فصل .
قال : وإنما يستقيم الرجوع إليه حالا بثلاثة أشياء : بالإياس من عملك ، وبمعاينة اضطرارك ، وشيم برق لطفه بك .
[ ص: 439 ] nindex.php?page=treesubj&link=29411_19695_19696الإياس من العمل يفسر بشيئين :
أحدهما : أنه إذا نظر بعين الحقيقة إلى الفاعل الحق ، والمحرك الأول ، وأنه لولا مشيئته لما كان منك فعل ، فمشيئته أوجبت فعلك لا مشيئتك بقي بلا فعل . فهاهنا تنفع مشاهدة القدر ، والفناء عن رؤية الأعمال .
والثاني : أن تيأس من النجاة بعملك ، وترى
nindex.php?page=treesubj&link=29703النجاة إنما هي برحمته تعالى وعمله وفضله ، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
nindex.php?page=hadith&LINKID=980140لن ينجي أحدا منكم عمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل فالمعنى الأول يتعلق ببداية الفعل ، والثاني بغايته ومآله .
وأما معاينة الاضطرار فإنه إذا أيس من عمله بداية ، وأيس من النجاة به نهاية ، شهد به في كل ذرة منه ضرورة تامة إليه ، وليست ضرورته من هذه الجهة وحدها ، بل من جميع الجهات ، وجهات ضرورته لا تنحصر بعدد ، ولا لها سبب ، بل هو مضطر إليه بالذات ، كما أن الله عز وجل غني بالذات ، فإن الغنى وصف ذاتي للرب ، والفقر والحاجة والضرورة وصف ذاتي للعبد .
قال شيخ الإسلام
ابن تيمية قدس الله روحه :
والفقر لي وصف ذات لازم أبدا كما الغنى أبدا وصف له ذاتي
وأما شيم برق لطفه بك فإنه إذا تحقق له قوة ضرورية ، وأيس من عمله والنجاة به ، نظر إلى ألطاف الله وشام برقها ، وعلم أن كل ما هو فيه وما يرجوه وما تقدم له لطف من الله به ، ومنة من بها عليه ، وصدقة تصدق بها عليه بلا سبب منه ، إذ هو المحسن بالسبب والمسبب ، والأمر له من قبل ومن بعد ، وهو الأول والآخر ، لا إله غيره ، ولا رب سواه .
فَصْلٌ .
قَالَ : وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ حَالًا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : بِالْإِيَاسِ مِنْ عَمَلِكَ ، وَبِمُعَايَنَةِ اضْطِرَارِكَ ، وَشَيْمِ بَرْقِ لُطْفِهِ بِكَ .
[ ص: 439 ] nindex.php?page=treesubj&link=29411_19695_19696الْإِيَاسُ مِنَ الْعَمَلِ يُفَسَّرُ بِشَيْئَيْنِ :
أَحَدِهِمَا : أَنَّهُ إِذَا نَظَرَ بِعَيْنِ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْفَاعِلِ الْحَقِّ ، وَالْمُحَرِّكِ الْأَوَّلِ ، وَأَنَّهُ لَوْلَا مَشِيئَتُهُ لَمَا كَانَ مِنْكَ فِعْلٌ ، فَمَشِيئَتُهُ أَوْجَبَتْ فِعْلَكَ لَا مَشِيئَتَكَ بَقِيَ بِلَا فِعْلٍ . فَهَاهُنَا تَنْفَعُ مُشَاهَدَةُ الْقَدَرِ ، وَالْفَنَاءُ عَنْ رُؤْيَةِ الْأَعْمَالِ .
وَالثَّانِي : أَنْ تَيْأَسَ مِنَ النَّجَاةِ بِعَمَلِكَ ، وَتَرَى
nindex.php?page=treesubj&link=29703النَّجَاةَ إِنَّمَا هِيَ بِرَحْمَتِهِ تَعَالَى وَعَمَلِهِ وَفَضْلِهِ ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ
nindex.php?page=hadith&LINKID=980140لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ ، قَالُوا : وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : وَلَا أَنَا ، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ فَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ يَتَعَلَّقُ بِبِدَايَةِ الْفِعْلِ ، وَالثَّانِي بِغَايَتِهِ وَمَآلِهِ .
وَأَمَّا مُعَايَنَةُ الِاضْطِرَارِ فَإِنَّهُ إِذَا أَيِسَ مِنْ عَمَلِهِ بِدَايَةً ، وَأَيِسَ مِنَ النَّجَاةِ بِهِ نِهَايَةً ، شَهِدَ بِهِ فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْهُ ضَرُورَةً تَامَّةً إِلَيْهِ ، وَلَيْسَتْ ضَرُورَتُهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ وَحْدَهَا ، بَلْ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ ، وَجِهَاتُ ضَرُورَتِهِ لَا تَنْحَصِرُ بِعَدَدٍ ، وَلَا لَهَا سَبَبٌ ، بَلْ هُوَ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ بِالذَّاتِ ، كَمَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ غَنِيٌّ بِالذَّاتِ ، فَإِنَّ الْغِنَى وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِلرَّبِّ ، وَالْفَقْرَ وَالْحَاجَةَ وَالضَّرُورَةَ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ لِلْعَبْدِ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ
ابْنُ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ :
وَالْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لَازِمٌ أَبَدًا كَمَا الْغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِيٌّ
وَأَمَّا شَيْمُ بَرْقِ لُطْفِهِ بِكَ فَإِنَّهُ إِذَا تَحَقَّقَ لَهُ قُوَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ ، وَأَيِسَ مِنْ عَمَلِهِ وَالنَّجَاةِ بِهِ ، نَظَرَ إِلَى أَلْطَافِ اللَّهِ وَشَامَ بِرْقَهَا ، وَعَلِمَ أَنَّ كُلَّ مَا هُوَ فِيهِ وَمَا يَرْجُوهُ وَمَا تَقَدَّمَ لَهُ لُطْفٌ مِنَ اللَّهِ بِهِ ، وَمِنَّةٌ مَنَّ بِهَا عَلَيْهِ ، وَصَدَقَةٌ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ بِلَا سَبَبٍ مِنْهُ ، إِذْ هُوَ الْمُحْسِنُ بِالسَّبَبِ وَالْمُسَبَّبِ ، وَالْأَمْرُ لَهُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ، وَهُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ، لَا إِلَهَ غَيْرُهُ ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ .