الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

فأما النوع الأول فهو السماع الذي مدحه الله في كتابه ، وأمر به وأثنى على [ ص: 480 ] أصحابه ، وذم المعرضين عنه ولعنهم ، وجعلهم أضل من الأنعام سبيلا ، وهم القائلون في النار لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير وهو سماع آياته المتلوة التي أنزلها على رسوله ، فهذا السماع أساس الإيمان الذي يقوم عليه بناؤه ، وهو على ثلاثة أنواع ، سماع إدراك بحاسة الأذن ، وسماع فهم وعقل ، وسماع فهم وإجابة وقبول ، والثلاثة في القرآن .

فأما سماع الإدراك ففي قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن قولهم إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به وقوله : ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى الآية ، فهذا سماع إدراك اتصل به الإيمان والإجابة

وأما سماع الفهم فهو المنفي عن أهل الإعراض والغفلة ، بقوله تعالى فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء وقوله : إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور .

فالتخصيص هاهنا لإسماع الفهم والعقل ، وإلا فالسمع العام الذي قامت به الحجة لا تخصيص فيه ، ومنه قوله تعالى ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون أي لو علم الله في هؤلاء الكفار قبولا وانقيادا لأفهمهم ، وإلا فهم قد سمعوا سمع الإدراك ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون أي ولو أفهمهم لما انقادوا ولا انتفعوا بما فهموا; لأن في قلوبهم من داعي التولي والإعراض ما يمنعهم عن الانتفاع بما سمعوه .

وأما سماع القبول والإجابة ففي قوله تعالى حكاية عن عباده المؤمنين أنهم قالوا سمعنا وأطعنا فإن هذا سمع قبول وإجابة مثمر للطاعة .

[ ص: 481 ] والتحقيق : أنه متضمن للأنواع الثلاثة ، وأنهم أخبروا بأنهم أدركوا المسموع وفهموه ، واستجابوا له .

ومن سمع القبول : قوله تعالى وفيكم سماعون لهم أي قابلون منهم مستجيبون لهم ، هذا أصح القولين في الآية .

وأما قول من قال : عيون لهم وجواسيس فضعيف ، فإنه سبحانه أخبر عن حكمته في تثبيطهم عن الخروج بأن خروجهم يوجب الخبال والفساد ، والسعي بين العسكر بالفتنة ، وفي العسكر من يقبل منهم ، ويستجيب لهم ، فكان في إقعادهم عنهم لطفا بهم ورحمة ، حتى لا يقعوا في عنت القبول منهم .

أما اشتمال العسكر على جواسيس وعيون لهم فلا تعلق له بحكمة التثبيط والإقعاد ، ومعلوم أن جواسيسهم وعيونهم منهم ، وهو سبحانه قد أخبر أنه أقعدهم لئلا يسعوا بالفساد في العسكر ، ولئلا يبغوهم الفتنة ، وهذه الفتنة إنما تندفع بإقعادهم ، وإقعاد جواسيسهم وعيونهم .

وأيضا فإن الجواسيس إنما تسمى عيونا هذا المعروف في الاستعمال لا تسمى سماعين .

وأيضا فإن هذا نظير قوله تعالى في إخوانهم اليهود سماعون للكذب أكالون للسحت أي قابلون له .

والمقصود أن سماع خاصة الخاصة المقربين هو سماع القرآن بالاعتبارات الثلاثة : إدراكا وفهما ، وتدبرا ، وإجابة . وكل سماع في القرآن مدح الله أصحابه وأثنى عليهم ، وأمر به أولياءه فهو هذا السماع .

وهو سماع الآيات ، لا سماع الأبيات ، وسماع القرآن ، لا سماع مزامير الشيطان ، وسماع كلام رب الأرض والسماء لا سماع قصائد الشعراء ، وسماع المراشد ، لا سماع القصائد ، وسماع الأنبياء والمرسلين ، لا سماع المغنين والمطربين .

فهذا السماع حاد يحدو القلوب إلى جوار علام الغيوب ، وسائق يسوق الأرواح [ ص: 482 ] إلى ديار الأفرح ، ومحرك يثير ساكن العزمات إلى أعلى المقامات وأرفع الدرجات ، ومناد ينادي للإيمان ، ودليل يسير بالركب في طريق الجنان ، وداع يدعو القلوب بالمساء والصباح ، من قبل فالق الإصباح حي على الفلاح ، حي على الفلاح .

فلم يعدم من اختار هذا السماع إرشادا لحجة ، وتبصرة لعبرة ، وتذكرة لمعرفة ، وفكرة في آية ، ودلالة على رشد ، وردا على ضلالة ، وإرشادا من غي ، وبصيرة من عمى ، وأمرا بمصلحة ، ونهيا عن مضرة ومفسدة ، وهداية إلى نور ، وإخراجا من ظلمة ، وزجرا عن هوى ، وحثا على تقى ، وجلاء لبصيرة ، وحياة لقلب ، وغذاء ودواء وشفاء ، وعصمة ونجاة ، وكشف شبهة ، وإيضاح برهان ، وتحقيق حق ، وإبطال باطل .

ونحن نرضى بحكم أهل الذوق في سماع الأبيات والقصائد ، ونناشدهم بالذي أنزل القرآن هدى وشفاء ونورا وحياة هل وجدوا ذلك أو شيئا منه في الدف والمزمار ؟ ونغمة الشادن ومطربات الألحان ؟ . والغناء المشتمل على تهييج الحب المطلق الذي يشترك فيه محب الرحمن ، ومحب الأوطان ، ومحب الإخوان ، ومحب العلم والعرفان ، ومحب الأموال والأثمان ، ومحب النسوان والمردان ، ومحب الصلبان ، فهو يثير من قلب كل مشتاق ومحب لشيء ساكنه ، ويزعج قاطنه ، فيثور وجده ، ويبدو شوقه ، فيتحرك على حسب ما في قلبه من الحب والشوق والوجد بذلك المحبوب كائنا ما كان ، ولهذا تجد لهؤلاء كلهم ذوقا في السماع ، وحالا ووجدا وبكاء .

ويا لله العجب ! أي إيمان ونور وبصيرة وهدى ومعرفة تحصل باستماع أبيات بألحان وتوقيعات ، لعل أكثرها قيلت فيما هو محرم يبغضه الله ورسوله ، ويعاقب عليه من غزل وتشبيب بمن لا يحل له من ذكر أو أنثى ؟ فإن غالب التغزل والتشبيب إنما هو في الصور المحرمة ، ومن أندر النادر تغزل الشاعر وتشبيبه في امرأته ، وأمته وأم ولده ، مع أن هذا واقع لكنه كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ، فكيف يقع لمن له أدنى بصيرة وحياة قلب أن يتقرب إلى الله ، ويزداد إيمانا وقربا منه وكرامة عليه ، بالتذاذه بما هو بغيض إليه ، مقيت عنده ، يمقت قائله والراضي به ؟ وتترقى به الحال حتى يزعم أن ذلك أنفع لقلبه من سماع القرآن والعلم النافع ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ؟ ! .

يا لله ! إن هذا القلب مخسوف به ، ممكور به منكوس ، لم يصلح لحقائق القرآن وأذواق معانيه ، ومطالعة أسراره ، فبلاه بقرآن الشيطان ، كما في معجم الطبراني وغيره مرفوعا وموقوفا " إن الشيطان قال : يا رب ، اجعل لي قرآنا ، قال : قرآنك الشعر ، قال : اجعل لي كتابا ، قال : كتابك الوشم ، قال : اجعل لي مؤذنا ، قال : مؤذنك المزمار ، قال : اجعل لي بيتا ، قال : بيتك الحمام ، قال : اجعل لي مصائد ، قال : مصائدك النساء ، قال : [ ص: 483 ] اجعل لي طعاما ، قال : طعامك ما لم يذكر عليه اسمي " والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية