( ( وبعده الفاروق من غير افترا وبعده عثمان فاترك المرا ) )
( ( وبعده ) ) أي الأعظم أي يليه في الفضيلة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أبي بكر الصديق ( ( الفاروق ) ) سماه بهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أسلم ، لأن الله فرق به بين الحق والباطل ، فهو بعد ، وأمه عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح - بكسر الراء وبالياء التحتية فحاء مهملة - بن عبد الله بن قرط - بضم القاف وسكون الراء فطاء مهملة - بن رزاح - بفتح الراء والزاي فحاء مهملة بعد الألف - بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي العدوي حنتمة - بفتح الحاء المهملة فنون ساكنة فتاء مثناة [ ص: 318 ] فوقية مفتوحة فميم فتاء تأنيث - بنت هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وقال ابن الأثير : بنت هشام ، قال : ويعرف هاشم بذي الرمحين ، قال وقال الأمير بن ماكولا : ومن قال بنت هشام فقد أخطأ ، كذا قال ، وقد قال في منتخب المنتخب : إنها ابن الجوزي بنت هشام ، وهي أخت أبي جهل عمرو بن هشام فأبو جهل خال عمر - رضي الله عنه - . كنيته أبو حفص كناه بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر لما نهى عن قتل رجال بني هاشم ، فإنهم إنما خرجوا مكرهين ، فقال أبو حذيفة : والله لئن لقيت العباس لألجمنه السيف ، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فقال : " يا أبا حفص يضرب وجه عم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسيف " فقال : والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي حفص ، رواه وغيره ، والحفص في اللغة ولد الأسد . وسبب تلقيبه بالفاروق ما رواه الحافظ ابن الجوزي في سيرة العمرين عن ابن الجوزي - رضي الله عنهم - قال : سألت ابن عباس عمر - رضي الله عنه - لأي شيء سميت بالفاروق ؟ فذكر حديث إسلامه ، وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن وابن عساكر - رضي الله عنه - قال : سألت أبي هريرة عمر لأي شيء سميت الفاروق ؟ قال : أسلم حمزة قبلي بثلاثة أيام ، وسبب إسلام حمزة أن أبا جهل أسرع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسبه ويؤذيه ، فأخبر حمزة بذلك ، فأخذ قوسه ، وعمد المسجد إلى حلقة قريش التي فيها أبو جهل ، فاتكأ على قوسه مقابل أبي جهل فنظر إليه ، فعرف أبو جهل الشر في وجهه فقال : ما لك يا أبا عمارة ؟ فرفع القوس وضربه به فشجه فسالت الدماء ، فأصلحت ذلك قريش مخافة الشر ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مختفيا في دار الأرقم المخزومي ، فانطلق حمزة فأسلم قال عمر - رضي الله عنه - وخرجت بعده بثلاثة أيام ، فإذا فلان المخزومي فقلت : أرغبت أنت عن دين آبائك واتبعت دين محمد ؟ قال : إن فعلت فقد فعله من هو أعظم عليك حقا ، قلت : ومن ؟ قال : أختك وختنك ، فانطلقت فوجدت هينمة ، فدخلت فقلت : ماذا ؟ فما زال الكلام بيننا حتى أخذت برأس أختي فضربته وأدميته ، فقامت إلي أختي فأخذت برأسي ، وقالت : قد كان ذلك على رغم أنفك ، وقد أدميت رأسها ، فاستحييت حين رأيت الدماء فجلست ، وقلت : أروني [ ص: 319 ] هذا الكتاب فقالت ( لا يمسه إلا المطهرون ) فقمت واغتسلت ، فأخرجوا لي صحيفة ، فإذا فيها ( بسم الله الرحمن الرحيم ) قلت : أسماء طيبة طاهرة ، وفيها : ( طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) إلى قوله تعالى : ( له الأسماء الحسنى ) فعظمت في صدري ، وقلت : من هذا نفرت قريش ؟ فأسلمت .
وفي حديث - رضي الله عنه - عند أنس بن مالك أبي يعلى والحاكم والبيهقي قال : خرج عمر متقلدا سيفه ، فلقيه رجل من بني زهرة ، فقال : إلى أين تعمد يا عمر ؟ فقال : أريد أن أقتل محمدا ، قال : وكيف تأمن في بني هاشم وبني زهرة وقد قتلت محمدا ؟ قال : ما أراك إلا وقد صبوت . قال : أفلا أدلك على العجب ؟ إن ختنك وأختك قد صبوا وتركا دينك ، فمشى عمر فأتاهما وعندهما خباب ، فلما سمع بحس عمر توارى في البيت ، فدخل عمر فقال : ما هذه الهينمة ؟ وكانوا يقرءون طه ، قالا : ما عدا حديثا تحدثناه بيننا . قال : فلعلكما قد صبوتما . فقال له ختنه : يا عمر إن كان الحق في غير دينك ؟ فوثب عليه عمر فوطئه وطأ شديدا ، فجاءت أخته لتدفعه عن زوجها ، فنفحها نفحة بيده ، فدمي وجهها ، فقالت وهي غضبى : وكان الحق في غير دينك إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله . فقال عمر : أعطوني الكتاب الذي هو عندكم فأقرأه - وكان يقرأ الكتاب - . فقالت أخته : إنك رجس ، وإنه لا يمسه إلا المطهرون ، فقم واغتسل أو توضأ . فقام وتوضأ ، ثم أخذ الكتاب فقرأ ( طه ) حتى انتهى إلى ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ) ، فقال عمر : دلوني على محمد . فلما سمع خباب قول عمر خرج ، وقال : أبشر يا عمر ، فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة الخميس : " اللهم أعز الإسلام ، بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام " وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدار التي في أصل الصفا ، فانطلق عمر حتى أتى الدار ، وعلى بابها حمزة وطلحة وناس ، فقال حمزة : هذا عمر إن يرد الله به خيرا يسلم ، وإن يكن غير ذلك يكن قتله علينا هينا ، قال والنبي - صلى الله عليه وسلم - يوحى إليه ، فخرج حتى أتى عمر ، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل السيف ، فقال : أما أنت بمنته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد [ ص: 320 ] بن المغيرة ؟ فقال عمر : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك عبد الله ورسوله . وفي حديث البزار والطبراني وأبي نعيم والبيهقي في الدلائل ، عن أسلم نحوه وفيه : فكبر المسلمون تكبيرة سمعت بفجاج مكة ، فجئت خالي أبا جهل بن هشام ، وكان شريفا ، فقرعت عليه الباب ، فقال : من هذا ؟ قلت : ابن الخطاب وقد صبوت . قال : لا تفعل ، ثم دخل وأجاف الباب دوني . وفي حديث عند ابن عباس أبي نعيم في الدلائل ، فقلت : وابن عساكر يا رسول الله ألسنا على الحق ؟ قال : بلى . قلت ففيم الاختفاء ؟ فخرجنا صفين أنا في أحدهما ، وحمزة في الآخر ، حتى دخلنا المسجد ، فنظرت قريش إلى حمزة ، فأصابتهم كآبة شديدة ، فسماني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفاروق يومئذ ، وفرق بين الحق والباطل . وأخرج ابن سعد عن ذكوان قال : قلت لعائشة - رضي الله عنها - : من سمى ؟ قالت : النبي - صلى الله عليه وسلم - عمر الفاروق . وأخرج عن ابن ماجه - رضي الله عنهما - قال : ابن عباس عمر نزل جبريل ، فقال : يا محمد لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر . وأخرج لما أسلم البزار والحاكم وصححه عن - رضي الله عنهما - قال : لما أسلم ابن عباس عمر قال المشركون : قد انتصف القوم اليوم منا . وأنزل الله تعالى : ( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) . وأخرج وغيره عن البخاري - رضي الله عنه - قال : ما زلنا أعزة منذ أسلم ابن مسعود عمر . وأخرج ابن سعد عنه أيضا قال : كان إسلام عمر فتحا ، وكانت هجرته نصرا ، وكانت إمامته رحمة ، ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نصل إلى البيت حتى أسلم عمر ، قاتلهم حتى تركوا سبيلنا .
وقال حذيفة : لما أسلم عمر كان الإسلام كالرجل المقبل لا يزداد إلا قوة ، ولما قتل كان الإسلام كالرجل المدبر لا يزداد إلا بعدا . وكان إسلام أمير المؤمنين - رضي الله عنه - في السنة السادسة من البعثة ، وعمره يومئذ سبع وعشرون سنة ، وكان إسلامه بعد تسعة وثلاثين رجلا أو أربعين أو خمسة وأربعين وإحدى عشرة امرأة ، ففرح المسلمون بإسلامه ، وظهر الإسلام عمر بن الخطاب بمكة عقب إسلامه .
وقد وردت الأحاديث الكثيرة ، والأخبار الشهيرة بفضائله ، ففي الصحيحين عن - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 321 ] وسلم - : " سعد بن أبي وقاص ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك " . وفي صحيح يا عن البخاري - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبي هريرة عمر " . أي ملهمون . وأخرجه لقد كان في من كان قبلكم من الأمم محدثون ، فإن يكن في أمتي أحد فإنه مسلم أيضا من حديث عائشة - رضي الله عنها - ولفظه قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فعمر بن الخطاب " . ورواه قد كان يكون في الأمم محدثون ، فإن يكن في أمتي أحد الترمذي وقال : حديث حسن صحيح . قال : محدثون أي مفهمون . وقال ابن عيينة ابن وهب : تفسير محدثون ملهمون . وأخرج الترمذي عن - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " ابن عمر عمر وقلبه " . قال إن الله جعل الحق على لسان : وما نزل بالناس أمر قط فقالوا وقال إلا نزل القرآن على نحو ما قال ابن عمر عمر . وأخرج الترمذي أيضا عن - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " عقبة بن عامر عمر " . وأخرج من حديث لو كان بعدي نبي لكان عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " عمر " . وفي الصحيحين إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس فروا من والترمذي عن والنسائي - رضي الله عنه - قال : أبي سعيد الخدري وعليه قميص يجره - قالوا : فما أولته يا رسول الله ؟ قال : الدين عمر بن الخطاب " . وفي الصحيحين وغيرهما من حديث سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليهم قمص ، فمنها ما يبلغ الثدي ، ومنها ما يبلغ دون ذلك ، وعرض علي - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أبي هريرة لعمر ، فذكرت غيرته فوليت مدبرا " . فبكى عمر - رضي الله عنه - وقال : عليك أغار يا رسول الله ؟ وفي بينا أنا نائم رأيتني في الجنة ، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر ، فقلت لمن هذا ؟ قالوا : الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " قريش ، فظننت أني أنا هو ، قالوا : عمر بن الخطاب " . وقد قال دخلت الجنة فإذا أنا بقصر من ذهب ، فقلت : لمن هذا ؟ فقالوا : لشاب من - رضي الله عنه - : ما على وجه الأرض أحد أحب إلي من أبو بكر الصديق عمر . أخرجه وقيل ابن عساكر لأبي بكر : [ ص: 322 ] ماذا تقول لربك وقد وليت عمر ؟ قال : أقول له : وليت عليهم خيرهم . أخرجه ابن سعد . وقال علي - رضي الله عنه - : إذا ذكر الصالحون فحي هلا بعمر ، ما كنا نعد أن السكينة لا تنزل إلا على لسان عمر . أخرجه في الأوسط ، وقال الطبراني - رضي الله عنه - : لو أن علم ابن مسعود عمر وضع في كفة ووضع علم أحياء الأرض في كفة ، لرجح علم عمر ، ولقد كانوا يرون أنه ذهب بتسعة أعشار العلم . أخرجه في الكبير الطبراني والحاكم . وقال حذيفة - رضي الله عنه - : والله ما أعرف رجلا لا تأخذه في الله لومة لائم إلا عمر .
وعلى كل حال فأمير المؤمنين - رضي الله عنه - بعد عمر بن الخطاب الأعظم أفضل هذه الأمة ( ( من غير افترا ) ) أي من غير الكذب يقال فري يفري فريا وافترى يفتري افتراء أي كذب فهو افتعال منه ، وفي الآية الكريمة : ( الصديق ولا يأتين ببهتان يفترينه ) وفي الحديث : " " . فالفرى جمع فرية وهي الكذبة ، وأفرى أفعل منه للتفضيل ، وتقدم الكلام على ذلك في الكلام على الحوض عند قوله : ( عنه يذاد المفتري كما ورد ) ، ولما كان الحكم بأفضلية من أفرى الفرى أن يري الرجل عينيه ما لم تريا أبي بكر ثم - رضي الله عنهما - بالنص والإجماع صرح بقوله : من غير افترا ؛ إشارة لرد قول عمر الفاروق الخطابية الزاعمين بأن عمر - رضي الله عنه - أفضل الخلفاء ، وهذا الزعم بالنسبة للصديق زور وافتراء وكذب وضلال من زاعميه ، نعم بالنسبة إلى من بعد الصديق حق لا مرية فيه ، وكذلك فيه إشارة إلى رد قول الراوندية في زعمهم أن أفضل الصحابة - رضي الله عنه - ، والرد على العباس بن عبد المطلب الشيعة في زعمهم أن أفضلهم علي - رضي الله عنه - كما يأتي الكلام عليه قريبا .
وقد أخرج الحاكم في الكنى ، في الكامل ، وابن عدي والخطيب في تاريخه عن - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أبي هريرة أبو بكر وعمر خير الأولين والآخرين ، وخير أهل السماوات ، وخير أهل الأرض إلا النبيين والمرسلين " . وأخرج الترمذي عن أبي سعيد [ ص: 323 ] الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " فجبريل وميكائيل ، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر " . وأخرج ما من نبي إلا وله وزيران من أهل السماء ، ووزيران من أهل الأرض ، فأما وزيراي من أهل السماء الإمام أحمد عن والترمذي علي - رضي الله عنه - عنه أيضا ، وعن وابن ماجه أبي جحيفة - رضي الله عنه - وأبو يعلى في مسنده ، والضياء في المختارة عن أنس ، في الأوسط عن والطبراني جابر ، وعن - رضي الله عنهم أجمعين - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أبي سعيد الخدري " . - يعني هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين أبا بكر وعمر رضي الله عنهما - . وفي الباب عن ابن عباس - رضي الله عنهم - . وابن عمر
وهاجر عمر - رضي الله عنه - إلى المدينة جهرا وذلك أنه تقلد سيفه وأخذ بيده أسهما ، وأتى الكعبة وأشراف قريش بفنائها ، فطاف سبعا ثم صلى ركعتين عند المقام ، ثم أتى حلقهم واحدة واحدة ، فقال : شاهت الوجوه من أراد تثكله أمه ، وييتم ولده ، وترمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي . فما تبعه منهم أحد . وشدة عمر وشجاعته لا تخفى حتى أنه وصف في التوراة بأنه قرن من حديد ، شهد المشاهد كلها ، وكان شديدا على الكفار والمنافقين .
ومناقبه كثيرة وفضائله شهيرة ، وقد وافق ربه في عدة أحكام مأثورة وموافقات في الآيات القرآنية مخبورة .
ولي الخلافة بعهد من خليفة رسول الله الصديق الأكبر أبي بكر - رضي الله عنه - يوم توفي ، وذلك يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة فقام بالأمر أتم قيام ، وكثرت الفتوحات في أيامه : ففي سنة أربع عشرة فتحت دمشق بين الصلح والعنوة ، وحمص وبعلبك صلحا ، وأيلة عنوة وفيها جمع الناس على صلاة التراويح ، وفي الخامسة عشرة فتحت الأردن عنوة ، إلا طبرية فإنها فتحت صلحا ، وفيها كانت وقعة اليرموك والقادسية ، وفيها حاصر عمرو مصر ومصر سعد الكوفة ، وفيها فرض عمر الفروض ودون الدواوين وأعطى العطايا .
وفي السادسة عشرة فتحت الأهواز والمدائن ، وأقام بها سعد الجمعة في إيوان كسرى وهي أول جمعة جمعت بالعراق ، وفيها كانت وقعة جلولا وهرمز ويزدجرد بن كسرى [ ص: 324 ] وتقهقر إلى الري وفيها فتحت تكريت ، وفيها سار بنفسه - رضي الله عنه - ففتح بيت المقدس صلحا وخطب بالجابية خطبته المشهورة ، وفيها فتحت قنسرين عنوة ، وحلب وأنطاكية ومنبج صلحا ، وفيها كتب التاريخ في ربيع الأول من الهجرة بمشورة علي - رضي الله عنه - .
وفي السابعة عشرة زاد عمر - رضي الله عنه - في المسجد النبوي ، وفيها كان القحط بالحجاز فسمي عام الرمادة ، واستسقى عمر بالعباس فأخذ عمر - رضي الله عنه - بيد العباس - رضي الله عنه - ثم رفعها ، فقال : اللهم إنا نستشفع إليك بعم نبيك - صلى الله عليه وسلم - أن تذهب عنا المحل وأن تسقينا الغيث ، فلم يبرحوا حتى سقوا فأطبقت السماء عليهم أياما .
وفي الثامنة عشرة فتحت جنديسابور صلحا وحلوان عنوة ، وفيها وقع طاعون عمواس ، وفيها فتحت الرهاء وشميساط وحران ونصيبين وطائفة من الجزيرة عنوة ، وكذا الموصل ونواحيها .
وفي سنة تسع عشرة فتحت قيسارية ، وفي سنة عشرين فتحت مصر عنوة وقيل صلحا ، وإسكندرية عنوة ، والمغرب كله عنوة ، وفيها فتحت تستر ، وفيها هلك قيصر ملك الروم ، وفيها أجلى عمر اليهود عن خيبر وعن نجران وقسم خيبر ووادي القرى ، وفي سنة إحدى وعشرين فتحت نهاوند عنوة ولم يكن للأعاجم بعدها جماعة ، وفي سنة اثنتين وعشرين فتحت كرمان وسجستان ومكران من بلاد الجبل وأصبهان ونواحيها . وفي آخرها كانت وفاة أمير المؤمنين - رضي الله عنه - وذلك بعد رجوعه من الحج . عمر بن الخطاب
قال : لما نفر ابن المسيب عمر من منى أناخ بالأبطح ، ثم استلقى ورفع يديه إلى السماء ، وقال : اللهم كبرت سني ، وضعفت قوتي ، وانتشرت رعيتي ، فاقبضني إليك غير مضيع ولا مفرط ، فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل شهيدا ، وكان قال له : إني أجدك في الكتاب الأول تقتل شهيدا فقال : وأنى لي بالشهادة في كعب الأحبار جزيرة العرب ؟ ثم قال عمر - رضي الله عنه - : اللهم ارزقني شهادة في سبيلك ، واجعل موتي في بلد نبيك ، وكان قد قال في خطبته : رأيت كأن ديكا نقرني نقرة أو نقرتين ، وإني لأراه حضور أجلي ، وإن قوما يأمروني أن أستخلف ، وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته ، فإن عجل بي أمر فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله - صلى الله [ ص: 325 ] عليه وسلم - وهو عنهم راض . قال : كان الزهري عمر - رضي الله عنه - لا يأذن لكافر قد احتلم في دخول المدينة ، حتى كتب وهو على المغيرة بن شعبة الكوفة يذكر له غلاما عنده صنائع يستأذنه أن يدخل المدينة ، ويقول : إن عنده أعمالا كثيرة فيها منافع للناس ، وأنه حداد ونقاش ونجار ، فأذن له أن يرسله إلى المدينة ، وضرب عليه المغيرة مائة درهم في كل شهر ، فجاء إلى عمر يشتكي شدة الخراج ، فقال له : ما خراجك بكثير . فانصرف ساخطا ، ثم قال له عمر - رضي الله عنه - : ألم أخبر أنك تقول : لو أشاء لصنعت رحى تطحن بالريح ؟ فالتفت إلى عمر عابسا وقال : لأضعن لك رحى يتحدث الناس بها ، فلما ولى قال لأصحابه : أوعدني العبد وهو أبو لؤلؤة ، ثم إنه الخبيث اشتمل على خنجر ذي رأسين نصابه في وسطه ، فكمن في زاوية من زوايا المسجد في الغلس ، فلم يزل هناك حتى خرج عمر يوقظ الناس للصلاة ، فلما دنا منه طعنه ثلاث طعنات ، كما أخرجه الحاكم ، وطعن معه اثني عشر رجلا مات منهم ستة ، فألقى عليه رجل من أهل العراق ثوبا فلما اغتم فيه قتل نفسه . قال أبو رافع : كان أبو لؤلؤة عبدا للمغيرة يصنع الأرحاء ، وحمل عمر - رضي الله عنه - إلى أهله وكادت تطلع الشمس ، فصلى - رضي الله عنه - بالناس بأقصر سورتين ، وأتي عبد الرحمن بن عوف عمر بنبيذ فشربه فخرج من جرحه فلم يتبين ، فسقوه لبنا فخرج ثانيا ، فقالوا : لا بأس عليك . فقال : إن يكن في القتل بأس فقد قتلت . فجعل الناس يثنون عليه ويقولون كنت وكنت ، فقال : أما والله وددت أني خرجت منها كفافا لا علي ولا لي ، وأن صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلمت لي ، فأثنى عليه فقال : لو أن لي طلاع الأرض ذهبا لافتديت به من هول المطلع ، وقد جعلتها شورى في ابن عباس عثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن وسعد ، وأجلهم ثلاثة أيام ، وقال : يشهد عبد الله بن عمر معهم وليس له من الأمر شيء ، فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك ، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر ، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة ، وأمر صهيبا أن يصلي بالناس . قال - رضي الله عنهما - : كان عبد الله بن عباس أبو لؤلؤة مجوسيا وكان اسمه فيروز . وقال عمر - رضي الله عنه - : الحمد لله الذي جعل منيتي بيد رجل لا يدعي الإسلام . وكانت إصابته يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة سنة [ ص: 326 ] ثلاث وعشرين ، ودفن يوم الأحد ، وصح أن الشمس كسفت يوم موته وناحت الجن عليه . ثم قال عمر - رضي الله عنه - لابنه عبد الله - رضي الله عنه - : انظر ما علي من الدين ، فحسبوه فوجدوه ثلاثين ألفا أو نحوها ، فقال : إن وفى مال آل عمر أده من أموالهم ، وإلا فاسأل في بني عدي ، فإن لم تف أموالهم فاسأل في قريش ، واذهب إلى أم المؤمنين عائشة وقل : يستأذن عمر أن يدفن عند صاحبيه ، فذهب إليها فقالت : كنت أريده - تعني المكان - لنفسي ، والله لأوثرنه اليوم على نفسي ، فأتى عبد الله فقال : قد أذنت . فحمد الله تعالى ، ثم قال - رضي الله عنه - : أوصي الخليفة من بعدي بتقوى الله تعالى ، وأوصيه بالمهاجرين والأنصار ، وأوصيه بالأمصار خيرا ، فلما توفي - رضي الله عنه - صلى عليه صهيب في المسجد ، وخرج الناس يمشون وعبد الله أمامهم ، فسلم عبد الله وقال عمر يستأذن ، فقالت عائشة - رضي الله عنها - : أدخلوه . فأدخل فوضع هناك مع صاحبيه . رضي الله عن أبي بكر وعمر ، وصلوات الله وسلامه على رسوله وحبيبه محمد - صلى الله عليه وسلم - .
روي لأمير المؤمنين من الأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة وسبعة وثلاثون حديثا ، أخرج له في الصحيحين منها أحد وثمانون ، اتفقا على ستة وعشرين ، وانفرد بأربعة وثلاثين ، البخاري ومسلم بأحد وعشرين .