[ ص: 27 ] بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
nindex.php?page=treesubj&link=19770الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين ، وإله المرسلين ، وقيوم السماوات والأرضين ، وأشهد أن
محمدا عبده ورسوله المبعوث بالكتاب المبين ، الفارق بين الهدى والضلال ، والغي والرشاد ، والشك واليقين ، أنزله لنقرأه تدبرا ، ونتأمله تبصرا ، ونسعد به تذكرا ، ونحمله على أحسن وجوهه ومعانيه ، ونصدق به ونجتهد على إقامة أوامره ونواهيه ، ونجتني ثمار علومه النافعة الموصلة إلى الله سبحانه من أشجاره ، ورياحين الحكم من بين رياضه وأزهاره ، فهو كتابه الدال عليه لمن أراد معرفته ، وطريقه الموصلة لسالكها إليه ، ونوره المبين الذي أشرقت له الظلمات ، ورحمته المهداة التي بها صلاح جميع المخلوقات ، والسبب الواصل بينه وبين عباده إذا انقطعت الأسباب ، وبابه الأعظم الذي منه الدخول ، فلا يغلق إذا غلقت الأبواب ، وهو الصراط المستقيم الذي لا تميل به الآراء ، والذكر الحكيم الذي لا تزيغ به الأهواء ، والنزل الكريم الذي لا يشبع منه العلماء ، لا تفنى عجائبه ، ولا تقلع سحائبه ، ولا تنقضي آياته ، ولا تختلف دلالاته ، كلما ازدادت البصائر فيه تأملا وتفكيرا ، زادها هداية وتبصيرا ، وكلما بجست معينه فجر لها ينابيع الحكمة تفجيرا ، فهو نور البصائر من عماها ، وشفاء الصدور من أدوائها وجواها ، وحياة القلوب ، ولذة النفوس ، ورياض القلوب ، وحادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ، والمنادي بالمساء والصباح : يا أهل الفلاح ، حي على الفلاح ، نادى منادي الإيمان على رأس الصراط المستقيم
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=31ياقومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم .
[ ص: 28 ] أسمع والله لو صادف آذانا واعية ، وبصر لو صادف قلوبا من الفساد خالية ، لكن عصفت على القلوب هذه الأهواء فأطفأت مصابيحها ، وتمكنت منها آراء الرجال فأغلقت أبوابها وأضاعت مفاتيحها ، وران عليها كسبها فلم تجد حقائق القرآن إليها منفذا ، وتحكمت فيها أسقام الجهل فلم تنتفع معها بصالح العمل .
وا عجبا لها ! كيف جعلت غذاءها من هذه الآراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، ولم تقبل الاغتذاء بكلام رب العالمين ، ونصوص حديث نبيه المرفوع ، أم كيف اهتدت في ظلم الآراء إلى التمييز بين الخطأ والصواب ، وخفي عليها ذلك في مطالع الأنوار من السنة والكتاب ؟ .
واعجبا ! كيف ميزت بين صحيح الآراء وسقيمها ، ومقبولها ومردودها ، وراجحها ومرجوحها ، وأقرت على أنفسها بالعجز عن تلقي الهدى والعلم من كلام من كلامه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وهو الكفيل بإيضاح الحق مع غاية البيان وكلام من أوتي جوامع الكلم ، واستولى كلامه على الأقصى من البيان ؟ .
كلا ، بل هي والله فتنة أعمت القلوب عن مواقع رشدها ، وحيرت العقول عن طرائق قصدها ، يربى فيها الصغير ، ويهرم فيها الكبير .
وظنت خفافيش البصائر أنها الغاية التي يتسابق إليها المتسابقون ، والنهاية التي تنافس فيها المنافسون ، وتزاحموا عليها ، وهيهات ، أين السهى من شمس الضحى ؟ وأين الثرى من كواكب الجوزاء ؟ وأين الكلام الذي لم تضمن لنا عصمة قائله بدليل معلوم ، من النقل المصدق عن القائل المعصوم ؟ وأين الأقوال التي أعلا درجاتها أن تكون سائغة الاتباع ، من النصوص الواجب على كل مسلم تقديمها وتحكيمها والتحاكم إليها في محل النزاع ؟ وأين الآراء التي نهى قائلها عن تقليده فيها وحذر ، من النصوص التي فرض على كل عبد أن يهتدي بها ويتبصر ؟ وأين المذاهب التي إذا مات أربابها فهي من جملة الأموات ، من النصوص التي لا تزول إذا زالت الأرض والسماوات ؟
سبحان الله ! ماذا حرم المعرضون عن نصوص الوحي ، واقتباس العلم من مشكاته من كنوز الذخائر ؟ ! وماذا فاتهم من حياة القلوب واستنارة البصائر ؟ قنعوا بأقوال استنبطتها معاول الآراء فكرا ، وتقطعوا أمرهم بينهم لأجلها زبرا ، وأوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ، فاتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا .
درست معالم القرآن في قلوبهم فليسوا يعرفونها ، ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها ، ووقعت ألويته وأعلامه من أيديهم فليسوا يرفعونها ، وأفلت كواكبه النيرة من
[ ص: 29 ] آفاق نفوسهم فلذلك لا يحبونها ، وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وعقدها فليسوا يبصرونها .
خلعوا نصوص الوحي عن سلطان الحقيقة ، وعزلوها عن ولاية اليقين ، وشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة ، فلا يزال يخرج عليها من جيوشهم كمين بعد كمين ، نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام ، فعاملوها بغير ما يليق بها من الإجلال والإكرام ، وتلقوها من بعيد ، ولكن بالدفع في صدورها والأعجاز ، وقالوا : ما لك عندنا من عبور ، وإن كان ولا بد ، فعلى سبيل الاجتياز ، أنزلوا النصوص منزلة الخليفة في هذا الزمان ، له السكة والخطبة وما له حكم نافذ ولا سلطان ، المتمسك عندهم بالكتاب والسنة صاحب ظواهر ، مبخوس حظه من المعقول ، والمقلد للآراء المتناقضة المتعارضة والأفكار المتهافتة لديهم هو الفاضل المقبول ، وأهل الكتاب والسنة ، المقدمون لنصوصها على غيرها جهال لديهم منقوصون
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=13وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون .
حرموا والله الوصول ، بعدولهم عن منهج الوحي ، وتضييعهم الأصول ، وتمسكوا بأعجاز لا صدور لها ، فخانتهم أحرص ما كانوا عليها ، وتقطعت بهم أسبابها أحوج ما كانوا إليها ، حتى إذا بعثر ما في القبور ، وحصل ما في الصدور ، وتميز لكل قوم حاصلهم الذي حصلوه ، وانكشفت لهم حقيقة ما اعتقدوه ، وقدموا على ما قدموه
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=47وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وسقط في أيديهم عند الحصاد لما عاينوا غلة ما بذروه .
فيا شدة الحسرة عندما يعاين المبطل سعيه وكده هباء منثورا ، ويا عظم المصيبة عندما يتبين بوارق أمانيه خلبا ، وآماله كاذبة غرورا ، فما ظن من انطوت سريرته على البدعة والهوى والتعصب للآراء بربه يوم تبلى السرائر ؟ وعذر من نبذ الوحيين وراء ظهره في يوم لا تنفع الظالمين فيه المعاذر ؟
أفيظن المعرض عن كتاب ربه وسنة رسوله أن ينجو من ربه بآراء الرجال ؟ أو يتخلص من بأس الله بكثرة البحوث والجدال ، وضروب الأقيسة وتنوع الأشكال ؟ أو بالإشارات والشطحات ، وأنواع الخيال ؟
[ ص: 30 ] هيهات والله ، لقد ظن أكذب الظن ، ومنته نفسه أبين المحال ، وإنما ضمنت النجاة لمن حكم هدى الله على غيره ، وتزود التقوى وائتم بالدليل ، وسلك الصراط المستقيم ، واستمسك من الوحي بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها والله سميع عليم .
وبعد ، فلما كان كمال الإنسان إنما هو بالعلم النافع ، والعمل الصالح ، وهما الهدى ودين الحق ، وبتكميله لغيره في هذين الأمرين ، كما قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=103&ayano=1والعصر nindex.php?page=tafseer&surano=103&ayano=2nindex.php?page=treesubj&link=29074إن الإنسان لفي خسر nindex.php?page=tafseer&surano=103&ayano=3إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر أقسم سبحانه أن كل أحد خاسر إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان ، وقوته العملية بالعمل الصالح ، وكمل غيره بالتوصية بالحق والصبر عليه ، فالحق هو الإيمان والعمل ، ولا يتمان إلا بالصبر عليهما ، والتواصي بهما كان حقيقا بالإنسان أن ينفق ساعات عمره بل أنفاسه فيما ينال به المطالب العالية ، ويخلص به من الخسران المبين ، وليس ذلك إلا بالإقبال على القرآن وتفهمه وتدبره واستخراج كنوزه وإثارة دفائنه ، وصرف العناية إليه ، والعكوف بالهمة عليه ، فإنه الكفيل بمصالح العباد في المعاش والمعاد ، والموصل لهم إلى سبيل الرشاد ، فالحقيقة والطريقة ، والأذواق والمواجيد الصحيحة ، كلها لا تقتبس إلا من مشكاته ، ولا تستثمر إلا من شجراته .
ونحن بعون الله ننبه على هذا بالكلام على فاتحة الكتاب وأم القرآن ، وعلى بعض ما تضمنته هذه السورة من هذه المطالب ، وما تضمنته من الرد على جميع طوائف أهل البدع والضلال ، وما تضمنته من منازل السائرين ، ومقامات العارفين ، والفرق بين وسائلها وغاياتها ، ومواهبها وكسبياتها ، وبيان أنه لا يقوم غير هذه السورة مقامها ، ولا يسد مسدها ، ولذلك لم ينزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها .
والله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
[ ص: 27 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَبِهِ نَسْتَعِينُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ
nindex.php?page=treesubj&link=19770الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ، وَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ، وَإِلَهُ الْمُرْسَلِينَ ، وَقَيُّومُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثُ بِالْكِتَابِ الْمُبِينِ ، الْفَارِقُ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ ، وَالْغَيِّ وَالرَّشَادِ ، وَالشَّكِّ وَالْيَقِينِ ، أَنْزَلَهُ لِنَقْرَأَهُ تَدَبُّرًا ، وَنَتَأَمَّلَهُ تَبَصُّرًا ، وَنَسْعَدَ بِهِ تَذَكُّرًا ، وَنَحْمِلَهُ عَلَى أَحْسَنِ وُجُوهِهِ وَمَعَانِيهِ ، وَنُصَدِّقَ بِهِ وَنَجْتَهِدَ عَلَى إِقَامَةِ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ ، وَنَجْتَنِي ثِمَارَ عُلُومِهِ النَّافِعَةِ الْمُوصِلَةِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنْ أَشْجَارِهِ ، وَرَيَاحِينَ الْحِكَمِ مِنْ بَيْنِ رِيَاضِهِ وَأَزْهَارِهِ ، فَهُوَ كِتَابُهُ الدَّالُّ عَلَيْهِ لِمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَتَهُ ، وَطَرِيقُهُ الْمُوَصِّلَةُ لِسَالِكِهَا إِلَيْهِ ، وَنُورُهُ الْمُبِينُ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظُّلُمَاتُ ، وَرَحْمَتُهُ الْمُهْدَاةُ الَّتِي بِهَا صَلَاحُ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ ، وَالسَّبَبُ الْوَاصِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ إِذَا انْقَطَعَتِ الْأَسْبَابُ ، وَبَابُهُ الْأَعْظَمُ الَّذِي مِنْهُ الدُّخُولُ ، فَلَا يُغْلَقُ إِذَا غُلِّقَتِ الْأَبْوَابُ ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا تَمِيلُ بِهِ الْآرَاءُ ، وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ الَّذِي لَا تَزِيغُ بِهِ الْأَهْوَاءُ ، وَالنُّزُلُ الْكَرِيمُ الَّذِي لَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ ، لَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ ، وَلَا تُقْلِعُ سَحَائِبُهُ ، وَلَا تَنْقَضِي آيَاتُهُ ، وَلَا تَخْتَلِفُ دِلَالَاتُهُ ، كُلَّمَا ازْدَادَتِ الْبَصَائِرُ فِيهِ تَأَمُّلًا وَتَفْكِيرًا ، زَادَهَا هِدَايَةً وَتَبْصِيرًا ، وَكُلَّمَا بَجَسَتْ مَعِينُهُ فَجَّرَ لَهَا يَنَابِيعَ الْحِكْمَةِ تَفْجِيرًا ، فَهُوَ نُورُ الْبَصَائِرِ مِنْ عَمَاهَا ، وَشِفَاءُ الصُّدُورِ مِنْ أَدْوَائِهَا وَجَوَاهَا ، وَحَيَاةُ الْقُلُوبِ ، وَلَذَّةُ النُّفُوسِ ، وَرِيَاضُ الْقُلُوبِ ، وَحَادِي الْأَرْوَاحِ إِلَى بِلَادِ الْأَفْرَاحِ ، وَالْمُنَادِي بِالْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ : يَا أَهْلَ الْفَلَاحِ ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ، نَادَى مُنَادِي الْإِيمَانِ عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=31يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ .
[ ص: 28 ] أَسْمَعَ وَاللَّهِ لَوْ صَادَفَ آذَانًا وَاعِيَةً ، وَبَصَّرَ لَوْ صَادَفَ قُلُوبًا مِنَ الْفَسَادِ خَالِيَةً ، لَكِنْ عَصَفَتْ عَلَى الْقُلُوبِ هَذِهِ الْأَهْوَاءُ فَأَطْفَأَتْ مَصَابِيحَهَا ، وَتَمَكَّنَتْ مِنْهَا آرَاءُ الرِّجَالِ فَأَغْلَقَتْ أَبْوَابَهَا وَأَضَاعَتْ مَفَاتِيحَهَا ، وَرَانَ عَلَيْهَا كَسْبُهَا فَلَمْ تَجِدْ حَقَائِقُ الْقُرْآنِ إِلَيْهَا مَنْفَذًا ، وَتَحَكَّمَتْ فِيهَا أَسْقَامُ الْجَهْلِ فَلَمْ تَنْتَفِعْ مَعَهَا بِصَالِحِ الْعَمَلِ .
وَا عَجَبًا لَهَا ! كَيْفَ جَعَلَتْ غِذَاءَهَا مِنْ هَذِهِ الْآرَاءِ الَّتِي لَا تُسْمِنُ وَلَا تُغْنِي مِنْ جُوعٍ ، وَلَمْ تَقْبَلِ الِاغْتِذَاءَ بِكَلَامِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَنُصُوصِ حَدِيثِ نَبِيِّهِ الْمَرْفُوعِ ، أَمْ كَيْفَ اهْتَدَتْ فِي ظُلَمِ الْآرَاءِ إِلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْخَطَأِ وَالصَّوَابِ ، وَخَفِيَ عَلَيْهَا ذَلِكَ فِي مَطَالِعِ الْأَنْوَارِ مِنَ السُّنَّةِ وَالْكِتَابِ ؟ .
وَاعَجَبًا ! كَيْفَ مَيَّزَتْ بَيْنَ صَحِيحِ الْآرَاءِ وَسَقِيمِهَا ، وَمَقْبُولِهَا وَمَرْدُودِهَا ، وَرَاجِحِهَا وَمَرْجُوحِهَا ، وَأَقَرَّتْ عَلَى أَنْفُسِهَا بِالْعَجْزِ عَنْ تَلَقِّي الْهُدَى وَالْعِلْمِ مِنْ كَلَامِ مَنْ كَلَامُهُ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ، وَهُوَ الْكَفِيلُ بِإِيضَاحِ الْحَقِّ مَعَ غَايَةِ الْبَيَانِ وَكَلَامِ مَنْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ ، وَاسْتَوْلَى كَلَامُهُ عَلَى الْأَقْصَى مِنَ الْبَيَانِ ؟ .
كَلَّا ، بَلْ هِيَ وَاللَّهِ فِتْنَةٌ أَعْمَتِ الْقُلُوبَ عَنْ مَوَاقِعِ رُشْدِهَا ، وَحَيَّرَتِ الْعُقُولَ عَنْ طَرَائِقِ قَصْدِهَا ، يُرَبَّى فِيهَا الصَّغِيرُ ، وَيَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ .
وَظَنَّتْ خَفَافِيشُ الْبَصَائِرِ أَنَّهَا الْغَايَةُ الَّتِي يَتَسَابَقُ إِلَيْهَا الْمُتَسَابِقُونَ ، وَالنِّهَايَةُ الَّتِي تَنَافَسَ فِيهَا الْمُنَافِسُونَ ، وَتَزَاحَمُوا عَلَيْهَا ، وَهَيْهَاتَ ، أَيْنَ السُّهَى مِنْ شَمْسِ الضُّحَى ؟ وَأَيْنَ الثَّرَى مِنْ كَوَاكِبِ الْجَوْزَاءِ ؟ وَأَيْنَ الْكَلَامُ الَّذِي لَمْ تُضْمَنْ لَنَا عِصْمَةُ قَائِلِهِ بِدَلِيلٍ مَعْلُومٍ ، مِنَ النَّقْلِ الْمُصَدَّقِ عَنِ الْقَائِلِ الْمَعْصُومِ ؟ وَأَيْنَ الْأَقْوَالُ الَّتِي أَعَلَا دَرَجَاتِهَا أَنْ تَكُونَ سَائِغَةَ الِاتِّبَاعِ ، مِنَ النُّصُوصِ الْوَاجِبِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ تَقْدِيمُهَا وَتَحْكِيمُهَا وَالتَّحَاكُمُ إِلَيْهَا فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ ؟ وَأَيْنَ الْآرَاءُ الَّتِي نَهَى قَائِلُهَا عَنْ تَقْلِيدِهِ فِيهَا وَحَذَّرَ ، مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي فَرَضَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَنْ يَهْتَدِيَ بِهَا وَيَتَبَصَّرَ ؟ وَأَيْنَ الْمَذَاهِبُ الَّتِي إِذَا مَاتَ أَرْبَابُهَا فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَاتِ ، مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي لَا تَزُولُ إِذَا زَالَتِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ ؟
سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَاذَا حُرِمَ الْمُعْرِضُونَ عَنْ نُصُوصِ الْوَحْيِ ، وَاقْتِبَاسِ الْعِلْمِ مِنْ مِشْكَاتِهِ مِنْ كُنُوزِ الذَّخَائِرِ ؟ ! وَمَاذَا فَاتَهُمْ مِنْ حَيَاةِ الْقُلُوبِ وَاسْتِنَارَةِ الْبَصَائِرِ ؟ قَنَعُوا بِأَقْوَالٍ اسْتَنْبَطَتْهَا مَعَاوِلُ الْآرَاءِ فِكْرًا ، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ لِأَجْلِهَا زُبُرًا ، وَأَوْحَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ، فَاتَّخَذُوا لِأَجْلِ ذَلِكَ الْقُرْآنَ مَهْجُورًا .
دَرَسَتْ مَعَالِمُ الْقُرْآنِ فِي قُلُوبِهِمْ فَلَيْسُوا يَعْرِفُونَهَا ، وَدُثِرَتْ مَعَاهِدُهُ عِنْدَهُمْ فَلَيْسُوا يَعْمُرُونَهَا ، وَوَقَعَتْ أَلْوِيَتُهُ وَأَعْلَامُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَلَيْسُوا يَرْفَعُونَهَا ، وَأَفَلَتْ كَوَاكِبُهُ النَّيِّرَةُ مِنْ
[ ص: 29 ] آفَاقِ نُفُوسِهِمْ فَلِذَلِكَ لَا يُحِبُّونَهَا ، وَكَسَفَتْ شَمْسُهُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ ظُلَمِ آرَائِهِمْ وَعَقْدِهَا فَلَيْسُوا يُبْصِرُونَهَا .
خَلَعُوا نُصُوصَ الْوَحْيِ عَنْ سُلْطَانِ الْحَقِيقَةِ ، وَعَزَلُوهَا عَنْ وِلَايَةِ الْيَقِينِ ، وَشَنُّوا عَلَيْهَا غَارَاتِ التَّأْوِيلَاتِ الْبَاطِلَةِ ، فَلَا يَزَالُ يَخْرُجُ عَلَيْهَا مِنْ جُيُوشِهِمْ كَمِينٌ بَعْدَ كَمِينٍ ، نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ نُزُولَ الضَّيْفِ عَلَى أَقْوَامٍ لِئَامٍ ، فَعَامَلُوهَا بِغَيْرِ مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْإِجْلَالِ وَالْإِكْرَامِ ، وَتَلَقَّوْهَا مِنْ بَعِيدٍ ، وَلَكِنْ بِالدَّفْعِ فِي صُدُورِهَا وَالْأَعْجَازِ ، وَقَالُوا : مَا لَكِ عِنْدَنَا مِنْ عُبُورٍ ، وَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ ، فَعَلَى سَبِيلِ الِاجْتِيَازِ ، أَنْزَلُوا النُّصُوصَ مَنْزِلَةَ الْخَلِيفَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ ، لَهُ السَّكَّةُ وَالْخُطْبَةُ وَمَا لَهُ حُكْمٌ نَافِذٌ وَلَا سُلْطَانٌ ، الْمُتَمَسِّكُ عِنْدَهُمْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ صَاحِبُ ظَوَاهِرَ ، مَبْخُوسٌ حَظُّهُ مِنَ الْمَعْقُولِ ، وَالْمُقَلِّدُ لِلْآرَاءِ الْمُتَنَاقِضَةِ الْمُتَعَارِضَةِ وَالْأَفْكَارِ الْمُتَهَافِتَةِ لَدَيْهِمْ هُوَ الْفَاضِلُ الْمَقْبُولُ ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، الْمُقَدِّمُونَ لِنُصُوصِهَا عَلَى غَيْرِهَا جُهَّالٌ لَدَيْهِمْ مَنْقُوصُونَ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=13وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ .
حُرِمُوا وَاللَّهِ الْوُصُولَ ، بِعُدُولِهِمْ عَنْ مَنْهَجِ الْوَحْيِ ، وَتَضْيِيعِهِمُ الْأُصُولَ ، وَتَمسَّكُوا بِأَعْجَازٍ لَا صُدُورَ لَهَا ، فَخَانَتْهُمْ أَحْرَصَ مَا كَانُوا عَلَيْهَا ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ أَسْبَابُهَا أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهَا ، حَتَّى إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ، وَتَمَيَّزَ لِكُلِّ قَوْمٍ حَاصِلُهُمُ الَّذِي حَصَّلُوهُ ، وَانْكَشَفَتْ لَهُمْ حَقِيقَةُ مَا اعْتَقَدُوهُ ، وَقَدِمُوا عَلَى مَا قَدَّمُوهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=47وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَسَقَطَ فِي أَيْدِيهِمْ عِنْدَ الْحَصَادِ لَمَّا عَايَنُوا غَلَّةَ مَا بَذَرُوهُ .
فَيَا شِدَّةَ الْحَسْرَةِ عِنْدَمَا يُعَايِنُ الْمُبْطِلُ سَعْيَهُ وَكَدَّهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ، وَيَا عُظْمَ الْمُصِيبَةِ عِنْدَمَا يَتَبَيَّنُ بَوَارِقَ أَمَانِيهِ خُلَّبًا ، وَآمَالَهُ كَاذِبَةً غُرُورًا ، فَمَا ظَنُّ مَنِ انْطَوَتْ سَرِيرَتُهُ عَلَى الْبِدْعَةِ وَالْهَوَى وَالتَّعَصُّبِ لِلْآرَاءِ بِرَبِّهِ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ؟ وَعُذْرُ مَنْ نَبَذَ الْوَحْيَيْنِ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فِي يَوْمٍ لَا تَنْفَعُ الظَّالِمِينَ فِيهِ الْمَعَاذِرُ ؟
أَفَيَظُنُّ الْمُعْرِضُ عَنْ كِتَابِ رَبِّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ رَبِّهِ بِآرَاءِ الرِّجَالِ ؟ أَوْ يَتَخَلَّصَ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ بِكَثْرَةِ الْبُحُوثِ وَالْجِدَالِ ، وَضُرُوبِ الْأَقْيِسَةِ وَتَنَوُّعِ الْأَشْكَالِ ؟ أَوْ بِالْإِشَارَاتِ وَالشَّطَحَاتِ ، وَأَنْوَاعِ الْخَيَالِ ؟
[ ص: 30 ] هَيْهَاتَ وَاللَّهِ ، لَقَدْ ظَنَّ أَكْذَبَ الظَّنِّ ، وَمَنَّتْهُ نَفْسُهُ أَبْيَنَ الْمُحَالِ ، وَإِنَّمَا ضُمِنَتِ النَّجَاةُ لِمَنْ حَكَّمَ هُدَى اللَّهِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَتَزَوَّدَ التَّقْوَى وَائْتَمَّ بِالدَّلِيلِ ، وَسَلَكَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، وَاسْتَمْسَكَ مِنَ الْوَحْيِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .
وَبَعْدُ ، فَلَمَّا كَانَ كَمَالُ الْإِنْسَانِ إِنَّمَا هُوَ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَهُمَا الْهُدَى وَدِينُ الْحَقِّ ، وَبِتَكْمِيلِهِ لِغَيْرِهِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=103&ayano=1وَالْعَصْرِ nindex.php?page=tafseer&surano=103&ayano=2nindex.php?page=treesubj&link=29074إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ nindex.php?page=tafseer&surano=103&ayano=3إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ أَقْسَمَ سُبْحَانَهُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ خَاسِرٌ إِلَّا مَنْ كَمَّلَ قُوَّتَهُ الْعِلْمِيَّةَ بِالْإِيمَانِ ، وَقُوَّتَهُ الْعَمَلِيَّةَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ ، وَكَمَّلَ غَيْرَهُ بِالتَّوْصِيَةِ بِالْحَقِّ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ ، فَالْحَقُّ هُوَ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ ، وَلَا يَتِمَّانِ إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَيْهِمَا ، وَالتَّوَاصِي بِهِمَا كَانَ حَقِيقًا بِالْإِنْسَانِ أَنْ يُنْفِقَ سَاعَاتِ عُمْرِهِ بَلْ أَنْفَاسَهُ فِيمَا يَنَالُ بِهِ الْمَطَالِبَ الْعَالِيَةَ ، وَيَخْلُصُ بِهِ مِنَ الْخُسْرَانِ الْمُبِينِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا بِالْإِقْبَالِ عَلَى الْقُرْآنِ وَتَفَهُّمِهِ وَتَدَبُّرِهِ وَاسْتِخْرَاجِ كُنُوزِهِ وَإِثَارَةِ دَفَائِنِهِ ، وَصَرْفِ الْعِنَايَةِ إِلَيْهِ ، وَالْعُكُوفِ بِالْهِمَّةِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ الْكَفِيلُ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ ، وَالْمُوَصِّلُ لَهُمْ إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ ، فَالْحَقِيقَةُ وَالطَّرِيقَةُ ، وَالْأَذْوَاقُ وَالْمَوَاجِيدُ الصَّحِيحَةُ ، كُلُّهَا لَا تُقْتَبَسُ إِلَّا مِنْ مِشْكَاتِهِ ، وَلَا تُسْتَثْمَرُ إِلَّا مِنْ شَجَرَاتِهِ .
وَنَحْنُ بِعَوْنِ اللَّهِ نُنَبِّهُ عَلَى هَذَا بِالْكَلَامِ عَلَى فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَأُمِّ الْقُرْآنِ ، وَعَلَى بَعْضِ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ هَذِهِ الْمَطَالِبِ ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الرَّدِّ عَلَى جَمِيعِ طَوَائِفِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ مَنَازِلِ السَّائِرِينَ ، وَمَقَامَاتِ الْعَارِفِينَ ، وَالْفَرْقِ بَيْنَ وَسَائِلِهَا وَغَايَاتِهَا ، وَمَوَاهِبِهَا وَكَسْبِيَّاتِهَا ، وَبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَقُومُ غَيْرُ هَذِهِ السُّورَةِ مَقَامَهُا ، وَلَا يَسُدُّ مَسَدَّهَا ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الْقُرْآنِ مِثْلَهَا .
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ، وَعَلَيْهِ الْتُكْلَانُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ .