الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قال : الدرجة الثالثة من درجات المراقبة : مراقبة الأزل ، بمطالعة عين السبق ، استقبالا لعلم التوحيد . ومراقبة ظهور إشارات الأزل على أحايين الأبد ، ومراقبة الإخلاص من ورطة المراقبة .

قوله : مراقبة الأزل ؛ أي شهود معنى الأزل ، وهو القدم الذي لا أول له بمطالعة عين السبق ؛ أي بشهود سبق الحق تعالى لكل ما سواه ؛ إذ هو الأول الذي ليس قبله شيء . فمتى طالع العبد عين هذا السبق شهد معنى الأزل وعرف حقيقته ، فبدا له حينئذ علم التوحيد ، فاستقبله كما يستقبل أعلام البلد ، وأعلام الجيش . ورفع له فشمر إليه . وهو شهود انفراد الحق بأزليته وحده . وأنه كان ولم يكن شيء غيره ألبتة . وكل ما سواه فكائن بعد عدمه بتكوينه . فإذا عدمت الكائنات من شهوده ، كما كانت معدومة في الأزل . فطالع عين السبق ، وفني بشهود من لم يزل عن شهود من لم يكن . فقد استقبل علم التوحيد .

وأما مراقبة ظهور إشارات الأزل على أحايين الأبد فقد تقدم أن ما يظهر في الأبد هو عين ما كان معلوما في الأزل ، وأنه إنما تجددت أحايينه ، وهي أوقات ظهوره . فقد ظهرت إشارات الأزل ، وهي ما يشير إليه العقل بالأزلية من المقدرات العلمية على أحايين الأبد . هذا معناه الصحيح عندي .

والقوم يريدون به معنى آخر وهو اتصال الأبد بالأزل في الشهود . وذلك بأن يطوي بساط الكائنات عن شهوده طيا كليا ، ويشهد استمرار وجود الحق سبحانه وحده ، مجردا عن كل ما سواه ، فيصل - بهذا الشهود - الأزل بالأبد ، ويصيران شيئا واحدا . وهو دوام وجوده سبحانه ، بقطع النظر عن كل حادث .

والشهود الأول أكمل وأتم . وهو متعلق بأسمائه وصفاته . وتقدم علمه بالأشياء ، ووقوعها في الأبد مطابقة لعلمه الأزلي ، فهذا الشهود يعطي إيمانا ومعرفة ، وإثباتا للعلم والقدرة ، والفعل والقضاء والقدر .

[ ص: 72 ] وأما الشهود الثاني فلا يعطى صاحبه معرفة ولا إيمانا ، ولا إثباتا لاسم ولا صفة ، ولا عبودية نافعة . وهو أمر مشترك . يشهده كل من أقر بالصانع ، من مسلم وكافر . فإذا استغرق في شهود أزليته ، وتفرده بالقدم ، وغاب عن الكائنات ، اتصل في شهوده الأزل بالأبد . فأي كبير أمر في هذا ؟ وأي إيمان ويقين يحصل به ؟ ونحن لا ننكر ذوقه ، ولا نقدح في وجوده ؛ وإنما نقدح في مرتبته وتفضيله على ما قبله من المراقبة ، بحيث يكون لخاصة الخاصة . وما قبله لمن هم دونهم . فهذا عين الوهم . والله الموفق .

فإذا اتصل في شهود الشاهد الأزل الذي لا بداية له ، بالأزمنة التي يعقل لها بداية - وهي أزمنة الحوادث - ثم اتصل ذلك بما لا نهاية له ، بحيث صارت الأزمنة الثلاثة واحدا . لا ماضي فيه ، ولا حاضر ، ولا مستقبل ، وذلك لا يكون إلا إذا شهد فناء الحوادث فناء مطلقا ، وعدمها عدما كليا . وذلك تقدير وهمي مخالف للواقع . وهو تجريد خيالي ، يوقع صاحبه في بحر طامس لا ساحل له ، وليل دامس لا فجر له .

فأين هذا من مشهد تنوع الأسماء والصفات ؟ وتعلقها بأنواع الكائنات ، وارتباطها بجميع الحادثات ؟ وإعطاء كل اسم منها وصفة حقها من الشهود والعبودية ؟ والنظر إلى سريان آثارها في الخلق والأمر ، والعالم العلوي والسفلي ، والظاهر والباطن ، ودار الدنيا ودار الآخرة ؟ وقيامه بالفرق والجمع في ذلك علما ومعرفة وحالا ؟ ! والله المستعان .

قوله : ومراقبة الإخلاص من ورطة المراقبة .

يشير إلى فناء شهود المراقب عن نفسه وما منها . وأنه يفنى بمن يراقبه عن نفسه وما منها . فإذا كان باقيا بشهود مراقبته : فهو في ورطتها لم يتخلص منها ؛ لأن شهود المراقبة لا يكون إلا مع بقائه . والمقصود إنما هو الفناء والتخلص من نفسه ومن صفاتها وما منها .

وقد عرفت أن فوق هذا درجة أعلى منه وأرفع ، وأشرف . وهي مراقبة مواقع رضا الرب ، ومساخطه في كل حركة . والفناء عما يسخطه بما يحب ، والتفرق له وبه وفيه ، ناظرا إلى عين جمع العبودية ، فانيا عن مراده من ربه - مهما علا - بمراد ربه منه . والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية