسخ لشرعة محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنا نقول : بل هذا من شرعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مغيى إلى نزول عيسى عليه السلام ، فإذا نزل انتهى ذلك كما قال - صلى الله عليه وسلم : " عيسى ابن مريم حكما عدلا " فنزوله غاية لإقرار الكفار ببذل تلك الأموال ، ثم لا يقبل [ ص: 278 ] إلا الإسلام فلا نسخ لها ، وقد قدمنا ذلك قريبا . ( والثانية ) : ما أشار إليها بقوله ( ( كـ ) ) ما خصه الله سبحانه وتعالى بـ ( ( المقام ) ) المحمود ، وهو ينزل كما تقدم الكلام على ذلك ، وروى الشفاعة العظمى بإسناد صحيح من حديث النسائي حذيفة - رضي الله عنه - قال : محمد ، فيقول : لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، والشر ليس إليك ، المهدي من هديت ، عبدك وابن عبديك ، وبك وإليك ، ولا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، تباركت وتعاليت - فهذا قوله : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) وصححه الحاكم : قال يجمع الناس في صعيد واحد ، فأول مدعو الحافظ ابن حجر في شرح ، ولا منافاة بينه وبين حديث البخاري - رضي الله عنهما - الذي في صحيح ابن عمر ، ولفظه قال : البخاري . إن الناس يصيرون يوم القيامة جثا ، كل أمة تتبع نبيها يقولون : يا فلان اشفع لنا ، يا فلان اشفع لنا ، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذلك يوم يبعثه الله مقاما محمودا
وأخرج أيضا عنه - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " البخاري بآدم ، فيقول : لست بصاحب ذلك ، ثم بموسى ، فيقول كذلك ، ثم بمحمد فيشفع ، فيقضي الله بين الخلق ، فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة ، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا ، يحمده أهل الجمع كلهم " وذلك لأن ما رواه إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن ، فبينما هم كذلك استغاثوا من حديث النسائي حذيفة - رضي الله عنه - كان مقدمة الشفاعة .
قال الحافظ ابن حجر في شرح : وروى البخاري من طريق ابن أبي حاتم ، أنه بلغه أن المقام المحمود الذي ذكره الله تعالى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون يوم القيامة بين الجبار وبين سعيد بن أبي هلال جبريل فيغبطه لمقامه ذلك أهل الجمع ، ورجاله ثقات .
لكنه مرسل ، قال الحافظ ابن حجر في شرح تفسير سورة الإسراء من صحيح : قيل : المراد بالمقام المحمود أخذه بحلقة باب الجنة ، وقيل إعطاؤه لواء الحمد ، وقيل : جلوسه على العرش . أخرجه البخاري وغيره عن عبد بن حميد مجاهد ، وقيل شفاعته رابع أربعة . انتهى .
وتقدم في الشفاعة ما فيه كفاية ، والله تعالى أعلم .