الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
فصل

قوله : ولا مشاهدا لأحد . فيكون متزينا بالمراءاة .

هذا فيه تفصيل أيضا . وهو أن المشاهدة في العمل لغير الله نوعان .

مشاهدة تبعث عليه ، أو تقوي باعثه . فهذه مراءاة خالصة أو مشوبة . كما أن المشاهدة القاطعة عنه أيضا من الآفات والحجب .

ومشاهدة لا تبعث عليه ولا تعين الباعث . بل لا فرق عنده بين وجودها وعدمها . فهذه لا تدخله في التزين بالمراءاة . ولا سيما عند المصلحة الراجحة في هذه المشاهدة :

إما حفظا ورعاية ، كمشاهدة مريض ، أو مشرف على هلكة يخاف وقوعه فيها .

أو مشاهدة عدو يخاف هجومه كصلاة الخوف عند المواجهة .

أو مشاهدة ناظر إليك يريد أن يتعلم منك ، فتكون محسنا إليه بالتعليم ، وإلى نفسك بالإخلاص . أو قصدا منك للاقتداء ، وتعريف الجاهل .

فهذا رياء محمود . والله عند نية القلب وقصده .

فالرياء المذموم أن يكون الباعث قصد التعظيم والمدح ، والرغبة فيما عند من ترائيه ، أو الرهبة منه ، وأما ما ذكرناه - من قصد رعايته ، أو تعليمه ، أو إظهار السنة ، وملاحظة هجوم العدو ، ونحو ذلك - فليس في هذه المشاهد رياء ، بل قد يتصدق العبد رياء مثلا ، وتكون صدقته فوق صدقة صاحب السر .

مثال ذلك : رجل مضرور ، سأل قوما ما هو محتاج إليه . فعلم رجل منهم أنه إن أعطاه سرا ، حيث لا يراه أحد لم يقتد به أحد . ولم يحصل له سوى تلك العطية ، وأنه إن أعطاه جهرا اقتدي به واتبع ، وأنف الحاضرون من تفرده عنهم بالعطية . فجهر له بالعطاء . وكان الباعث له على الجهر إرادة سعة العطاء عليه من الحاضرين . فهذه مراءاة محمودة ؛ حيث لم يكن الباعث عليها قصد التعظيم والثناء . وصاحبها جدير بأن يحصل له مثل أجور أولئك المعطين .

قوله : فإن هذه الأوصاف كلها من شعب عبادة النفس .

يعني أن الخائف يشتغل بحفظ نفسه من العذاب . ففيه عبادة لنفسه ؛ إذ هو متوجه [ ص: 84 ] إليها . وطالب المثوبة متوجه إلى طلب حظ نفسه . وذلك شعبة من عبوديتها والمشاهد للناس في عبادته : فيه شعبة من عبودية نفسه ، إذ هو طالب لتعظيمهم ، وثنائهم ومدحهم . فهذه شعب من شعب عبودية النفس . والأصل الذي هذه الشعب فروعه هي النفس . فإذا ماتت بالمجاهدة ، والإقبال على الله ، والاشتغال به ، ودوام المراقبة له ماتت هذه الشعب .

فلا جرم أن بناء أمر هذه الطائفة على ترك عبادة النفس .

وقد علمت أن الخوف وطلب الثواب ليس من عبادة النفس في شيء .

نعم ، التزين بالمراءاة عين عبادة النفس . والكلام في أمر أرفع من هذا . فإن حال المرائي أخس ، ونفسه أسقط ، وهمته أدنى من أن يدخل في شأن الصادقين ويذكر مع الصالحين . والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية