الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين

ابن القيم - أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية

صفحة جزء
[ ص: 109 ] فصل

قال : الدرجة الثانية : استقامة الأحوال . وهي شهود الحقيقة لا كسبا . ورفض الدعوى لا علما . والبقاء مع نور اليقظة لا تحفظا .

يعني أن استقامة الحال بهذه الثلاثة .

أما شهود الحقيقة فالحقيقة حقيقتان : حقيقة كونية ، وحقيقة دينية ، يجمعهما حقيقة ثالثة ، وهي مصدرهما ومنشؤهما ، وغايتهما . وأكثر أرباب السلوك من المتأخرين : إنما يريدون بالحقيقة الحقيقة الكونية . وشهودها هو شهود تفرد الرب بالفعل . وأن ما سواه محل جريان أحكامه وأفعاله . فهو كالحفير الذي هو محل لجريان الماء حسب .

وعندهم أن شهود هذه الحقيقة والفناء فيها غاية السالكين .

ومنهم من يشهد حقيقة الأزلية والدوام ، وفناء الحادثات وطيها في ضمن بساط الأزلية والأبدية ، وتلاشيها في ذلك . فيشهدها معدومة ، ويشهد تفرد موجدها بالوجود الحق بالحق ، وأن وجود ما سواه رسوم وظلال .

فالأول : شهد تفرده بالأفعال . وهذا شهد تفرده بالوجود .

وصاحب الحقيقة الدينية في طور آخر . فإنه في مشهد الأمر والنهي ، والثواب والعقاب ، والموالاة والمعاداة ، والفرق بين ما يحبه الله ويرضاه ، وبين ما يبغضه ويسخطه . فهو في مقام الفرق الثاني الذي لا يحصل للعبد درجة الإسلام - فضلا عن مقام الإحسان - إلا به .

فالمعرض عنه صفحا لا نصيب له في الإسلام ألبتة ، وهو كالذي كان الجنيد يوصي به أصحابه ، فيقول : عليكم بالفرق الثاني . وإنما سمي ثانيا لأن الفرق الأول : فرق بالطبع والنفس . وهذا فرق بالأمر .

والجمع أيضا جمعان : جمع في فرق ، وهو جمع أهل الاستقامة والتوحيد . وجمع بلا فرق ، وهو جمع أهل الزندقة والإلحاد .

فالناس ثلاثة : صاحب فرق بلا جمع ، فهو مذموم ناقص مخذول .

وصاحب جمع بلا فرق . وهو جمع أهل الزندقة ، والإلحاد . فصاحبه ملحد زنديق .

[ ص: 110 ] وصاحب فرق وجمع . يشهد الفرق في الجمع ، والكثرة في الوحدة . فهو المستقيم الموحد الفارق . وهذا صاحب الحقيقة الثالثة ، الجامعة للحقيقتين الدينية والكونية . فشهود هذه الحقيقة الجامعة : هو عين الاستقامة .

وأما شهود الحقيقة الكونية ، أو الأزلية ، والفناء فيها : فأمر مشترك بين المؤمنين والكفار . فإن الكافر مقر بقدر الله وقضائه ، وأزليته وأبديته . فإذا استغرق في هذا الشهود وفني به عن سواه : فقد شهد الحقيقة .

وأما قوله : لا كسبا . أي يتحقق عند مشاهدة الحقيقة أن شهودها لم يكن بالكسب ؛ لأن الكسب من أعمال النفس . فالحقيقة لا تبدو مع بقاء النفس ؛ إذ الحقيقة فردانية أحدية نورانية . فلا بد من زوال ظلمة النفس ، ورؤية كسبها ، وإلا لم يشهد الحقيقة .

وأما رفض الدعوى لا علما ، فالدعوى نسبة الحال وغيره إلى نفسك وإنيتك . فالاستقامة لا تصح إلا بتركها ، سواء كانت حقا أو باطلا . فإن الدعوى الصادقة تطفئ نور المعرفة . فكيف بالكاذبة ؟

وأما قوله : لا علما ؛ أي لا يكون الحامل له على ترك الدعوى مجرد علمه بفساد الدعوى ، ومنافاتها للاستقامة . فإذا تركها يكون تركها لكون العلم قد نهى عنها . فيكون تاركا لها ظاهرا لا حقيقة ، أو تاركا لها لفظا ، قائما بها حالا ؛ لأنه يرى أنه قد قام بحق العلم في تركها . فيتركها تواضعا ، بل يتركها حالا وحقيقة . كما يترك من أحب شيئا تضره محبته حبه حالا وحقيقة . وإذا تحقق أنه ليس له من الأمر شيء - كما قال الله عز وجل لخير خلقه على الإطلاق : ( ليس لك من الأمر شيء ) - ترك الدعوى شهودا وحقيقة وحالا .

وأما البقاء مع نور اليقظة فهو الدوام في اليقظة ، وأن لا يطفئ نورها بظلمة الغفلة . بل يستديم يقظته . ويرى أنه في ذلك كالمجذوب المأخوذ عن نفسه ، حفظا من الله له . لا أن ذلك حصل بتحفظه واحترازه .

فهذه ثلاثة أمور : يقظة ، واستدامة لها ، وشهود أن ذلك بالحق سبحانه لا بك . فليس سبب بقائه في نور اليقظة بحفظه . بل بحفظ الله له .

وكأن الشيخ يشير إلى أن الاستقامة في هذه الدرجة لا تحصل بكسب . وإنما هو مجرد موهبة من الله . فإنه قال في الأولى " الاستقامة على الاجتهاد " وفي الثانية " استقامة [ ص: 111 ] الأحوال ، لا كسبا ولا تحفظا " .

ومنازعته في ذلك متوجهة . وأن ذلك مما يمكن تحصيله كسبا يتعاطى الأسباب التي تهجم بصاحبها على هذا المقام .

نعم ، الذي ينفى في هذا المقام : شهود الكسب ، وأن هذا حصل له بكسبه . فنفي الكسب شيء ونفي شهوده شيء آخر .

ولعل أن نشبع الكلام في هذا فيما يأتي إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية