الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                  معلومات الكتاب

                  منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية

                  ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

                  صفحة جزء
                  فصل .

                  قال الرافضي : " وأما قوله : ( وسيجنبها الأتقى ) [ سورة الليل : 17 ] ، فإن المراد به أبو الدحداح حيث اشترى نخلة لشخص لأجل جاره ، وقد عرض النبي صلى الله عليه وسلم على [ ص: 494 ] صاحب النخلة نخلة [1] في الجنة ، فسمع أبو الدحداح فاشتراها ببستان له ووهبها الجار ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم له بستانا عوضها في الجنة " .

                  والجواب : أن يقال : لا يجوز أن تكون هذه الآية مختصة بأبي الدحداح دون أبي بكر باتفاق أهل العلم بالقرآن وتفسيره وأسباب نزوله ، وذلك أن هذه [2] السورة مكية باتفاق العلماء ، وقصة أبي الدحداح كانت بالمدينة باتفاق العلماء فإنه من الأنصار ، والأنصار إنما صحبوه بالمدينة ، ولم تكن البساتين وهي الحدائق التي تسمى بالحيطان إلا بالمدينة فمن الممتنع أن تكون الآية لم تنزل إلا بعد قصة أبي الدحداح [3] ، بل إن كان قد قال بعض العلماء : إنها نزلت فيه ، فمعناه [ ص: 495 ] أنه ممن دخل في الآية وممن شمله حكمها وعمومها ، فإن كثيرا ما يقول بعض الصحابة والتابعين : " نزلت هذه الآية في كذا " ويكون المراد بذلك أنها دلت على هذا الحكم وتناولته ، وأريد بها هذا الحكم .

                  ومنهم من يقول : بل قد تنزل [4] الآية مرتين ، مرة لهذا السبب ومرة لهذا السبب .

                  فعلى قول هؤلاء يمكن أنها نزلت مرة ثانية في قصة أبي الدحداح ، [5] وإلا فلا خلاف بين أهل العلم أنها نزلت بمكة قبل أن يسلم أبو الداحداح [6] ، وقبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم .

                  وقد ذكر غير واحد من أهل العلم أنها نزلت في قصة أبي بكر ، فذكر ابن جرير في تفسيره بإسناده عن عبد الله بن الزبير ، وغيره أنها نزلت في أبي بكر [7] .

                  وكذلك ذكره [8] ابن أبي حاتم والثعلبي أنها نزلت في أبي بكر عن عبد الله وعن سعيد بن المسيب [9] .

                  وذكر ابن أبي حاتم في تفسيره : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أبي عمر العدني ، حدثنا سفيان ، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه قال : أعتق أبو بكر سبعة كلهم يعذب في الله : بلالا وعامر بن فهيرة والنهدية ، [ ص: 496 ] وابنتها [10] و زنيرة وأم عميس وأمة بني المؤمل ، قال سفيان : فأما زنيرة فكانت رومية ، وكانت لبني عبد الدار ، فلما أسلمت عميت ، فقالوا : أعمتها اللات والعزى ، قالت : فهي كافرة باللات والعزى فرد الله إليها بصرها ، وأما بلال فاشتراه وهو مدفون في الحجارة ، فقالوا : لو أبيت إلا أوقية لبعناكه ، فقال أبو بكر : لو أبيتم إلا مائة أوقية لأخذته ، قال : وفيه نزلت : ( وسيجنبها الأتقى ) [ سورة الليل : 17 ] إلى آخر السورة .

                  وأسلم وله أربعون ألفا فأنفقها في سبيل الله ، ويدل على أنها نزلت في أبي بكر وجوه :

                  أحدها : أنه قال : ( وسيجنبها الأتقى ) ، وقال : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) [ سورة الحجرات : 13 ] فلا بد أن يكون أتقى الأمة داخلا في هذه الآية ، وهو أكرمهم عند الله ، ولم يقل أحد إن أبا الدحداح ونحوه أفضل وأكرم من السابقين الأولين من المهاجرين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم ، بل الأمة كلهم - سنيهم وغير سنيهم - متفقون على أن هؤلاء وأمثالهم من المهاجرين أفضل من أبي الدحداح فلا بد أن يكون الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى فيهم .

                  وهذا القائل قد ادعى أنها نزلت في أبي الدحداح ، فإذا كان القائل قائلين : قائلا يقول : نزلت فيه ، وقائلا يقول : نزلت في أبي بكر كان هذا القائل هو الذي يدل القرآن على قوله ، وإن قدر عموم الأية لهما ، فأبو بكر أحق بالدخول فيها من أبي الدحداح .

                  [ ص: 497 ] وكيف [11] لا يكون كذلك وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما نفعني مال قط كمال أبي بكر " [12] فقد نفى عن جميع [ مال ] [13] الأمة أن ينفعه كنفع مال أبي بكر ، فكيف تكون تلك الأموال [14] المفضولة دخلت في الآية والمال الذي هو أنفع الأموال له لم يدخل فيها ؟ ! .

                  الوجه الثاني : أنه إذا كان الأتقى هو الذي يؤتي ماله [ يتزكى ] [15] ، وأكرم الخلق أتقاهم ، كان هذا أفضل الناس والقولان المشهوران في هذه الآية قول أهل السنة أن أفضل الخلق أبو بكر ، وقول الشيعة علي ، فلم يجز أن يكون الأتقى الذي هو أكرم الخلق على الله واحدا غيرهما ، وليس منهما [16] واحد يدخل في الأتقى ، وإذا ثبت أنه لا بد من دخول أحدهما في الأتقى وجب أن يكون أبو بكر داخلا في الآية ويكون أولى بذلك من علي لأسباب :

                  أحدها أنه قال : ( الذي يؤتي ماله يتزكى ) [ سورة الليل : 18 ] وقد ثبت في النقل المتواتر في الصحاح وغيرها أن أبا بكر أنفق ماله ، وأنه مقدم في ذلك على جميع الصحابة ، كما ثبت في الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة ، فقعد على المنبر ، فحمد الله [ ص: 498 ] وأثنى عليه ، ثم قال : " إنه ليس من الناس أحد أمن علي [ في ] [17] نفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة ، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن خلة الإسلام أفضل ، سدوا عني كل خوخة في هذا المسجد إلا خوخة أبي بكر " [18] .

                  وفي الصحيحين عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم : " إن أمن الناس في صحبته وماله أبو بكر " ، وفي البخاري عن أبي الدرداء : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله بعثني إليكم ، فقلتم : كذبت ، وقال أبو بكر : صدقت ، وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركو لي صاحبي ؟ " مرتين [19] فما أوذي بعدها [20] .

                  وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر " فبكى أبو بكر ، وقال : هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله ؟ " [21] .

                  وعن عمر قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق ، فوافق ذلك مالا عندي فقلت : اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما ، فجئت بنصف مالي فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أبقيت لأهلك ؟ " قلت : مثله ، وجاء أبو بكر بماله كله ، فقال له النبي صلى الله [ ص: 499 ] عليه وسلم : " ما أبقيت لأهلك ؟ " قال : أبقيت لهم الله ورسوله ، فقلت : لا أسابقك إلى شيء أبدا " رواه أبو داود والترمذي وصححه [22] .

                  فهذه النصوص الصحيحة المتواترة الصريحة تدل على أنه كان من أعظم الناس إنفاقا لماله فيما يرضي الله ورسوله .

                  وأما علي فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمونه لما أخذه من أبي طالب لمجاعة حصلت بمكة ، وما زال علي فقيرا حتى تزوج بفاطمة وهو فقير ، وهذا مشهور معروف عن أهل السنة والشيعة ، وكان في عيال النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يكن له ما ينفقه ، ولو كان له مال لأنفقه لكنه كان منفقا عليه لا منفقا .

                  السبب الثاني : قوله : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى ) [ سورة الليل : 19 ] وهذه لأبي بكر دون علي ، لأن أبا بكر كان للنبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة الإيمان أن [23] هداه الله به وتلك النعمة [24] لا يجزى بها الخلق ، بل أجر الرسول فيها على الله كما قال تعالى : ( قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ) [ سورة ص : 86 ] ، وقال : ( قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله ) [ سورة سبأ : 47 ] .

                  وأما النعمة التي يجزى بها الخلق فهي نعمة الدنيا ، وأبو بكر لم تكن للنبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة الدنيا ، بل نعمة دين ، بخلاف علي فإنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم عنده نعمة دنيا يمكن أن تجزى .

                  [ ص: 500 ] الثالث : أن الصديق لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم سبب [25] يواليه لأجله ويخرج ماله إلا الإيمان ، ولم ينصره كما نصره أبو طالب لأجل القرابة ، وكان عمله كاملا في إخلاصه لله تعالى كما قال : ( إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) [ سورة الليل : 20 ، 21 ] .

                  وكذلك خديجة كانت زوجته ، والزوجة قد تنفق مالها على زوجها وإن كان دون النبي صلى الله عليه وسلم .

                  وعلي لو قدر أنه أنفق لكان قد [26] أنفق على قريبه ، وهذه أسباب قد يضاف الفعل إليها بخلاف إنفاق أبي بكر فإنه لم يكن له سبب إلا الإيمان بالله وحده فكان من أحق المتقين بتحقيق قوله : ( إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) ، وقوله : ( وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) [ سورة الليل : 17 - 20 ] استثناء منقطع والمعنى : لا يقتصر في العطاء على من له عنده نعمة يكافئه بذلك [27] ، فإن هذا من باب العدل الواجب للناس بعضهم على بعض بمنزلة المعاوضة في المبايعة والمؤاجرة وهو واجب لكل أحد على أحد ، فإذا لم يكن لأحد عنده نعمة تجزى لم يحتج إلى هذه المعاوضة ، فيكون عطاؤه خالصا لوجه ربه الأعلى ، بخلاف من كان عنده لغيره نعمة يحتاج أن يجزيه بها فإنه يحتاج [ ص: 501 ] أن يعطيه مجازاة على ذلك .

                  وهذا الذي ما لأحد عنده من نعمة تجزى إذا أعطى ماله يتزكى في معاملته للناس [28] دائما [29] يكافئهم ويعاوضهم ويجازيهم ، فحين إعطائه ماله يتزكى لم يكن لأحد عنده من نعمة تجزى .

                  وفيه أيضا ما يبين أن الفضل بالصدقة لا يكون إلا بعد أداء الواجب من المعاوضات كما قال تعالى : ( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ) [ سورة البقرة : 219 ] فمن عليه ديون من أثمان وقرض [30] وغير ذلك ، فلا يقدم الصدقة على قضاء هذه الواجبات ، ولو فعل ذلك فهل ترد صدقته على قولين معروفين للفقهاء فهذه الآية يحتج بها من ترد صدقته [31] ، لأن الله تعالى إنما أثنى على من آتى ماله يتزكى ، وما لأحد عنده من نعمة تجزى فإذا كان عنده نعمة تجزى فعليه أن يجزي بها [32] قبل أن يؤتي ماله يتزكى ، فإذا آتى ماله يتزكى قبل أن يجزي بها [33] لم يكن ممدوحا ، فيكون عمله مردودا لقوله صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " [34] .

                  [ ص: 502 ] الرابع : أن هذه الآية إذا قدر أنه دخل فيها من دخل من الصحابة ، فأبو بكر أحق الأمة بالدخول فيها فيكون هو الأتقى من هذه الأمة فيكون أفضلهم ، وذلك ( * لأن الله تعالى وصف الأتقى بصفات أبو بكر أكمل بها من جميع الأمة * ) [35] وهو قوله : ( الذي يؤتي ماله يتزكى ) وقوله : ( وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ) [ سورة الليل : 18 - 20 ] .

                  أما إيتاء المال فقد ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إنفاق أبي بكر أفضل من إنفاق غيره ، وأن معاونته له بنفسه وماله أكمل من معاونة غيره [36] .

                  وأما ابتغاء النعمة التي تجزى فأبو بكر لم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم مالا قط ولا حاجة دنيوية ، وأنه كان يطلب منه العلم لقوله الذي ثبت في الصحيحين أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : " علمني دعاء أدعو به في صلاتي " ، فقال : " قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني [ ص: 503 ] إنك أنت الغفور الرحيم " [37] .

                  ولا أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم مالا يخصه به قط ، بل إن حضر غنيمة كان كآحاد الغانمين ، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ماله كله ، وأما غيره من المنفقين من الأنصار وبني هاشم فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم ما لا يعطى غيرهم ، فقد أعطى بني هاشم وبني المطلب من الخمس ما لم يعط [38] غيرهم ، واستعمل عمر وأعطاه عمالة ، وأما أبو بكر فلم يعطه شيئا فكان أبعد الناس من النعمة التي تجزى وأولاهم بالنعمة التي لا تجزى .

                  وأما إخلاصه في ابتغاء وجه ربه الأعلى ، فهو أكمل الأمة في ذلك فعلم أنه أكمل من تناولته الآية في الصفات المذكورة .

                  كما أنه أكمل من تناول قوله : ( والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ) [ سورة الزمر : 33 ] .

                  وقوله : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ) [ سورة الحديد : 10 ] .

                  [ ص: 504 ] وقوله : ( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ) [ سورة التوبة : 100 ] ، وأمثال ذلك من الآيات التي فيها مدح المؤمنين من هذه الأمة ، فأبو بكر أكمل الأمة في الصفات التي يمدح الله بها المؤمنين ، فهو أولاهم بالدخول فيها [39] وأكمل من دخل فيها ، فعلم أنه أفضل الأمة .

                  التالي السابق


                  الخدمات العلمية