فصل
قال صاحب المنازل : الحزن توجع لفائت ، وتأسف على ممتنع .
يريد أن ما يفوت الإنسان قد يكون مقدورا له ، وقد لا يكون ، فإن كان مقدورا توجع لفوته ، وإن كان غير مقدور تأسف لامتناعه .
قال : وله ثلاث درجات ، الأولى : حزن العامة ، وهو . حزن على التفريط في الخدمة ، وعلى التورط في الجفاء ، وعلى ضياع الأيام
التفريط في الخدمة عندهم فوق التفريط في العمل وتضييعه ، بل هذا الحزن يكون مع القيام والعمل ، فإن الخدمة عندهم من باب الأخلاق والآداب ، لا من باب الأفعال ، وهي حق العبودية ، وأدبها وواجبها ، وصاحب هذا الحزن بالأولى : أن يحزن لتضييع العمل .
وأما التورط في الجفاء فهو أيضا أخص من المعصية بارتكاب المحظور لأنه قد يكون لفقد أنس سابق مع الله ، فإذا توارى عنه تورط في الجفوة ، فإن الشيخ ذكر الحزن في قسم الأبواب وهو عنده من قسم البدايات .
وأما تضييع الأيام فنوعان أيضا : تضييعها بخلوها عن الطاعات ، وتضييعها [ ص: 504 ] بخلوها عن مواجيد الإيمان ، وذوق حلاوته ، والأنس بالله ، وحسن الصحبة معه .
فكل واحد من الثلاثة نوعان لأهل البداية ، وللسالكين المتوسطين . وكلامه يعم النوعين ، وإن كان بالثاني أخص .
قال : الدرجة الثانية حزن أهل الإرادة ، وهو حزن على ، وعلى التسلي عن الحزن . تعلق القلب بالتفرقة ، وعلى اشتغال النفس عن الشهود
تعلق القلب بالتفرقة : هو عدم الجمعية في الحضور مع الله ، وتشتيت الخواطر في أودية المرادات .
وأما اشتغال النفس عن الشهود فهو نوعان : اشتغالها عن الذكر الذي يوجب الشهود ويثمره بغيره .
والثاني : اشتغالها عن الشهود ، لضعف الذكر ، أو لضعف القلب عن الشهود ، أو لمانع آخر ، ولكن إذا قهر الشهود النفس لم تتمكن من التشاغل عنه إلا بقاهر يقهرها عنه .
وأما التسلي عن الحزن فيعني أن وجود الحزن في القلب دليل على الإرادة والطلب ، ففقده والتسلي عنه نقص ، فيحزن على فقد الحزن ، كما يبكي على فقد البكاء ، ويخاف من عدم الخوف ، وهذا فيه نظر ، وإنما يحمد الحزن على فقد الحزن ، أما إذا اشتغل عن الحزن بفرح محمود وهو الفرح بفضل الله ورحمته فلا معنى للحزن على فوات الحزن .
قال صاحب المنازل : وليست الخاصة من مقام الحزن في شيء ، لأن الحزن فقد ، والخاصة أهل وجدان .
وهذا إن أراد به أنه لا ينبغي لهم تعمد الحزن فصحيح ، وإن أراد به لا يعرض لهم حزن فليس كذلك ، والحزن من لوازم الطبيعة ، ولكن ليس هو بمقام .
قال : الدرجة الثالثة من الحزن التحزن للمعارضات دون الخواطر [ ص: 505 ] ومعارضات القصود ، واعتراضات الأحكام .
هذه ثلاثة أمور ، بحسب الشهود والإرادة .
الأول : حزن المعارضات ، فإن القلب يعترضه وارد الرجاء مثلا ، فلم ينشب أن يعارضه وارد الخوف ، وبالعكس ، ويعترضه وارد البسط ، فلم ينشب أن يعترضه وارد القبض ، ويرد عليه وارد الأنس ، فيعترضه وارد الهيبة ، فيوجب له اختلاف هذه المعارضات عليه حزنا لا محالة .
وليست هذه المعارضات من قبيل الخواطر ، بل هي من قبيل الواردات الإلهية ، فلذلك قال " دون الخواطر " فإن معارضات الخواطر غير هذا .
وعند القوم هذا من آثار الأسماء والصفات ، واتصال أشعة أنوارها بالقلب ، وهو المسمى عندهم بالتجلي .
وأما معارضات القصود فهي أصعب ما على القوم ، وفيه يظهر اضطرارهم إلى العلم فوق كل ضرورة ، فإن الصادق يتحرى في سلوكه كله أحب الطرق إلى الله ، فإنه سالك به وإليه ، فيعترضه طريقان لا يدري أيهما أرضى لله وأحب إليه ، فمنهم من يحكم العلم بجهده استدلالا ، فإن عجز فتقليدا ، فإن عجز عنهما سكن ينتظر ما يحكم له به القدر ، ويخلي باطنه من المقاصد جملة .
ومنهم من يلقي الكل على شيخه ، إن كان له شيخ .
ومنهم من يلجأ إلى الاستخارة والدعاء ، ثم ينتظر ما يجري به القدر .
وأصحاب العزائم يبذلون وسعهم في طلب الأرضى علما ومعرفة ، فإن أعجزهم قنعوا بالظن الغالب ، فإن تساوى عندهم الأمران ، قدموا أرجحهما مصلحة .
ولترجيح المصالح رتب متفاوتة ، فتارة تترجح بعموم النفع ، وتارة تترجح بزيادة الإيمان ، وتارة تترجح بمخالفة النفس ، وتارة تترجح باستجلاب مصلحة أخرى لا تحصل من غيرها ، وتارة تترجح بأمنها من الخوف من مفسدة لا تؤمن في غيرها .
فهذه خمس جهات من الترجيح ، قل أن يعدم واحدة منها .
فإن أعوزه ذلك كله تخلى عن الخواطر جملة ، وانتظر ما يحركه به محرك القدر [ ص: 506 ] ، وافتقر إلى ربه افتقار مستنزل ما يرضيه ويحبه ، فإذا جاءته الحركة استخار الله ، وافتقر إليه افتقارا ثانيا ، خشية أن تكون تلك الحركة نفسية أو شيطانية ، لعدم العصمة في حقه ، واستمرار المحنة بعدوه ، ما دام في عالم الابتلاء والامتحان ، ثم أقدم على الفعل .
فهذا نهاية ما في مقدور الصادقين .
، ولهذا قال ولأهل الجهاد في هذا من الهداية والكشف ما ليس لأهل المجاهدة و الأوزاعي : إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما عليه أهل الثغر ، يعني أهل الجهاد ، فإن الله تعالى يقول ابن المبارك والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين .
وأما اعتراضات الأحكام فيجوز أن يريد بالأحكام الأحكام الكونية ، وهو أظهر ، وأن يريد بها الأحكام الدينية ، فإن أرباب الأحوال يقع منهم اعتراضات على الأحكام الجارية عليهم بخلاف ما يريدونه ، فيحزنون عند إدراكهم لتلك الاعتراضات على ما صدر منهم من سوء الأدب . وتلك الاعتراضات هي إرادتهم خلاف ما جرى لهم به القدر ، فيحزنون على عدم الموافقة ، وإرادة خلاف ما أريد بهم .
وإن كان المراد به الأحكام الدينية فإنهم تعرض لهم أحوال لا يمكنهم الجمع بينها وبين أحكام الأمر كما تقدم فلا يجدون بدا من القيام بأحكام الأمر ، ولا بد أن يعرض لهم اعتراض خفي أو جلي ، بحسب انقطاعهم عن الحال بالأمر ، فيحزنون لوجود [ ص: 507 ] هذه المعارضة ، فإذا قاموا بأحكام الأمر ، ورأوا أن المصلحة في حقهم ذلك ، وحمدوا عاقبته حزنوا على تسرعهم على المعارضة . فالتسليم لداعي العلم واجب ، ومعارضة الحال من قبيل الإرادات والعلل ، فيحزن على نفيهما فيه ، والله أعلم .